النهار
حلَّ لبنان في المركز الثاني عالميا على مؤشر البنك الدولي لتضخم أسعار الغذاء بنسبة 240%، فيما جاءت زيمبابوي في المركز الأول بنسبة 353، وفنزويلا في المركز الثالث، وذلك في أحدث تقرير للبنك الدولي، لتُسارع نقابة مستوردي المواد الغذائية الى التوضيح بان تضخم أسعار السلع الغذائية في لبنان مردّه الى “انهيار العملة الوطنية التي فقدت أكثر من 95% من قيمتها، علما انها لا تزال في لبنان أرخص من السلع المماثلة في الدول المجاورة إذا جرى احتسابها على أساس الدولار”.
تتجه الانظار حاليا الى المرحلة الانتقالية على صعيد سعر الصرف الرسمي للدولار وتبعات أي تعديل لسعر الصرف على مستوى التضخم في حال لم يأتِ هذا الاجراء ضمن إطار كامل متكامل يلحظ إجراءات إستيعابية للمفاعيل التضخمية لأي خطوة غير محسوبة بطريقة صحيحة. فقد أوضح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أن لبنان سيطبق سعر صرف رسمياً جديداً يبلغ 15 ألف ليرة للدولار تدريجاً على ان يبدأ بالرسوم الجمركية وعلى البضائع المستوردة وعلى القيمة المضافة. أما الباقي، فسيتم تدريجا عبر تعاميم وقرارات تصدر عن حاكم مصرف لبنان تحدد هذا الموضوع لتشمل في ما بعد أصول البنوك وسداد قروض الإسكان والقروض الشخصية التي ستستمر على السعر الرسمي القديم، حيث سعى ميقاتي إلى إزالة اللبس الذي حصل الأربعاء الفائت مع إعلان وزير المال يوسف الخليل ان سعر 1507 ليرات سينتهي في الأول من تشرين الثاني، في إطار جهود الدولة لتوحيد العديد من أسعار الصرف التي ظهرت خلال الأزمة المالية.
الإرتفاع المُطّرد للأسعار ونِسب التضخم مستمر، مرة بحجة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية في السوق السوداء، ومرّة أخرى بحجة ارتفاع أسعار السلع والبضائع عالميًا. تحليل الواقع يُظهر أنه اضافة إلى هذين السببين، هناك أسباب أخرى يتحدّث عنها الباحث الاقتصادي البروفسور جاسم عجاقة، والتي تتمثّل برأيه “بعمليات التهريب عبر الحدود والمُقدّرة بنصف حجم الإستيراد، إلى الإحتكار الذي يمارسه التجار والتسعير العشوائي الناتج عن الاقتصاد النقدي. هذا الإرتفاع يمكن وصفه بـالإصطناعي في الأسعار وقد أدّى ويستمرّ في رفع التضخّم إلى مستويات عالية جدًا”، يصفها عجاقة “بمرض عُضال في جسم الاقتصاد حيث لن تتمكن السياسات الاقتصادية المستقبلية من التخلص من هذه المعضلة”. هنا، يتوجّب التذكير بأن مُحاربة التضخّم تتمّ من خلال السياسات النقدية عبر رفع أسعار الفائدة و/أو من خلال السياسات المالية للحكومات عبر خفض العجز في الموازنات من خلال خفض الإنفاق و/أو خفض الضرائب على كل ما يتعلق بالنشاط الاقتصادي. وهذان الشرطان غير متوافرين في حالة لبنان حيث تمّ تقييد السياسة النقدية بُعيد إعلان الدولة وقف دفع مستحقاتها من الديون. كما أن إقرار موازنة العام 2022 أظهر أن الضرائب إرتفعت ومعها النفقات مما يعني أنها موازنة تضخّمية.
العملة الوطنية هي أكثر من وسيلة تبادل في الاقتصاد. فدورها لا يقتصر على التبادل التجاري فقط، بل تتمتّع أيضًا بأبعاد استراتيجية كتعزيز الهوية الوطنية وإعطاء اللون السياسي للحكومات. ويتأثر الرأي العام بمستوى قوّة العملة الوطنية حيث إن توقعات دائمة بانخفاض العملة تثير الرأي العام تجاه السلطة السياسية وتؤدّي عادة ومنطقياً إلى خسارة الأحزاب الحاكمة في الانتخابات. ويعتبر عجاقة أن “قيمة العملة الوطنية تتأثر بعدد كبير من العوامل، منها ما هو اقتصادي مثل السياسة الاقتصادية للحكومة، ومنها ما هو سياسي مثل سياسة الحكومة الداخلية والخارجية، ومنها ما هو نقدي مثل السياسة النقدية، ومنها ما هو مالي مثل عجز الموازنة، ومنها ما هو قانوني مثل القوانين المرعية الإجراء. وبالتالي فان
ثمة بلدانا لجأت إلى حذف أصفار في عملاتها لتخطّي مُشكلة التضخّم كتركيا أو البرازيل وحتى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. إذًا ومع انهيار العملة اللبنانية، تُطرح العديد من الخيارات أمام الحكومة ومن بينها حذف أصفار من العملة، والذي إذا حصل سيكون سابقة في تاريخ الدولة اللبنانية”. عن هذا الموضوع يقول عجاقة “إن الهدف الأساسي من هذه العملية هو خلق صدمة نفسية إيجابية في الأسواق. وإذا كانت هذه الحجّة صحيحة، فإن الصدمة الإيجابية لا تتوافر إلا بشروط مُحدّدة. ويسمح حذف الأصفار من العملة، إذا ما تمّ بظروف ملائمة، بكسب صدقية دولية، وجذب استثمارات خارجية، والسيطرة على سوق القطع، وخفض الضغوط التضخّمية، وزيادة الثقة بالنظام السياسي الحاكم، وتعزيز الهوية الوطنية”. لكن فعّالية حذف الأصفار تبقى رهينة عدد من العوامل، بحسب عجاقة، “مثل الاستقرار الماكرو اقتصادي، وخفض التضخّم ثم ضبط الأسعار، واستقرار سعر صرف العملة الوطنية، ولجم الإنفاق الحكومي، والدعم الشعبي للحكومة في سياستها، والأهمّ الاندماج السلِس في الاقتصاد العالمي. وبالنتيجة فإن الدوّل التي قامت بحذف أصفار من عملتها من دون تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة ومفهومة من قِبل الشعب والأسواق، لم تُعطِ المفعول المرتقب فحسب، بل أدّت إلى تدهور العملة من جديد بعد فترة وجيزة وبشكل دراماتيكي. ونظرا إلى التجارب العالمية في هذا المجال، نرى أنه منذ العام 1960، اضطرت حكومات بلدان نامية في 71 حالة إلى إزالة عدد من الأصفار من عملاتها الوطنية. حتى أنه في السنوات الماضية، قامت 20 دولة بحذف أصفار من عملاتها الوطنية، منها 4 مرات في الأرجنتين، 5 مرات في يوغوسلافيا السابقة، 6 مرات في البرازيل، مرتان في بوليفيا، 3 مرات في كل من أوكرانيا، روسيا، بولندا وبلجيكا، ومرة في كل من تركيا، كوريا، وغانا. وآخر هذه العمليات هو حذف فنزويلا 6 أصفار من عملتها. وتبقى البرازيل البلد الأوّل في العالم من ناحية إزالة الأصفار، إذ إن عدد الأصفار التي قامت بإزالتها من عملتها هي 18 صفرًا! ومع ذلك لا تزال هذه البلدان تُعاني من التضخّم باستثناء حالة وحيدة هي حالة ألمانيا التي نجحت من خلال أداء صارم في السيطرة على التضخّم وتحويل إقتصادها إلى رابع اقتصاد في العالم”.
وعليه، فإن سلبيات حذف الأصفار قد تكون كارثية، بحسب عجاقة، كتأثير التضخم الناتج عن تدوير الأسعار، كلفة القائمة (Menu cost)، والتأثير النفسي للنقص في الأجور، وعودة الأصفار المحذوفة بعد فترة وجيزة، وتكاليف إعادة إصدار العملة الجديدة، ومشاكل في تحديد الأسعار على الأمد القصير، وتدهور العملة وظهور التضخم، فشل المشروع في حال عدم دعمه من قِبل المواطنين، وانخفاض الصادرات نتيجة ارتفاع قيمة العملة الوطنية وغيرها من العوامل.
وبالتالي يرى عجاقة أن “حذف أصفار من العملة اللبنانية، مثلًا عشرة آلاف ليرة لبنانية قديمة تُصبح مساوية لليرة جديدة (الأكثر إحتمالًا)، لن يكون فعالًا إلا إذا اقترن بخطّة اقتصادية واضحة وسياسات مكافحة التضخم وإجراءات تقشفية في الإنفاق العام والانتظام المالي للدولة، ومحاولة التخلّص من العجز الطويل الأمد في الموازنة، وضمان استقلالية المصرف المركزي، وإعادة رسملة البنوك، وإقفال المصارف التي تعاني من مشاكل حادّة، وإعادة هيكلة المؤسسات العامة… خطوات تأتي في سياق خطّة إصلاحية ضمن إطار التفاوض مع صندوق النقد الدولي وفي ظل إطار سياسي ثابت وواضح المعالم. وكل هذا غير مضمون في ظل الأداء السياسي الحالي. إذًا ومما تقدّم نرى أن عملية حذف الأصفار هي أشبه بمغامرة في ظل جو سياسي غير ثابت وتعرّض لبنان لعقوبات خارجية على بعض كياناته وغياب رؤية إقتصادية واضحة لدى المعنيين. وإذا كانت المؤشرات تُشير إلى مراهنة القوى السياسية على مداخيل النفط والغاز في المستقبل، إلا أن الأمور وحتى في حال تمّت بشكل سريع، تحتاج إلى خمس سنوات على أقل تقدير للبدء بتحصيل هذه المداخيل. وبالتالي فإن الدخول في هذه المغامرة قد تكون له عواقب وخيمة في المرحلة المقبلة خصوصًا في ظل الغموض الذي يلفّ الملف الرئاسي والمعطيات الإقليمية والدولية”.