الجمعة, نوفمبر 29
Banner

اللبنانيون والمال قصة غرام وانتقام

حسان الزين – اندبندنت

قصة اللبنانيين والمال قديمة، فالبعض يبدأها من أيام الفينيقيين الذين كانوا وفق أمين الريحاني “ماديين عمليين حسابيين” (قلب لبنان)، لكن ما يعنينا هو الفصل الحديث الذي يتضمن الاقتصادي والإنساني، المادي- العملي- الحسابي والدرامي، في آن معاً مثل أي أمر في هذه الدنيا، وليس كما تزعم الدعاية بأن اللبنانيين يعرفون كيف يجذبون المال ويعيشون نعمه. فلهذه المقولة الإيجابية الأحادية وجه آخر سلبي، وخلفها دراما طويلة عريضة. وإن أخفى السياسيون وأيديولوجياتهم وغاياتهم هذه الدراما الإنسانية فإن التاريخ والأدب كتبا وحفظا أحداثاً ووقائع وقصصاً وأسماء كثيرة منها. والأقوى من هذا وذاك الواقع الذي لطالما صرخ بأوجاع التفاوت بين اللبنانيين وبمأساة سلطة المقاطعجيين و”البكوات” وأزماتهم وحروبهم، وصولاً إلى فاجعة سلطة زعماء الميليشيات وأصحاب المال وحروبهم وسلامهم… وها هو اليوم يصرح بأن 80 في المئة من اللبنانيين يرزحون تحت خط الفقر، جراء انهيار مالي وصفه البنك الدولي بـ”واحد من أسوأ ثلاثة انهيارات مالية في العصر الحديث”، مرجحاً أن يكون “متعمداً” من قوى السلطة ونتيجة نموذج اقتصادي اعتمد لثلاثة عقود ويرقى إلى المخطط الاحتيالي (بونزي).

الصدمة

تقول كتب التاريخ والأدب، إن وصول الرأسمالية إلى لبنان عبر مرفأ بيروت مع ثورة النقل البحري في العقود الأولى من القرن الـ19، قد أحدث صدمة مالية للبنانيين أضيفت إلى تعقيدات أحوالهم الاجتماعية والسياسية القاسية.

فخلال سنوات معدودة من “المبادرة الأوروبية”، وفق دومينيك شوفالييه، التي “أحيت نمطاً جديداً من التبادل على تلك الشواطئ”، حدث نزيف نقدي خطير. لقد سحب التجار الأوروبيون، في الثلاثينيات والأربعينيات، العملات والمعادن الثمينة من لبنان، وسوريا عموماً، إذ لم يبادلوا البضائع التي حملوها معهم من بلادهم في السفن البخارية الجديدة آنذاك بمنتجات أخرى، إنما استحوذوا على المال والمعادن الثمينة وشحنوها.

يكتب شوفالييه “في برقية بتاريخ 6 سبتمبر (أيلول) 1833، وصف هنري غي قنصل فرنسا في بيروت، خروج المعادن الثمينة على الوجه الآتي: إن منتجات سوريا، باستثناء الحرير، قليلة إلى درجة أنها لا تلبي أكثر من ثلاث أو أربع شحنات إلى أوروبا. أما ثمن الحرير فهو مرتفع إلى حد لا يسمح بإدراجه ضمن سلع الاستيراد المرغوبة، لذا تؤثر عليه المواد الذهبية والفضية والعملات التركية القديمة مما يدفع البلاد إلى حالة من الفقر المتزايد… إن التجار الإنجليز منزعجون بقدر انزعاج تجارنا والتجار عامة، من الندرة الشديدة في السلع المخرجة، لذا ينكفئون على النقود، وبينما هم يفقرون البلاد بتصرفهم هذا فإنهم يحكمون على أنفسهم بخسارة كان بإمكانهم تفاديها لو استخدموا أموالهم في شراء البضائع التي قد ينتفعون بتصديرها من هذا البلد”.

وبعد أن يروي شوفالييه كيف يصدر التجار الأوروبيون النقود والمعادن الثمينة، لغايات عدة منها تمويل مشاريعهم وتلبية حاجات المصارف في بلادهم إضافة إلى المضاربة بالعملات لا سيما في الإسكندرية، ينقل ملاحظة القنصل العام بروسبير بوريه في شأن “نفاد المعادن من سوريا”. ويضيف أن “هذا الوضع قد أنهك البلاد إلى حد يكفي لكي تنفد جميع العملات الفضية والذهبية التي تساوي قيمتها الأصلية قيمتها الاسمية تقريباً. وما تبقى من العملات تختلف قيمته الأصلية عن سعره المعلن، ولا يتم تصديره لهذا السبب. وفي كل الأحوال، فإن النقود المتبقية تحمل كلها أثراً راسخاً يدل على أصلها إذ إنها مثقوبة مما يعني أن مصدرها العقود والحلى النسائية الأخرى التي اضطر أصحابها إلى التخلص منها. إنها الحلى التي حولها البؤس إلى نقود فأعادها بذلك إلى استعمالها الأول”.

ليس شوفالييه الذي يؤرخ لـ”مجتمع جبل لبنان في عصر الثورة الصناعية في أوروبا” وحده من يروي الصدمة المالية والإفقار والانعكاسات السلبية لمنافسة البضائع الأجنبية على الصناعات والحرف المحلية وما أنتجته من تحولات اقتصادية واجتماعية، إضافة إلى البؤس واضطرار الأسر إلى بيع ما ادخرته على مدى سنوات وأجيال لكي تحصل على المتطلبات الأولية للحياة والعيش.

تقول كتب التاريخ والأدب إن وصول الرأسمالية إلى لبنان عبر مرفأ بيروت في القرن الـ19 قد أحدث صدمة مالية للبنانيين (ويكيبيديا)

تحالف الشيخ والتاجر

يكتب وجيه كوثراني “كانت الأقمشة الفرنسية والإنجليزية تزاحم بسهولة الإنتاج المحلي في الجبل. فلم يكن من أصحاب الحرف المحلية التي كان يملكها في معظم الأحيان شيوخ العائلات المقاطعجية إلا أن يقفلوا أبوابها ويتحولوا إلى بائعي شرانق. أما النسيج المنزلي الذي كانت تقوم به عادة عائلة الفلاح- المرابع فقد تقلص كثيراً بسبب اضطرار الفلاح إلى أن يوجه اهتمامه واهتمام أفراد عائلته أيضاً نحو تحسين تربية دود القز، ثم إن مبيع الشرانق على الرغم من ازدياد الطلب، لم يكن ليمنع الانهيار المالي في الجبل، ذلك أن تجار بيروت لعبوا الدور الوسيط بين المنتجين من جهة (الشيخ والفلاح) والمستوردين وأصحاب الحلالات الحديثة من جهة ثانية وقفوا سداً في وجه احتمالات الربح التي يمكن أن تنتج عن عملية رفع الأسعار. وهؤلاء التجار الذين ربحوا ثروات كبيرة بفضل الدور التجاري الذي أخذ يلعبه مرفأ بيروت منذ بداية القرن الـ19، ربطوا اقتصاد الجبل بشبكة مالية حيث شكلت رؤوس أموالهم المدعومة برؤوس الأموال الأوروبية الحلقة الرئيسة فيها محلياً. ويحثنا هنري غي عن التشجيع الأوروبي لهؤلاء التجار ودورهم في الوساطة والهيمنة المالية محلياً فيقول، إن القروض التي تقدمها تجارة أوروبا للمرابي المحلي هي التي تجعله يعمل في هذا المجال. فهو يعتبرها مصرفاً يستطيع أن يقترض منه كل ما يحتاج إليه من مال… إن القروض التي يقدمها تجار أوروبا له هي بفائدة 6 في المئة، بينما سعر الفائدة في سوريا، عند أهل البلاد هي 20 في المئة، والدائنون بفائدة 36 و40 في المئة”.

يضيف كوثراني “هكذا ارتبط الشيخ والفلاح معاً بالتاجر والمرابي في المدينة. فمن جهة كان المشايخ مدفوعين بحاجاتهم الاستهلاكية الكمالية التي يحتمها موقعهم الاجتماعي وضرورة تثبيت هذا الموقع، والفلاح من جهة ثانية مضطر إلى أن يستجيب لحاجاته المعيشية الضرورية التي لم يعد يستطيع أن يلبيها كما كانت الحال في السابق في إطار اقتصاد القرية. فكان التاجر- المرابي في المدينة هو الملجأ بالنسبة إلى الطرفين، إذ وجد المشايخ والفلاحون في المرابين خير ملب لطلباتهم. فهؤلاء المرابون استفادوا من مجمل الوضع، فقدموا لأهالي الجبل أمراء وفلاحين، خاصة وعامة، كما يقول هنري غي، قروضاً بفائدة كبيرة على محاصيل الحرير أو أسلفوهم بضائع بأسعار مرتفعة جداً. إن الشيخ والفلاح وقعا معاً في علاقة تبعية جديدة: التبعية لرأس المال الأجنبي الذي يمثله التاجر في المدينة. لم تعد التبعية للأمير الكبير أو الوالي هي القاعدة الأساسية بعد أن زالت الإمارة، وبدأت الدولة العثمانية تحاول ضبط أمور الجباية عن طريق موظفين. لقد أصبح التاجر الآن هو الذي يملي طلباته على الشيخ. فلم يكن أمام هذا الأخير سوى طريق التحالف مع التاجر والتشبث بأملاكه، وممارسة مزيد من سياسة تكبيل الفلاح- المرابع، واستنزاف قوة عمله وقهره اجتماعياً. والتاجر من جهة وجد في موقع الشيخ كمقاطعجي وسيلة للضغط على الفلاحين في سبيل تحصيل ديونه” (الاتجاهات الاجتماعية- السياسية في جبل لبنان والمشرق العربي 1860- 1920).

فوضى مالية

ويروي غسان العياش عن الفوضى المالية أن “النقود المعدنية العثمانية قد بدأت تخضع، منذ بداية القرن الـ19، إلى تغير مستمر في مواصفاتها، لا سيما في وزنها. وهذه التغيرات التي تحولت إلى تقليد مستمر هي التعبير المباشر عن الأزمات الحادة الاقتصادية والمالية في السلطنة… لقد سعت الدولة العثمانية مراراً إلى إصلاح نظامها النقدي وتخفيف الأضرار اللاحقة بالنقود المعدنية الصادرة عن السلطان. والنظام النقدي العثماني لم يكن ضحية إنفاق الدولة فحسب، بل كان أيضاً ضحية النظام الضريبي المتخلف في مجتمع زراعي، تتم الأعمال فيه، بمعظمها، خارج الاقتصاد الرسمي، لذلك وجدت السلطنة نفسها مدفوعة نحو التجارب المتلاحقة الهادفة إلى إصلاح النقد. وأهم الإصلاحات، قبل منتصف القرن، كانت الإجراءات التي اتخذت سنة 1844، بموجب الفرمان الصادر عن السلطان عبدالمجيد، الذي كرس نظام المعدنين وأقام بينهما سعراً رسمياً ثابتاً. وكانت الدولة قد أصدرت سنة 1839 أوراقاً نقدية، للمرة الأولى في تاريخها، مكونة من فئات عدة، قيمة الفئة الأعلى منها 500 قرش. وكانت هذه الأوراق مكتوبة بخط اليد، وهي عبارة عن أوراق دين حكومية بفائدة ثمانية في المئة سنوياً، لا تسدد عند الطلب، بل عند الاستحقاق. ومنذ ذلك الوقت، توالى إصدار الأوراق النقدية العثمانية، لكن هذه الأوراق لم تكن أفضل حظاً من النقود العثمانية المعدنية، فقد كانت بدورها عرضة لفقدان قيمتها باستمرار، لأنها صادرة عن دولة تعاني ماليتها من مشكلات مستعصية، جعلته تلجأ إلى الاستدانة من دون ضوابط من الداخل ومن الأسواق الأوروبية” (تاريخ المصارف في لبنان).

المال غير التحالفات بين الفئات اللبنانية (ويكيبيديا)

عاصمة ومصارف وقبضايات

يكتب فواز طرابلسي “كانت بيروت قد أضحت العاصمة الاقتصادية والقضائية والثقافية، إن لم نقل السياسية لجبل لبنان. فنقل مركز المتصرفية من بيت الدين إلى بعبدا ليكون أقرب إلى العاصمة الجديدة. النزاعات التجارية في جبل لبنان يجري البت فيها في محكمة بيروت التجارية. والعديد من القناصل والمستثمرون الأجانب والمراسلون اختاروا بيروت مركزاً إقليمياً لهم ورفعوا مستوى تمثيلهم في المدينة. وإذا باقتصاد الحرير والهجرة يسهم في نمو دور بيروت الوسيط، وازدهارها وتمكين سيطرتها على الجبل. باتت المدينة مركزاً لشركات النقل البحري والتأمين (بلغ عدد شركات التأمين فيها 20 شركة في نهاية القرن الـ19). مرابوها يقرضون أبناء القرى لشراء بطاقة سفرهم إلى بلاد الاغتراب لقاء رهونات وفوائد باهظة. وقبضايات المدينة ينظمون التهريب بين الولاية والمتصرفية إضافة إلى توليهم تهريب المسافرين غير الشرعيين (بعد أن قررت السلطنة العثمانية منع الهجرة). أما مصارف بيروت فتسلف مرابي دود القز، وتمول حلالات الحرير وتتولى تسليم وتسلم عائدات المغتربين التي بلغت نحو مليون جنيه استرليني في السنة بحسب تقدير عام 1908” (تاريخ لبنان الحديث).

الظلم والمفاسد والانحطاط

وسط هذه الظروف كتب جبران خليل جبران “كان الشيخ عباس بين سكان تلك القرية المنزوية في شمال لبنان كالأمير بين الرعية. وكان منزله القائم بين أكواخهم الحقيرة يشابه الجبار الواقف بين الأقزام. وكانت معيشته ممتازة عن معيشتهم بميزة السعة عن العوز، وأخلاقه مختلفة عن أخلاقهم باختلاف القوة عن الضعف. إن تكلم الشيخ عباس بين أولئك الفلاحين أحنوا رؤوسهم إيجاباً، كأن القوى العقلية قد انتدبته ممثلاً لها واتخذت لسانه ترجماناً عنها. وغن غضب ارتجفوا جزعاً وتبددوا من أمام وجهه، مثلما تتراكض أوراق الخريف أمام الرياح. وإن صفع خد رجل منهم ظل ذلك الرجل جامداً صامتاً كأن الضربة قد أتت من السماء، فمن الكفر أن يتجاسر ويرفع عينيه ليرى من أنزلها. وإن تبسم لرجل آخر قال الجميع ما أسعده فتى رضي عنه الشيخ عباس! ولم يكن استسلام أولئك المساكين إلى الشيخ عباس وخوفهم قساوته صادرين عن ضعفهم وقوته فقط، بل كانا ناتجين عن فقرهم واحتياجهم إليه. لأن الحقول التي كانوا يحرثونها والأكواخ التي يسكنونها كانت ملكه وقد ورثها عن أبيه وجده مثلما ورثوا الفقر والتعاسة عن آبائهم وجدودهم. فكانوا يفلحون الأرض ويزرعونها ويحصدونها تحت مراقبته، ولا يحصلون لقاء أتعابهم وجهادهم إلا على جزء من الغلة لا يكاد ينقذهم من أظافر الجوع. قد كان أكثرهم يحتاج إلى الخبز قبل انقضاء أيام الشتاء الطويلة، فيذهب إليه الواحد بعد الآخر ويتضرع أمامه باكياً مستعطفاً لكي يقرضه ديناراً أو مكيالاً من الحنطة، فكان الشيخ عباس يجيب سؤالهم مسروراً لعلمه أنه سيستوفي الدينار دينارين، ومكيال الحنطة مكيالين عندما تجيء أيام البيادر والموسم. وهكذا كان يبقى هؤلاء التعساء مثقلين بديون الشيخ عباس مكبلين بحاجتهم إليه خائفين غضبه طالبين رضاه” (المجموعة الكاملة، العربية، خليل الكافر).

وإذا كانت هذه حال القرى فإن أحوال أبناء المدن، عند جبران، ليست أفضل. هذه وردة الهاني بطلته الأولى في “الأرواح المتمردة” تفضل الانتقال إلى “بيت رجل آخر لتعيش معه في ظلال الفقر” على البقاء كذباً ورياء وبلا حب في بيت زوجها الذي “ككثيرين من سكان سوريا”، وخصوصاً الأغنياء، “لا ينظر إلى ما وراء الأشياء بل إلى الظاهر منها. ولا يصغي إلى نغمة نفسه بل يشغل عواطفه باستماع الأصوات التي يحدثها محيطه. ويلهي ميوله ببهرجة المرئيات التي تعمي البصيرة عن أسرار الحياة وتحول النفس عن إدراك خفايا الكيان إلى ملاحظة الملذات الوقتية”.

ووردة الهاني ليست حالة خاصة إنما هي من تجرأت على التحرر من “المفاسد” و”الانحطاط” وما أنتجه المال وصاحبه. يكتب “التفتت السيدة وردة نحو النافذة وأشارت بيمينها نحو المدينة ورفعت صوتها عن ذي قبل وقالت بلهجة الاحتقار والاشمئزاز كأنها رأت بين الأزقة وعلى السطوح وفي الأروقة أشباح المفاسد وأخيلة الانحطاط: انظر إلى هذه المنازل الجميلة والقصور الفخمة العالية حيث يسكن الأغنياء والأقوياء من البشر، فبين جدرانها المكسوة بالحرير المنسوج تقطن الخيانة بجانب الرياء، وتحت سقوفها المطلية بالذهب المذوب يقيم الكذب بقرب التصنع. انظر وتأمل جيداً بهذه البنايات التي تمثل لك المجد والسؤدد والسعادة، فهي ليست سوى مغاور يختبئ فيها الذل والشقاء والتعاسة. هي قبور مكلسة يتوارى فيها مكر المرأة الضعيفة وراء كحل العيون واحمرار الشفاه، وتنحجب في زواياها أنانية الرجل وحيوانيته بلمعان الفضة والذهب. هي قصور تتشامخ جدرانها تيهاً وافتخاراً نحو العلا، ولو كانت تشعر بأنفاس المكاره والغش السائلة عليها لتشققت وتبعثرت وهبطت إلى الحضيض. هي منازل ينظر إليها القروي الفقير بعينين دامعتين، ولو علم أنه لا يوجد في قلوب سكانها ذرة من تلك المحبة العذبة التي تملأ صدر رفيقة لابتسم مستهزئاً وعاد إلى حقله مشفقاً”.

الهجرة والمرأة والبك

العودة الثقافية القيمية التي يدعو إليها جبران من المدينة إلى الريف، كان في الواقع ما يناقضها: نزوح من القرى إلى المدن لا سيما بيروت، وهجرة نحو بلاد الله الواسعة، منذ أواسط القرن الـ19. وأسرة جبران نفسه خاضت التجربة وصولاً إلى نيويورك.

وهذه الهجرة بحثاً عن حياة أفضل وعن المال ضمناً وعن الحرية والأمان وربما المساواة والشعور بالقيمة الإنسانية، هرباً من العبودية والفقر والحروب، هي تيار قوي مما غير لبنان، إذ يقدر كتاب “لبنان مباحث علمية واجتماعية” أن عدد المهاجرين “لأجل التفتيش عن المعيشة” بلغ “120 ألف نفس… وهذا ما يقارب ثلث سكان لبنان”.

وفيما يرصد كتاب “ولاية بيروت” لمحمد رفيق ومحمد بهجت الآثار الاجتماعية والأخلاقية السلبية للهجرة، يحث ميشال شيحا عليها، ويكتب “إن المال المجني في جزر الكناري وجمايكا وسان دومنغو ليلبث في تلك الجزر أو يساق إلى مكان آخر، إذا نحن عن لنا أن ننغص عليه وجوده بيننا. فالجهد المبذول في البعيد هو الذي عمر القرية اللبنانية وعمر المدن بالتالي وجعل من قرانا في الجبل شيئاً مختلفاً عن سائر قرى الشرق الأدنى” (لبنان في شخصيته وحضوره).

ويقدر الباحث المتخصص في شؤون الهجرة وتاريخها بطرس لبكي أن قيمة تحويلات المهاجرين قبل عام 1914 بلغت “25 مليون فرنك فرنسي سنوياً أي ما يساوي 110 ملايين قرش تركي لكامل لبنان. واستخدمت هذه التحويلات في خمسة مجالات رئيسة هي: شراء الأراضي وبناء المساكن وزيادة الاستهلاك ورفع مستوى المعيشة والاستثمارات المنتجة بشكل سريع” “لبنان في تاريخه وتراثه”.

وإذ يلاحظ المؤرخ مسعود ضاهر أنه “بسبب انتشار الهجرة على نطاق واسع في الجبل، كانت اليد العاملة من النساء والأطفال هي الغالبة… نظراً إلى الأجر الضئيل الذي كان يعطى للمرأة العاملة” (تاريخ لبنان الاجتماعي)، يكتب الأديب مارون عبود عن امرأة اخترقت قاعدة اقتصار الهجرة على الرجال. فبعد أن احتار زوجها المديون واستصعب الفرقة و”كيد العدا”، قررت هي الهجرة إلى أميركا حين سمعت من الدائن “لا يخلصكم غير أميركا… نعم أميركا، فلان كان مثلكم وخلصته أميركا، وفلان عمر القصور من مال أميركا، وفلان اشترى الضياع، وفلان لولا مال أميركا ما صار مدير ناحية وتغدى عنده الباشا”. وقد أقبلت الـ”مهاجرة” على السفر وقبل زوجها بذلك على الرغم من الأقاويل وشماتة الأعداء طمعاً بمال أميركا.

وفي قصة أخرى يحدثنا عبود بسخريته المعهودة عن جبور الذي جمع ثروة في البرازيل وها هو لكي يحجب ماضي العوز والفقر ويرتقي في السلم الاجتماعي يريد شراء لقب. ونقرأ مشهداً ينصح فيه السمسار جبور بالوظيفة، فهي “في أيامنا خير من سفرتين إلى أميركا”. وعلى الرغم من اقتناع جبور بإرشادات السمسار بقي طامعاً بلقب “بك”. فيرد عليه السمسار “نعم إذا زدت المبلغ 200”. ويرى جبور ذلك “أليق”.

ولا تقتصر السخرية من رجال المال الذين حصلوا ثروات عبر الهجرة أو النفوذ على الأدباء والشعراء، ومن هؤلاء إضافة إلى جبران والريحاني وعبود وغصوب، سعيد تقي الدين الذي “يفضحهم” في قصصه ويتسلى بأخبار كل متهافت على لقب أو ليرة أو دولار وينشرها في لبنان والمهجر.

يروي المؤرخ لحد خاطر عن متصرف جبل لبنان فرنكو باشا “أنه كان ينعم بلقب بك على من يأتون من الوجهاء أو الموظفين عملاً يستحق رضاه. ومن ثم كثر طلاب هذا اللقب وانهالت عليه التوصيات ببعضهم من رؤساء الدين والقناصل حتى ضاق بها ذرعاً، ولكنه لم يعدم وسيلة للتخلص مما تولاه من إزعاج بالوسيلة التالية: كان في المركز رجل معتوه اسمه يوسف يزبك مهمته كنس الأروقة وقضاء بعض الحاجات فدعا (فرنكو باشا) إليه ذات يوم رئيس القلم العربي وقال له: ’اكتب‘ وأملِ عليه ما يلي: ’إلى حضرة يوسف بك يزبك‘. فتوقف رئيس القلم والدهشة آخذة منه كل مأخذ وظن أن المتصرف غير جاد في ما يقول وإذا به يكرر القول بلهجة شديدة: ’اكتب اكتب! بناءً على رضانا عن اجتهادك فقد زدنا خمسة قروش على مرتبك الشهري‘ وأخذه منه وذيله بتوقيعه. واشتهر أمر هذا المكتوب وأصبح حديث الأندية وامتنع محبو هذا اللقب عن طلب الحصول عليه، لا سيما بعد أن أصبح يوسف يزبك يوسف بك أو بك المركز المجذوب” (عهد المتصرفين في لبنان).

يكاد يكون نقد المال والتجارة والرأسمالية قاسماً مشتركاً لدى الأدباء والشعراء اللبنانيين (مواقع التواصل)

الطغاة والأعيان والضحايا

عند يوسف غصوب السخرية تغدو دراما بل مأساة، والسخاء طمعاً بلقب يغدو جشعاً بالمال. فهذا البخيل المرابي يقتل شاباً زاره مدعياً أنه صديق ابنه. يقتله بعد أن يعلم أن في حوزته ألفي ليرة ذهبية، وهو بحاجة إلى ألف ليرة لشراء أرض ولكي يصبح أغنى رجل في القرية. “بل تصبح القرية ملكاً لي. ويصير هؤلاء المتكبرون، أبناء الأسياد، أبناء الشيوخ والأمراء، أتباعاً لي ينظرون إلي خائفين حاسدين. أنا ابن الفلاح الذي لم يكن على شيء من حطام الدنيا، ثم هو الآن قدير على كل شيء، تفتح له المجالس والبيوت، ويرفع صوته عالياً. تراعي الحكومة جانبه، ويفتش الكبراء عن صداقته. مسموع الكلمة، نافذ الإرادة”.

وفي النهاية، يعلم البخيل المرابي وتعلم زوجته وابنته أن الشاب القتيل هو ابنه المهاجر منذ سنوات.

ليس شهيد ابن “طاغية القرية” المهاجر الوحيد الذي يعود إلى الوطن مخاطراً بحياته ومستقبله بعد تجربة الغربة. الأديب أمين الريحاني فعل ذلك هو شخصياً وليس أحد أبطال رواياته. والريحاني مثل بطل غصوب، القتيل ابن “طاغية القرية”، “لا يحب المال” وفق ما أجاب البدوي أحد مرافقيه في رحلته التي يرويها بكتاب (قلب لبنان).

لكن ثروة الريحاني هي فكره وأدبه واسمه، وليست مادية مثل الثروة التي كونها شهيد في بلاد الاغتراب وبقيت هناك بعد مقتله في مأساة تجعل الهجرة عموماً ضحية إذا ما عادت وسلمت أمرها لبلاد فريسة الأطماع والأنانيات الناتجة من الصراعات على الأرض والسلطة والمال. وثروة الريحاني غير مرئية، أي لا تصرف، في لبنان الذي يتجول في أرجائه، لا سيما لدى “أعيان بيروت”. فهؤلاء حين رأوه وسطهم في “مفخرتهم الكبرى”، الكازينو ببلدة صوفر، رمقوه مستغربين أن يدخل بينهم رجل عادي بثياب غير لائقة. وإذ أخرجه الحاجب العملاق من ذاك “المعبد”، رافضاً أن يدعه يتفرج، قصد المدير الذي نفى وجود غرفة شاغرة، فخرج إلى الحديقة (الجنينة) حيث عاد إليه الأمل بأن يقل القطار من بيروت شخصاً يعرفه ويعينه على “المتمدنين” وينقذه من عار الخيبة. وهناك التقى صديقه “الأبر” ابن إحدى العائلات الأرستقراطية، جرجي ديمتري سرسق الذي امتعض حين قص عليه الريحاني ما حصل معه وأخذ بيده ودخلا النزل، و”هناك في مكتب المدير صب صديقي جام غضبه”. وبعد أن نفض الريحاني عنه غبار الطريق وغسل وعادت اللمعة إلى حذائه نزل إلى دار الفندق لينتقم من الأغنياء سائلاً أين هي “تلك العيون التي غزتني في الجنينة، فحملتني على الفرار منها؟”. ويجيب “هي الآن مقصورة مغضوضة. هي الآن عيون كرام الناس- كرام الناس بالقوة. أعجب لهذه الهيئة الاجتماعية التي تذل وتذل، بقدر ما فيها من جهل وكبرياء… جرجي سرسق صديق الرجل، اسكتي… هو من أصدقاء جرجي ديمتري”.

ونقد الريحاني سلوك “الأعيان” و”رجال المال ونسائه” وتفاخرهم وتعاليهم على الآخرين متى رأوا فيهم “أدنى” منهم جاهاً ومالاً، لا يضاهيه إلا رأيه في رجال اللاهوت. فـ”رجل المال ورجل اللاهوت كلاهما يحتاج إلى الآخر. فلا غنى لصاحب المال عن اللاهوت لسداد حسابه في الآخرة، ولا غنى لصاحب اللاهوت عن المال يعمر به الحياة الدنيا”.

يعتبر كاتب “الرغيف” أن التجارة دنس (اندبندنت عربية)

المرابي مر من هنا

ويكاد يكون نقد المال والتجارة والرأسمالية، ومن يتمثل بثقافة ذلك وأخلاقه، قاسماً مشتركاً لدى الأدباء والشعراء اللبنانيين، خصوصاً في مطلع القرن الـ20. توفيق يوسف عواد الذي يروي (بعض) حكاية المجاعة التي ضربت لبنان إبان الحرب العالمية الأولى، يقول إن “بيت كسار كان بيت تقى وصلاة، لم يتجاوز الدنس الصالون الذي جعلته وردة دكاناً”. فالدكان حيث التجارة هو مكان دنس، و”لم يكن من التقاليد أن تفتح النساء الدكاكين ويتعاطين البيع والشراء”. وإذ اضطرت وردة كسار إلى جعل الصالون دكاناً لم تسمح للدنس أن يتسلل منه إلى الغرف الأخرى من البيت.

وليس تنسيب التجارة، البيع والشراء، إلى الدنس غريباً عن قصة “الرغيف” حيث رجل المال هو المرابي الذي يستغل حاجات الناس ليشتري منهم ما يملكونه بأرخص الأسعار بل لقاء حبيبات قمح. وليس غريباً في “الرغيف” أيضاً أن يعتبر المرابي عدواً مثل الاحتلال الذي تقاومه “العصابة البيضاء”، وفي النهاية تقوم ثورة ضده تقتله وتحرق قصره.

والمرابي ليس شخصية في مسرحية أو عمل أدبي من صنع خيال المؤلف. إنه “أمر واقع”، وكتب التاريخ تقول إنه “مر من هنا” مثل القتلة والقناصة والميليشيات إبان الحرب. يروي وضاح شرارة أن الأهالي في جبل عامل نفروا من تسجيل أراضيهم بسبب ضعف الثقة في السندات وضعف الدقة في رسم الحدود، وأيضاً لـ”اضطرار الفلاحين إلى الاستدانة بالربا الفاحش الذي كان يطلبه المرابون على أرض غير مقيدة قيداً إدارياً ثابتاً” (الأمة القلقة).

ويروي مسعود ضاهر: “جاءت الحرب العالمية الأولى تقضي على العديد من الفلاحين الصغار والمتوسطين من سكان الجبل، وباع قسم كبير منهم أملاكه، بشروط بالغة الإجحاف، إلى رأسماليي بيروت وطرابلس وحلب لقاء مبالغ لا تتعدى عشر قيمتها الحقيقية. ففي مثل تلك الظروف القاسية اشترى هؤلاء الرأسماليون أجزاء واسعة من الأراضي في المتن والشوف وكسروان وبيروت. وقام الأهالي يطالبون، بعد الحرب، بإلغاء تلك البيوع، وقامت تظاهرات عنيفة طيلة عام 1921 حتى اضطرت المفوضية العليا إلى تعديل بعض تلك البيوع وإلغاء البعض الآخر بالقرار رقم 797 تاريخ 21 مارس (آذار) 1921”.

الأم و”الريال المزيف”

وهذا الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير) يروي تحت عنوان “الريال المزيف” حادثة وقعت في أوائل السنة الثانية من الحرب العالمية الأولى. وهي قصة أم “يحارب زوجها في التخوم” وطفلتها “فوق الفراش”. وإذ “طرقت أبواب الكرام… ورجعت بالإخفاق”، تسأل نفسها:

“أأصون عرضي؟ وابنتي؟ وحياتها/ وعلاجها يحتاج للإنفاق…

إني مفارقة ابنتي أو عفتي/ فعلى كلا الحالين مر فراق…

رباه حلمك فالمصائب جمة وأنا/ بواحدة يضيق نطاقي

لو شئت موتاً لابنتي لأخذتها/ وجعلت طهري قدوة لرفاقي

لكن أردت بقاءها وأردت لي/ فقري. أتظمئني وأنت الساقي؟

ستعيش بنتي وليكن ما شئته/ ستعيش.. لكن من لهى العشاق

ومشت لموعده بماء جفونها…

حتى إذا اختليا أنثى بوصالها/ وقد انثنت برياله البراق

رجعت وفي يدها الريال ورأسها/ لحيائها متواصل الإطراق

وكأنها خطرت لها ابنتها وما/ تلقاه من ألم الطوى المقلاق

فأصابها مثل الجنون فتمتمت/ بشراك إني عدت بالترياق

هو ذا الريال فإنه نعم الذي/ يهب الشفاء لنا ونعم الراقي…

ومضت إلى الطباخ تلجم ما بها/ لفتاتها من لاعج الأشواق

قالت- وأدته الريال- ألا اعطني/ بعض الغذا وأردد علي الباقي

أسرع فإنك إن تؤخرني تذق/ من جوعها بنتي أمر مذاق

نقف الريال بإصبعه وجسه/ وانهال بالإرعاد والإبراق

قبحاً لوجهك… سيدي أتسبني/ عفواً وتحسبني من السراق؟

لا. فالريال مزيف… أمزيف؟ صاحت وقد سقطت من الإرهاق…

طلعت عليها الشمس وهي سجينة/ وفتاتها ضيف على الأسواق

أما الأثيم فلا تزال شباكه/ منصوبة لنواعس الأحداق”.

وحوش أم وحش؟

وإذا كان بشارة الخوري لم ينتقد، في قصيدة “الريال المزيف”، الأغنياء والمال إنما نقد قليلي الأخلاق والرجال المزيفين والمال المزيف، فإن ميخائيل نعيمة واصل القتال على جبهة جبران وغصوب والريحاني وعواد وتقي الدين. فصاحب المجموعة القصصية “أكابر” ينحاز إلى الحمال أبو بطة الذي بلغ الـ85 وما زال مضطراً إلى العمل على المرفأ ويأبى التقاعد أو الإقرار بالعجز. وها هو يشن هجوماً لاذعاً على الأغنياء الذين عبر كل منهم عن أنانيته وتكبره ومصلحته وموقعه الطبقي فوق جثة أبو بطة الذي سقط صريعاً تحت برميل عجز عن رفعه. فالتاجر قلق على البرميل، فيما كانت هناك سيدة على الرصيف وقد مس البرميل حذاءها فانتفضت وركلت جثة أبو بطة وهي تنعته بالـ”وحش”. و”كان آخر ما سمعت نداء المؤذن: الله أكبر”.

و”على الله” قصة أخرى تروي مأساة إعلان “بنك تجاري” إفلاسه. وقد جعل ذلك مودعاً “يتكلم كمن يهذي”، و”أفرغ غيظه على المرأة الواقفة بالباب. فانتهرها بصوت عال: انصرفي عنا يا امرأة. نحن في كربة ما مثلها كربة. ولا وقت لنا نضيعه عليك. ولعلنا غداً نستعطي منك بدلاً من أن تستعطي منا، فنقول لك ما تقولينه لنا الآن: “من مال الله” انصرفي “على الله””.

أما التاجر فقد “ارتجفت يداه، وسقطت الجريدة منهما، وجحظت عيناه، واكفهر وجهه، وانعقد لسانه”. وفي المساء أصيب بنوبة قلبية حادة.

ويختتم نعيمة القصة “انقضت سنوات ونسي الناس البنك التجاري وما جره إفلاسه من فواجع. ولكنهم ما برحوا يتحدثون بمنتهى الاعتزاز والإعجاب عن مأوى الفقراء والعجزة الذي شيدته أرملة التاجر تنفيذاً لوصيته في ضاحية جميلة من ضواحي المدينة. وقد حفرت فوق بابه هذه الآية: “على الله… وعلينا”.

“أصفر رنان” و”يا دل الطفران”

كثيرة غنية هي قصائد عمر الزعني في هجاء المال… وما ومن يتعلق به. فإضافة إلى احتجاجه على مصادرة الانتداب الفرنسي إبان الحرب العالمية “خزائن سوريا ولبنان” في قصيدة “أصفر يا رنان”، أطلق “شاعر الشعب” لسانه اللاذع على المظاهر الاجتماعية والمتغيرات في الحياة والأخلاق:

“عرم يا فرنك وهز كمامك/ واليوم عز أيامك/ المستر شلن خدامك/ ما عاد في مزاحم قدامك/ خزاين العالم انهزت/ فبارك أميركا اهتزت/ حتى الدولار ما رح يسلم/ عرم يا فرنك عرم”.

وإزاء هذا وغيره من أحوال البلاد، يرثي أحوال الفقير منحازاً له: “يا دل الطفران/ الله على الطفران/ مين يتشفع فيه/ ومين عمره يداريه/ يا شحاره انخربت دياره/ ليله ونهاره/ ما حدا بيطلع فيه/ إيش ما عمل غلطان/ وإيش ما حكي خرفان/ بيتصبح بالدين/ وبيتمسا بالدين/ ومنين يوفي منين/ منحوس دايماً منحوس/ وعلى راسه كابوس/ يا دل الطفران/ الله على الطفران/ وإن كان جيبك متلان/ ما في متلك إنسان/ الناس بترضى عليك/ وبتبوس إيديك/ الله يخليك/ الله يعليك/ الله يعطيك/ ويزيدك يا ريت/ إيش معنى المنقوص/ وإيش معنى المخصوص/ المنحوس دايماً منحوس/ ولو ضوولوا على راسه فانوس/ يا دل الطفران/ الله على الطفران”.

ويرصد “شطارة” التجار: “ما عاد في بها الأيام شي كزدان/ حتى الشرف، والضمير، والوجدان/ على أونه، على دويه، على تريه/ بس قول، وحط إيدك عالجزدان (المحفظة)/ كل شي صار بينباع بها الأيام/ مثل السمك والفراخ والحمام/ هبل تمك وقول بدي اشتري/ بالمريخ، بالقمر، والمشتري/ السماسرة بيبيعوك وين ما كان/ بس قول، وحط إيدك عالجزدان/ ما عاد في لا اختصاص ولا احتكار/ كل واحد، صبح تاجر يا سمسار/ والسمسار يللي اليوم بيبيعك زيت/ قادر بكرة يشتري لك أعظم بيت/ ويطوب لك أي مخزن أو دكان/ بس قول، وحط إيدك عالجزدان/ وكل يوم بضاعة جديدة وصنف جديد/ أطلب وتمنى، شو بتؤمر شو بتريد/ بيبيعوك هوا ونور وشمس وفي/ بيبيعوك حتى السكة والتراموي/ بيبيعوك يللي ما هو بالحسبان/ بس قول، وحط إيدك عالجزدان/ بيبيعوك شي موجود وغير موجود/ بيبيعوك أعظم شي بالوجود/ بيبيعوك عالمكشوف وعالأشاع/ بيبيعوك أحسن قطعة من الجنان/ بس قول، وحط إيدك عالجزدان”.

سيرة القرش وجنازته

من محاكمة المال وإدانة ناسه بلغة شعبية لا تخلو من القيم الأخلاقية المحافظة، كما هي الحال عند الزعني، يأخذنا الأديب فؤاد كنعان إلى “جنازة” القرش. وبأسلوبه القصصي الفريد، وبلغته العالية، يجعلنا ننصت لـ”الراحل الكبير” وهو يروي سيرته التي هي حيوات ناس وتاريخ مجتمع وبلد.

ويروي القرش “أن أبي لما أصبح في سنيه التسع، بعد هاتيك الحرب الكونية الأولى، أراد أبوه أن يعوده حسن التصرف في إنفاقه قروشه، فأخذ يعطيه، كل أسبوع، خمسة قروش مقدوحة يتبردخ بها على هواه في مدى أسبوع، بعد أن كان يعطى من قبل قرشاً بعد آخر، وفي أيام متباعدة، تبعاً لتقلب العافية في مصر أمه، أو تبعاً لمشتهى نفسه من واجهات الدكاكين”.

وبعد أن يصول القرش ويجول في الذاكرة مع الأجيال يصل إلى اليوم. وهي رحلة “من قرش أبيض، إلى قرش أسود، إلى قرش بلا قرش”.

ويروي “ها قد مصلنا حتى الموت. أين نحن؟ بل أين هي الخمسات والعشرات والمئات القابعة معي، في هذا الكيس التذكاري المزموم، بلا أخذ ولا رد؟ كلها، كلها صوت واحد: لا شي! وها إن أباك، وقد كلل الثلج هامته، كلما تفقد كيسه، وتداولني بأنامله، أنا وبني أمي من إنصاف القروش، وخمسات قروش، وعشرات قروش، ليضم إلى مثواي جثثاً جدداً، من ليرات وخمسات ليرات، ومن عشرات ومئين، أخالني أرجع عبر أنملاته إلى زمان شبابي، مع شبابه، ومطارح رغدي، مع رغده، وتلكم الليالي، وتلكم الملاح. وأخالتي أكفكف عن قلبه حسرة حرى على تعويض عمل استرقه نحو نصف قرن، ليدرأ عنه مرارة الفقر. فإذا هذا التعويض- وفي رفة عين- يتضاءل ويتفانى ويستميت، لينتقل، على راحات لصوص الهيكل، من تعاسة هذا العالم الفاني، إلى سعادة ربه الرحمن. لا هو كلف نفسه لفتة وداع، ولا نحن أوتينا أن نكفنه ونتوبته في تابوت يليق به”.

الشبعان والطفران و”ستار العيوب”

وإلى الأدب الشعبي اللبناني در مع عمدته سلام الراسي. وفي جعبته قصص ونوادر وحكم كثيرة عن المال وما إلى ذلك، جمعها من الناس مباشرة.

هنا، يؤرخ لحدث من أيام الحكم العثماني “يحكى أن بعض وجهاء بيروت، رفعوا شكوى إلى الباب العالي في حق الوالي، بتهمة الرشوة واستغلال الوظيفة. فاستدعى الوالي موقعي عريضة الشكوى. وقال لهم: “كبروا عقولكن، فإن ما يدفعه الوالي إلى الباب العالي لكي يصير والياً، لا بد أن يعود ويجمعه من الأهالي، وأنا جمعت حتى الآن ما فيه الكفاية، وشبعت، فهل تريدون أن يذهب الشبعان ويأتيكم الطفران؟”. وقيل إن وجهاء بيروت اقتنعوا وسحبوا الشكوى. ومن ذلك الوقت صار اللبنانيون، كلما تولى حاكم أو مسؤول جديد يقولون: “نرجو ألا يصح فينا قول المثل: راح الشبعان وإجا الطفران” (شيح بريح).

وتحت عنوان “مصاري ورق ولا حبر على ورق” ينقل “استوى أبو زيدون في مجلسه ومد حديثاً، فتكلم عن أهم المبادئ العامة في التعامل مع الناس، فنصح ابنه ألا يتعامل إلا مع الأغنياء لأن المثل يقول: أبو بيضة لا تفاقسوا! فإذا خدمك الحظ لا تربح منه غير بيضة واحدة، أما إذا خدمه الحظ فإنه يربح منك كل ما في سلتك من البيض… وقال أبو زيدون: لا تسكن يا ابني إلا حيث تتزاحم الأقدام، لأنك إذا بقيت في القرية بقيت عيون الناس عليك، إذا اغتنيت حسدوك وإذا نجحت راقبوك، لأن وجيه القرية كما قال المثل: منظور مأسور، مثل القملة براس أقرع… وأعرب أبو زيدون عن قلة ثقته بالحبر والورق وأوصى ابنه ألا يأتمن غير جيبه وأن يعمل مخزنه عبه- كما قال المثل- وألا يتعامل مع المصارف، ولا يأتمن الحوالات والسندات وسائر الحسابات غير النقديات، عملاً بحكمة الشيخ راشد: مصاري ورق، ولا حبر على ورق”.

ويروي الراسي عن أم جبران قولها إن “الكرم ستار العيوب، وهي تعزز رأيها بقصة امرأة تزوجت رجلاً غنياً فيه عيوب كثيرة، لكنه كان كريماً كلما غاب جاب، فلا تلتفت المرأة إلى وجهه، بل إلى يديه المحملتين بالهدايا، ثم تحول زمان الأول، وافتقر الرجل وصار يعود إلى بيته خالي اليدين، فأخذت المرأة تكتشف كل يوم علة جديدة في زوجها… وتضيف أم جبران: الزلمي إن فرغت جيوبو، كثرت عيوبو” (حكي قرايا).

في جعبة الأديب سلام الراسي قصص ونوادر وحكم كثيرة عن المال جمعها من الناس مباشرة (اندبندنت عربية)​​​​​​​

المال يصنع الحب

وفيما كتب الأديب محمد عيتاني، الماركسي المنحاز إلى الفقراء وضحايا الرأسمالية في لبنان والعالم، قصة عن مأساة المودعين في بنك “إنترا” الذي هز إفلاسه لبنان، راصداً معاناة هؤلاء أمام فرعه في شارع المصارف بوسط بيروت، بين تكبر المدير وعنف رجال الأمن المسخرين لحماية البنك وأصحابه وأمثالهم، يجد الشاعر أنسي الحاج أن “المال يصنع الحب”.

ويكتب في “كلمات…”: “مرة أخرى، وأنا أشاهد أحد أفلام هذا الأسبوع، لمست أهمية أن تكون المرأة محاطة بإطار غني. بلا غنى، بلا بذخ، بلا ترف ورفاهية، تخسر المرأة حتى جمالها الطبيعي. الفقر يذبل ويبشع. ليس أشهى من امرأة جميلة تعيش في إطار غني. أنظمة الحكم التي تلغي هذا الامتياز أمام المرأة تلغي المرأة وجمالها وحبها. لا يمكن إلا الوقوع في حب امرأة جميلة تعيش في إطار غني. عدم الوقوع في حب امرأة كهذه ضرب من المحال. أحياناً أنظر إلى رجل غني وأشعر بمحبة نحو غناه عندما أفكر أنه بثروته يتيح لامرأة جميلة أن تربي جمالها. المال يجمل. وهو، بمعنى من المعاني، يصنع لنا الحب”.

زلازل “الذات اللبنانية”

مع الروائي يوسف حبشي الأشقر تتجاوز المسألة نقد المال و”طبائع استبداده” واستهلاكه والمظاهر الاجتماعية و”الانحرافات الأخلاقية” المصاحبة له وللمتغيرات التي يشهدها المجتمع. فهذا الروائي ينفذ إلى عمق “الذات اللبنانية” في تأرجحها بين “الظل والصدى”، ظل الآخرين وصدى الأصالة، في تمزقها بين الحب والحرب والمال.

يروي: “في أوائل الثلاثينيات عاد جرجي وطفا مع زوجته وابنه أسمر من أفريقيا مصطحباً معه زنجياً ليخدمهم. جرجي وطفا اشتاق إلى الجذور، اشتاق إلى الضيعة تراه غنياً، منيعاً، يحمل العصا ذات القبضة الذهبية ويظهر الساعة في جيب صدريته مع كستكها العريض، متنزهاً في زواريبها وبين ناسها، إنساناً مميزاً، كما اصطحب جرجي الزنجي معه- على الرغم من كثرة الخدم في ذلك الحين في الضيع- اصطحب لأسمر لعباً جاهزة… الزنجي واللعب والعصا، كانت إلى جانب السيارة، لإدهاش الآخرين واستدرار احترامهم… غير أن جرجي كان لا يصرف أمواله إلا على ذاته وعيلته، فأدركت الضيعة مع الوقت أن قدرته لا تخيف، فالمال الذي لا يبذل، لا تمارس بواسطته أي قوة، فأهملت مشاعرها الأولى تجاهه، وفقدت دهشتها وعاملته كإنسان عادي لا ينفع ولا يؤذي”.

“عاد أسمر من أفريقيا، غنياً جداً هو الآخر، وكان شعر الصديقين القديمين قد بدأ يشيب، وفور عودته زار إسكندر في بيته في بيروت، في عالمه الخاص ورآه كيف يبذر المال وعلام، واستشعر إسكندر الجديد وعلاقاته الجديدة وحياته الجديدة، وقد يكون استشعر معها استحالة اللقاء… تحدث فقط عن المال، المال الذي في جيبه وكيف جناه، وكيف كان شاطراً في بلف الدولة، وكيف باع بضاعة بالكميات، لا يمكن استعمالها إلا مرة واحدة، ولم يستعدها زبائنه لأنه دبر لهم مقلباً، وكانت كلمته: التجارة شطارة. الشطارة يعني الضحك على الآخرين، يعني الضغط عليهم، يعني اللف والدوران، حولهم، للربح فقط ولو كان هذا الربح بشكل عميق، اسمه سرقة”.

وإذ يروي الأشقر حكايات أشخاصه ومصائرهم ورحلاتهم الذاتية والجماعية يرصد الزلازل التي تعرض لها المجتمع- الإنسان اللبناني، في الإمارة والقائمقاميتين والمتصرفية ودولة لبنان الكبير وجمهورية الاستقلال ووطن الحرب، في ظل الصراع الوجودي الدامي على الأرض والسلطة والمال.

“يا ابني، قلت لك الذين نزحوا كان حظهم قليلاً فكثر، وكان حظنا كبيراً فصغر، سترى كيف: نجن نزحنا لنتعلم، قال جدك، مدارس الضيعة صغرت عليكم، وهناك شهادة اسمها البكالوريا من يأخذها يعز ونحن بيت علم، والعلم نجانا. من أول ما تعلمنا صرنا غير شكل، وأنتم ترون كيف نحن وكيف سوانا، العلم ضروري، ويجب ألا نبقى متأخرين، عمره لم يسبقنا أحد بالتميز، وأنا طوال عمري أعمل واجبي معكم. سافرت إلى المكسيك لأكون أحسن من غيري، فلن أتراجع عن السير من كفرملات إلى بيروت لتكونوا أحسن من غيركم، لكن سرعان ما انقلبت الدنيا، انقلبت رأساً على عقب، مشت على يديها يا ابني، وحياتك على يديها… القيم التي عرفنها، هكذا، بالممحاة زالت وحلت محلها قيمة جديدة، العملة، المال يا ابني، فقط المال، كيفما جاء يجيء، المهم أن يجيء، وزادت الحاجات، وخربت الدنيا، زادت الحاجات قال، زاد الوهم بالحاجات… هكذا من كان مهيأً من دون إرادته للربح، صار يربح ويربح، ومن لم يكن مهيأ حسب وضعه الذكي سابقاً صار يخسر ويخسر، فصار الذين نزحوا ليأكلوا لا ليتعلموا، يتخمون من كثرة الأكل وصار الذين نزحوا ليتعلموا يأكلون العلم ويستفرغونه، لأنه لا يشبع”.

***

هذا بعض من كثير عن المال الذي صدم اللبنانيين وأقاموا معه علاقة غرام وانتقام، في الوطن والمهجر، وبحث المؤرخون عن آثاره، ومقته الأدباء والشعراء ونبذوا أصحابه وثقافته، ويحكى أن أحدهم، فؤاد كنعان، أدرك أنه (القرش) أحد أصحاب الحكاية بل التاريخ والمخول النطق باسمهما في بلد بات فيه المثل الشعبي “معك ليرة بتسوى ليرة” قاعدة. أما وقد مات القرش وانهارت الليرة فالقصة المستمرة لم تجد بعد من يرويها، وربما يكون مصرفاً أو زعيم ميليشيات أو “بونزياً” ما هذه المرة.

Follow Us: 

Leave A Reply