عبده وازن – إنديبندنت عربيّة
كان اسم الروائية الفرنسية آني إرنو من بين الأسماء الحاضرة في “المراهنات” النوبلية التي تتم كل سنة، في الشهر الذي يسبق منح جائزة الأكاديمية السويدية. لكن اسم سلمان رشدي كان مطروحاً بقوة، بحجة تعرضه للاعتداء الذي نجا منه، وكذلك أسماء أخرى تتردد في اللائحة التي تمتد وتقصر، بحسب الظروف السياسية والجيو- سياسية الراهنة. لكن فوز إرنو كان شبه منتظر، رغم انها كروائية، بعيدة كل البعد من الأزمات التي تعصف حالياً في قلب العالم، وتحديداً في أوروبا وأميركا والصين وإيران، عطفاً على الحرب الروسية – الأوكرانية المفتوحة على خاتمات مجهولة تماماً. وربما أصابت لجنة تحكيم جائزة نوبل في بيانها عن اختيار إرنو عندما استندت إلى “ما أظهرت إرنو من شجاعة وبراعة في اكتشاف الجذور والأبعاد والقيود الجماعية للذاكرة الشخصية”. شاءت الأكاديمية السويدية أن تبتعد هذه السنة عن القضايا التي طالما اتكأت عليها، مثل الكولونيالية والعنصرية والصراع الاجتماعي والسلام والبعد الجيو سياسي وسواها من مقولات “جاهزة”، فاختارت “الذاكرة الشخصية” مبتعدة عن أي سجال قد يطرأ بحسب العادة. أما ما يعني القراء العرب فهو أن ثمان من روايات إرنو مترجمة إلى العربية، مما يجعلها حاضرة في المكتبة العربية، وقد كتبت عنها الصحافة الثقافية ورحبت بأعمالها.
استحقاق وجدارة
لحظة إعلامها بفوزها (أ ف ب)
هل تستحق أني إرنو هذه الجائزة؟ هذا السؤال طرحه بعض الصحافيين في العالم سريعاً، بعدما أعلن اسم الفائزة. سؤال غالباً ما يطرح، حتى لو كان الفائز اسماً كبيراً ويحظى بالإجماع. تستحق أني إرنو الجائزة. هذه روائية من طراز خاص جداً، عالمها يغوص في الذاكرة الفردية كي يخترق الذاكرة الجماعية، لبيئة ومنطقة ومدينة وأسرة وناس. كرست أني إرنو، رواية السيرة الذاتية كما لم يكرسها قبلها أحد، وفي الطريقة التي كرستها بها. سيرة ذاتية تنفتح على الشخصي والفردي والخاص مقدار انفتاحها على الجماعة والبيئة والعالم، من زاوية عين تبصر وتتأمل وتشارك وتفعل. وعندما أدرج اسم آني إرنو في اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العالمية عام 2019 عن روايتها البديعة “السنوات” بترجمتها الإنجليزية، اكتشفت الصحافة الإنجليزية والأميركية والعالمية فرادة التجربة التي تخوضها هذه الروائية الفرنسية الطالعة من الماضي الأليف، والحافرة في ثنايا هموم الحاضر، الإنسانية والاجتماعية.
أما سيرة أني إرنو ففي مختصرها أنها ولدت عام 1940 في بلدة ليلبون ونشأت في مدنية إيفيتو شمال فرنسا في منطقة نورماندي، وهي من عائلة تنتمي الى الطبقة المتوسطة جدا. كان والداها يمتلكان مقهى ومحل بقالة. وكان لها أن تتأثر بجو عائلتها المتواضعة وعالم العمال والمزارعين في المقاطعة الفرنسية الشمالية. درست إرنو في جامعة روان ثم في جامعة بوريكس، وتأهلت كمدرّسة، ونالت أعلى درجة في الأدب الحديث عام 1970.
استهلت إرنو مسيرتها الأدبية في إصدارها رواية “الخزائن الفارغة” عام 1974، وهي أقرب إلى السيرة الذاتية. وفي عام 1984، فازت بجائزة رينودو عن رواية “المكان” وهي أيضاً رواية أوتوبوغرافية وسير- ذاتية ، تركز على علاقتها بوالدها، ونشأتها في بلدة صغيرة شمال فرنسا، ثم انتقالها إلى مرحلة البلوغ والابتعاد عن موطن والديها الأصلي. وبدا واضحاً أن إرنو ابتعدت في مطلع مسيرتها الأدبية عن الخيال وصبت جل اهتمامها على السيرة الذاتية، مما جعل رواياتها تجمع بين التجارب الشخصية والجماعية. ثم توالت رواياتها ومنها: “ما يقولونه أو لا شيء” (1977)، و”المراة المجمدة” (1977)، و”الساحة” (1983)، و”امرأة” (1978)، و”العار” (1997)، و”الحدث” (2000)، و”الاحتلال” (2002)، و”السنوات” (2008)، و”الفتاة الأخرى” (2011)، و”الشاب” وهي أحدث رواية لها صدرت هذا العام.
من رواياتها (دار غاليمار)
تستوحي اني إرنو معظم رواياتها ومواقفها ورؤاها من تجاربها الشخصية والذاتية، فتعمد إلى سردها بتفاصيلها وأبعادها من زاوية السرد الأوتوبيوغرافي، على أن تبقى مرتبطة بالحياة المعيشة. فهي لم يرقها التخييل الأوتوبيوغرافي أو ما يسمى “أسطرة” السيرة الذاتية لتخلق سيرة ذاتية موازية متخيلة ولا علاقة لها بالسيرة الحقيقية. وفي هذا القبيل تبدو إرنو ملتزمة بما يسمه الناقد الفرنسي الشهير فيليب لوجون “ميثاق السيرة الذاتية”. وبدءاً من عام 1982 راحت إرنو تبتعد شيئاً فشيئاً عن السرد الروائي الصرف الذي نشأت عليه ودرسته ودرسته وتاثرت بأربابه من فرنسيين وعالميين، وركزت كتابتها حول المادة الأوتوبيوغرافية مستعيدة طفولتها وماضيها كما ماضي أسرتها والبيئة والبلدة أو المقاطعة التي نشأت فيها وهي النورماندي. ولعل رواية “المكان” الصادرة في 1983 تمثل نقطة تحول في مسارها، فهي تعتمد فيها أسلوباً محايداً أو”بارداً” و”مينيمالياً” متعلقاً بالوقائع والأحداث. وقد وصف بعض النقاد أسلوبها هذا بـ”الأسلوب الأبيض”.
الزمني والشخصي
تجمع روايات إرنو بين البعد الزمني الجماعي والشخصي إن أمكن القول والتجربة الذاتية، وتقدم معظم هذه الروايات وقائع اجتماعية وبيئية وعائلية وذاتية، مثل حركة الصعود الاجتماعي الذي تشهده الأسرة أو الوالدان، والزواج، والحياة الجنسية، والعلاقات العاطفية الرومانطيقية، والإجهاض، والبيئة، ومرض الزهايمر الذي أصيبت به الوالدة، ووفاة الأم، ومرض سرطان الثدي… إنها في الغالب مواضيع أو “ثيمات” لا تتعدى البيئة القريبة والحياة الجماعية المتمثلة بالأسرة والعيش الشخصي. في هذا السياق أمكن وصف الصنيع الروائي لدى إرنو بالسير – ذاتي أو الأوتوبيوغرافي الخاص والعام، أي غير المنغلق ضمن تخوم “الأنا” أو الذت الفردية.
رواية “المرأة المجمدة” (دار غاليمار)
يوصف الفن السردي لدى آني إرنو بـ”الكتابة المحايدة” التي تخرج عن أي تحديد مسبق أو بحسب المفهوم النقدي، “من دون حكم، ولا استعارة، ولا مقارنة رومانسية”. وويتميز أسلوبها في كونه “أسلوباً موضوعياً”، لا يضخم الحقائق التي يتم سردها في الرواية ولا يقلل منها، في وقت واحد. بالتالي فهو يسعى إلى البقاء على توافق مع الوقائع والحقائق التاريخية التي يقدمها سرداً.
ترى آني إرنو أن لا شيء شعرياً أو أدبياً يوجد أو يقوم في حد ذاته، والكتابة في نظرها مدفوعة بالرغبة في زعزعة التدرجات الأدبية والاجتماعية، من خلال اعتماد طريقة تتطابق مع الأشياء التي تعتبر غير جديرة بالأدب. فعلى سبيل المثال يمكن أن تدخل أشياء وأمور عادية جداً في قلب السرد الروائي مثل محلات السوبر ماركت، أو المترو أو المشي على الأرصفة. وقبالة هذه الأشياء والأمور تبرز قضايا كبيرة ونبيلة مثل الذاكرة وما تختزن، أو الوقت أوالزمن والإحساس بهما والمشاعر العابرة. ولا تخفي إرنو أنها حاولت الكتابة عن عالم العمال والفلاحين في مقاطعة النورماندي، التي عاشت فيها حتى سن الـ18 وعشقتها وتأثرت بها، وتقول “ما يهمني هو العثور على الكلمات التي اعتقدت أنني كنت أفكر عبرها بالعالم من حولي”. تقدم الجملة الأخيرة من رواية “السنوات” ما يشبه مختصراً لصنيع إرنو وطموحاتها، وتمثل أيضاً سمة موجزة للعبتها الأسلوبية، “وفر شيئاً من الوقت الذي لن نكون فيه مرة أخرى أبداً، وأحفظ كل الصور التي ستختفي”.
الخلفية الإجتماعية
لا يبتعد السرد لدى آني إرنو بتاتاً عن النهج أو البعد الاجتماعي الذي يتجلى في محاولة إيجاد ذاكرة للذاكرة الجماعية في ذاكرة فردية. ومن خلال محاولة الهرب من “فخ الفردانية”، يعيد سرد إرنو تعريف السيرة الذاتية، الذي يظل المعطى “الحميمي” بموجبه، اجتماعياً دائماً. فالذات الصرفة أو النقية، لا توجد حيث لا يوجد الآخرون، ولا توجد القوانين، والتاريخ. فالذات وجه من وجوه الجماعة كما الجماعة وجه من وجوه الذات.
رواية لها بالعربية (دار الجمل)
هكذا تتبنى آني إرنو مقاربة موضوعية مستعارة من علم الاجتماع، وتعتبر نفسها قبل كل شيء “مجموع” تجربة معيشة تغذيها المراجع والخصائص الجماعي “أعتبر نفسي قليلاً جداً ككائن فردي، بمعنى فردي تماماً، ولكن كمجموع من الخبرة، من التحديدات أيضاً، الاجتماعية والتاريخية والجنسية واللغات، وفي حوار مستمر مع العالم، الماضي والحاضر. الكل يشكل، نعم، وبالضرورة، ذاتية فريدة. لكني أستخدم ذاتيتي للبحث عن آليات أو ظواهر جماعية أكثر عمومية”. ولعل هذا النهج الاجتماعي يجعل من الممكن توسيع دائرة السيرة الذاتية التقليدية المرتبطة بالـ”أنا”، فيبدو للروائية أن الـ”أنا” الذي تعتمده، شكل غير شخصي، بل بالكاد يميز بين الجنسين، حتى ليغدو “آخر”.
تتمتع آني إرنو بترحاب نقدي إيجابي في العالم الأكاديمي، كما يتضح من العدد الكبير من الأطروحات والدراسات التي تدور حول رواياتها، لكن الصحافة الأدبية لا تتورع عن إبداء آراء نقدية إزاء بعض أعمالها. في بعض الأحيان ينظر إلى أدبها على أنه “بائس” و”رفيع المستوى”.
في عام 2019 أدرجت رواية “السنوات” لآني إرنو في قائمة “البوكر” العالمية 2019 بترجمتها الإنجليزية، مما جعل الأنظار تتجه إليها، خصوصاً بعد ترجمة أعمال لها إلى الانجليزية وسواها. قد تكون هذه الرواية من أبرز أعمال إرنو السردية ومن أبرز الروايات العالمية الحديثة. وهي تصف أسلوبها المعتمد في “السنوات” بالتلقائي والبسيط والبعيدة عن التصنع. تعتمد إرنو في هذه الرواية لعبة التوازي السردي/ الصوري، فتقدم مجموعة حكايات انطلاقاً من 12 صورة فوتوغرافية تمثل محطات متتالية في حياتها الفردية والعامة، منذ المراهقة حتى ما بعد التقاعد. تشرع الروائية في سرد التفاصيل التي “تخلدها” هذه الصور، التي تشمل تحولات العمر والملابس والمظهر الخارجي وأمكنة التقاط الصور… ترافق الساردة الصور واحدة تلو الأخرى، وتستعيد وقائع أمست ذكريات، لكنها تظل بمثابة حكايات تروى بمتعة ولذة.. في هذه الرواية البديعة تتوحد السيرة الفردية والجماعية، الوعي واللاوعي، الحنين والأسى. وترى إرنو أن كل الروايات التي كتبتها تمثل محاولات كان لا بد لها من أن تؤدي إلى رواية “السنوات”.
Follow Us: