الأحد, نوفمبر 24
Banner

الجمهورية: لبنان يترقب أربعاء مؤتمر باريس والترسيم

يبدو التدقيق الجنائي في القاموس السياسي كأنّه العصا السحرية ‏التي ستحلّ المشاكل. لكن التراكمات التي يشهدها البلد حالياً، تُنذر ‏بالوصول الى أمكنة قاتمة، حيث التعتير الحقيقي الذي لم يتعرّف ‏اللبناني عليه بعد.‏

يطيب لأحد المستثمرين في القطاع السياحي، في معرض وصفه ‏للوضع الحالي، أن يروي قصة ذلك الرجل الذي عجز عن تحصيل دينٍ ‏له في ذمّة رجل آخر، ووافق في النتيجة أن يأخذ كتعويضٍ عن الدين ‏إحدى ساعتين يملكهما المقترض المتعثّر. ولكي يختار أية ساعة هي ‏الأفضل، قصد احد الاخصائيين، وروى له قصته وأعطاه الساعتين ‏ليفحصهما له. فتح الأخصائي الساعة الاولى، فحصها ثم نظر الى ‏الرجل قائلاً: خُذ الساعة الأخرى. ذُهل الرجل وقال: لكنك لم تفحص ‏الساعة الأخرى بعد. أجابه الاخصائي: لا يوجد ما هو اسوأ من الساعة ‏التي فحصتها، لذلك نصحتك بالساعة الأخرى من دون أن أفحصها.‏

‏ ‏ويخلُص المستثمر الى الاستنتاج، بعد سرد الرواية، أنّ من “يفحصنا” ‏اليوم، سيكتشف انّه لا يمكن ان نصل الى وضع اسوأ، لأنّه لا يوجد ما ‏هو اسوأ…‏

‏ ‏رغم سوداوية الرواية، فإنّها لا تعبّر عن الواقع، لأنّ ما هو اسوأ موجود ‏فعلاً، وكلما أوغلنا في الاستسلام، كلما تعرّفنا على الاسوأ الذي ‏ينتظرنا، والذي يكمن اليوم في الاستمرار بالنهج القائم المُستند الى ‏فكرة “تسير والرب راعيها”.‏

‏ ‏وفيما تتبارى القوى السياسية في إظهار حماستها للتدقيق الجنائي ‏في كل وزارات ومؤسسات وادارات وصناديق ومجالس الدولة، في ‏معرض التأكيد على براءتها من تهمة الفساد وسرقة المال العام، ‏يمضي الوضع المالي والاقتصادي نحو المزيد من التعقيدات. ‏وسيواجه اللبناني ظروفاً أقسى من الظروف الحالية، وفق الحقائق ‏والمؤشرات التالية:‏

‏ ‏اولاً- لم ولن تتوصّل المنظومة الحاكمة الى حلّ يعالج مسألة وقف ‏استنزاف ما تبقّى من احتياطي العملات في مصرف لبنان. والمشكلة ‏هنا، انّ البعض يدّعي أنّ الدفاع عن فكرة عدم المسّ بالاحتياطي ‏الالزامي هو دفاع عن كبار المودعين في وجه الفقراء المحتاجين الى ‏الدعم لتأمين لقمة العيش وتحاشي المجاعة. في حين انّ تبذير ‏الاحتياطي سيكون بمثابة الضربة القاضية على الطبقة الوسطى ‏والفقراء، وسيضع حداً لأي أملٍ في المستقبل، بما يعني نقل البلد الى ‏مكان آخر، لا يشبه، ولا علاقة له بلبنان الذي نعرفه. وبالتالي، فإنّ ‏الحرص على الاحتياطي هو من باب الحرص على الاحتفاظ بالذخيرة ‏الضرورية للإقلاع مجدداً، بدلاً من الغوص الى أعماق فارغة يصبح ‏معها الخروج شبه مستحيل، أو يحتاج الى عقود من الزمن، وليس الى ‏سنوات.‏

‏ ‏ثانياً- يتهاوى القطاع الخاص تباعاً، والمؤسسات تسقط الواحدة تلو ‏الأخرى. وسيستمر هذا المسلسل طالما انّ المنظومة الحاكمة لم ‏تحسم مسألة تشكيل “حكومة مهمّة”، والبدء في تنفيذ خطة إنقاذ ‏بالتعاون مع المجتمع الدولي. هذا السقوط المدوي للمؤسسات يُراكم ‏أمرين: عاطلون جدد من العمل، ينضمون تباعاً الى من سبقهم منذ ‏سنة حتى اليوم. وقروض قائمة ستنضمّ الى لائحة القروض الهالكة. ‏وللتذكير، فإنّ حوالى 30% من محفظة القروض المصرفية تعود الى ‏الافراد (حوالى 19 مليار دولار)، بما يعني انّ سقوط المؤسسات ‏وارتفاع حجم البطالة سيؤدّيان الى ديون اضافية هالكة، والى خسائر ‏متراكمة في المصارف. مع الاشارة الى انّ هذا النوع من القروض ‏‏(الافراد) يتمّ تسديده بالليرة وفق السعر الرسمي، وقسم كبير من ‏الضمانات يرتبط براتب المقترض ليس إلّا، بما يعني انتفاء امكانية ‏التعويض من خلال الضمانات.‏

‏ ‏ثالثاً- لطالما كان سوق الخليج المدى الحيوي للاقتصاد اللبناني. وفي ‏الاحصاءات غير الرسمية المتوفرة، انّ بين 15 الى 20% من القوى ‏العاملة اللبنانية تتواجد في الخليج، أو تستفيد منه في أعمالها. هذه ‏النسبة لا توجد في أي دولة عربية أخرى، وهي تعطي لبنان امتيازاً ‏اقتصادياً استثمره بقوة، سواء قبل الحرب في العام 1975، أو خلالها، أو ‏بعد الطائف وبدء مرحلة جديدة في العام 1990. في كل المراحل، كان ‏الخليج بمثابة الحديقة الخلفية للاقتصاد الوطني. ومن دونه، لما عرف ‏لبنان حقبات ازدهار جعلت معدل الدخل الفردي فيه الأعلى بين كل ‏الدول العربية غير النفطية. وهكذا كان لبنان الطفل المُدلّل للدول ‏الخليجية النفطية. هذا الواقع بدأ يتغيّر تباعاً مع السيطرة على القرار ‏اللبناني، وإلحاق البلد عنوةً بالمحور الايراني. وفي التقديرات، انّ ‏حوالى 3 الى 4 مليارات دولار دخلت الى لبنان في خلال العام 2020، ‏من القوى اللبنانية العاملة في الخليج. هذا الرقم يعطي فكرة لماذا لا ‏تزال أسعار الدولار في السوق السوداء “مقبولة”، لأنّه من دون هذا ‏الضخ لكان انهيار سعر صرف الليرة أكبر وأسرع بكثير.‏

‏ ‏لا شك في أن تجميد، أو التأنّي في منح تأشيرات للبنانيين الى دول ‏الخليج سيكون بمثابة “رصاصة الرحمة”، خصوصاً اذا واكبتها وقائع ‏أدّت الى عودة بعض اللبنانيين العاملين في الخليج حالياً، سواء بفعل ‏الظروف الاقتصادية القائمة هناك بسبب تداعيات كورونا، وتراجُع ‏أسعار النفط، الأمر الذي أدّى الى تقلّص حجم سوق العمل الخليجي ‏عموماً، أو لأسباب سياسية ترتبط بالإجراءات التي تتخذها بعض هذه ‏البلدان لضمان عدم وجود عناصر غير مُطمئنة أمنياً.‏

‏ ‏بالاضافة الى ذلك، يُشكّل الخليج السوق الأول للصادرات اللبنانية، ‏واذا فقدنا هذا السوق سيتلقّى اقتصادنا المنتج ضربة قاسية أيضاً.‏

‏ ‏الوقت هو العملة النادرة التي لا نملكها، اذا أهدرناه أكثر، لن ينفعنا لا ‏تدقيق جنائي في مصرف لبنان، ولا تدقيق جنائي في كل ادارات ‏الدولة، لأنّ الثقب الاسود الذي نتّجه نحوه بسرعة سيبتلعنا ولن يلفظنا ‏سوى مجرد عظام.

Leave A Reply