يبدو التدقيق الجنائي في القاموس السياسي كأنّه العصا السحرية التي ستحلّ المشاكل. لكن التراكمات التي يشهدها البلد حالياً، تُنذر بالوصول الى أمكنة قاتمة، حيث التعتير الحقيقي الذي لم يتعرّف اللبناني عليه بعد.
يطيب لأحد المستثمرين في القطاع السياحي، في معرض وصفه للوضع الحالي، أن يروي قصة ذلك الرجل الذي عجز عن تحصيل دينٍ له في ذمّة رجل آخر، ووافق في النتيجة أن يأخذ كتعويضٍ عن الدين إحدى ساعتين يملكهما المقترض المتعثّر. ولكي يختار أية ساعة هي الأفضل، قصد احد الاخصائيين، وروى له قصته وأعطاه الساعتين ليفحصهما له. فتح الأخصائي الساعة الاولى، فحصها ثم نظر الى الرجل قائلاً: خُذ الساعة الأخرى. ذُهل الرجل وقال: لكنك لم تفحص الساعة الأخرى بعد. أجابه الاخصائي: لا يوجد ما هو اسوأ من الساعة التي فحصتها، لذلك نصحتك بالساعة الأخرى من دون أن أفحصها.
ويخلُص المستثمر الى الاستنتاج، بعد سرد الرواية، أنّ من “يفحصنا” اليوم، سيكتشف انّه لا يمكن ان نصل الى وضع اسوأ، لأنّه لا يوجد ما هو اسوأ…
رغم سوداوية الرواية، فإنّها لا تعبّر عن الواقع، لأنّ ما هو اسوأ موجود فعلاً، وكلما أوغلنا في الاستسلام، كلما تعرّفنا على الاسوأ الذي ينتظرنا، والذي يكمن اليوم في الاستمرار بالنهج القائم المُستند الى فكرة “تسير والرب راعيها”.
وفيما تتبارى القوى السياسية في إظهار حماستها للتدقيق الجنائي في كل وزارات ومؤسسات وادارات وصناديق ومجالس الدولة، في معرض التأكيد على براءتها من تهمة الفساد وسرقة المال العام، يمضي الوضع المالي والاقتصادي نحو المزيد من التعقيدات. وسيواجه اللبناني ظروفاً أقسى من الظروف الحالية، وفق الحقائق والمؤشرات التالية:
اولاً- لم ولن تتوصّل المنظومة الحاكمة الى حلّ يعالج مسألة وقف استنزاف ما تبقّى من احتياطي العملات في مصرف لبنان. والمشكلة هنا، انّ البعض يدّعي أنّ الدفاع عن فكرة عدم المسّ بالاحتياطي الالزامي هو دفاع عن كبار المودعين في وجه الفقراء المحتاجين الى الدعم لتأمين لقمة العيش وتحاشي المجاعة. في حين انّ تبذير الاحتياطي سيكون بمثابة الضربة القاضية على الطبقة الوسطى والفقراء، وسيضع حداً لأي أملٍ في المستقبل، بما يعني نقل البلد الى مكان آخر، لا يشبه، ولا علاقة له بلبنان الذي نعرفه. وبالتالي، فإنّ الحرص على الاحتياطي هو من باب الحرص على الاحتفاظ بالذخيرة الضرورية للإقلاع مجدداً، بدلاً من الغوص الى أعماق فارغة يصبح معها الخروج شبه مستحيل، أو يحتاج الى عقود من الزمن، وليس الى سنوات.
ثانياً- يتهاوى القطاع الخاص تباعاً، والمؤسسات تسقط الواحدة تلو الأخرى. وسيستمر هذا المسلسل طالما انّ المنظومة الحاكمة لم تحسم مسألة تشكيل “حكومة مهمّة”، والبدء في تنفيذ خطة إنقاذ بالتعاون مع المجتمع الدولي. هذا السقوط المدوي للمؤسسات يُراكم أمرين: عاطلون جدد من العمل، ينضمون تباعاً الى من سبقهم منذ سنة حتى اليوم. وقروض قائمة ستنضمّ الى لائحة القروض الهالكة. وللتذكير، فإنّ حوالى 30% من محفظة القروض المصرفية تعود الى الافراد (حوالى 19 مليار دولار)، بما يعني انّ سقوط المؤسسات وارتفاع حجم البطالة سيؤدّيان الى ديون اضافية هالكة، والى خسائر متراكمة في المصارف. مع الاشارة الى انّ هذا النوع من القروض (الافراد) يتمّ تسديده بالليرة وفق السعر الرسمي، وقسم كبير من الضمانات يرتبط براتب المقترض ليس إلّا، بما يعني انتفاء امكانية التعويض من خلال الضمانات.
ثالثاً- لطالما كان سوق الخليج المدى الحيوي للاقتصاد اللبناني. وفي الاحصاءات غير الرسمية المتوفرة، انّ بين 15 الى 20% من القوى العاملة اللبنانية تتواجد في الخليج، أو تستفيد منه في أعمالها. هذه النسبة لا توجد في أي دولة عربية أخرى، وهي تعطي لبنان امتيازاً اقتصادياً استثمره بقوة، سواء قبل الحرب في العام 1975، أو خلالها، أو بعد الطائف وبدء مرحلة جديدة في العام 1990. في كل المراحل، كان الخليج بمثابة الحديقة الخلفية للاقتصاد الوطني. ومن دونه، لما عرف لبنان حقبات ازدهار جعلت معدل الدخل الفردي فيه الأعلى بين كل الدول العربية غير النفطية. وهكذا كان لبنان الطفل المُدلّل للدول الخليجية النفطية. هذا الواقع بدأ يتغيّر تباعاً مع السيطرة على القرار اللبناني، وإلحاق البلد عنوةً بالمحور الايراني. وفي التقديرات، انّ حوالى 3 الى 4 مليارات دولار دخلت الى لبنان في خلال العام 2020، من القوى اللبنانية العاملة في الخليج. هذا الرقم يعطي فكرة لماذا لا تزال أسعار الدولار في السوق السوداء “مقبولة”، لأنّه من دون هذا الضخ لكان انهيار سعر صرف الليرة أكبر وأسرع بكثير.
لا شك في أن تجميد، أو التأنّي في منح تأشيرات للبنانيين الى دول الخليج سيكون بمثابة “رصاصة الرحمة”، خصوصاً اذا واكبتها وقائع أدّت الى عودة بعض اللبنانيين العاملين في الخليج حالياً، سواء بفعل الظروف الاقتصادية القائمة هناك بسبب تداعيات كورونا، وتراجُع أسعار النفط، الأمر الذي أدّى الى تقلّص حجم سوق العمل الخليجي عموماً، أو لأسباب سياسية ترتبط بالإجراءات التي تتخذها بعض هذه البلدان لضمان عدم وجود عناصر غير مُطمئنة أمنياً.
بالاضافة الى ذلك، يُشكّل الخليج السوق الأول للصادرات اللبنانية، واذا فقدنا هذا السوق سيتلقّى اقتصادنا المنتج ضربة قاسية أيضاً.
الوقت هو العملة النادرة التي لا نملكها، اذا أهدرناه أكثر، لن ينفعنا لا تدقيق جنائي في مصرف لبنان، ولا تدقيق جنائي في كل ادارات الدولة، لأنّ الثقب الاسود الذي نتّجه نحوه بسرعة سيبتلعنا ولن يلفظنا سوى مجرد عظام.