انعكست الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان منذ ثلاثة أعوام على موائد المواطنين، كما على مختلف الجوانب الحياتية، وأحدثت تغييراً ملموساً على مستوى غذائهم اليومي بعدما أثرت إلى حد كبير في أسعار اللحوم.
تراجع القدرة الشرائية للمواطنين على إثر الأزمة اضطرهم مرغمين إلى إجراء تعديلات قسرية على موائدهم، نظراً إلى الارتفاع القياسي في سعر صرف الدولار بالسوق الموازية وتراجع قيمة الليرة اللبنانية مع إبقاء رواتب الموظفين على حالها أو رفعها بما لا يتناسب مع الغلاء الجنوني.
أطعمة بديلة
“المدردرة” و”البرغل” و”المعكرونة” و”اللوبياء بالزيت” أصبحت من الأطباق الأكثر استهلاكاً حالياً مع تركيز العائلات على تناولها بشكل متكرر وفي المقابل غابت اللحوم عن موائد نسبة كبيرة من اللبنانيين فباتوا يتناولونها مرة واحدة في الأسبوع كحد أقصى.
اعتاد اللبنانيون سابقاً تناول اللحوم يومياً والاجتماع في أيام الآحاد والأعياد لتناول “المشاوي”، لكن ذلك أصبح من الماضي ولا بد لمائدة العائلة من أن تواكب القدرة الشرائية لرب الأسرة.
وأصبح اللبنانيون يستعيضون عن أطباقهم المفضلة الغنية باللحوم بحميات غنية بالخضراوات والحبوب بعد ارتفاع الأسعار بمعدل يتخطى الـ20 ضعفاً بالمقارنة مع ما كانت عليه، فتلك الأطباق استبدلت بأخرى أقل كلفة يتكرر تناولها خلال الأسبوع لتأمين الغذاء اللازم للعائلات كالحبوب مثلاً أو ربما الدجاج أحياناً في هذه الأزمة الخانقة، وإن كانت أسعارها ارتفعت أيضاً لكنها تبقى مقبولة بالمقارنة مع اللحوم التي تعجز نسبة كبيرة من المواطنين عن تناولها.
ارتفاع الأسعار
مع الارتفاع القياسي لأسعار اللحوم خلال الفترة الأخيرة أصبح كيلوغرام اللحم يعادل ربع الحد الأدنى للأجور، فكان لا بد من استبدالها بأطعمة وأطباق أقل كلفة.
هذا ينطبق على اللبنانيين من الطبقة الوسطى التي لم تخل موائدهم يوماً من اللحوم، فكيف إذا أشرنا إلى الطبقة الفقيرة التي باتت تشكل أكثرية في المجتمع؟ أصبح تناول اللحوم بالنسبة إلى هؤلاء أشبه بالحلم الذي قد لا يتحقق إلا في الأعياد.
هناك من المواطنين من يطلبون اللحم بمبلغ بسيط اليوم لمجرد إضافة القليل منه إلى الطهو ولم يعد المواطن يشتري اللحوم بحسب حاجته بل بحسب قدرته المادية التي تراجعت إلى حد كبير، وتماماً كما يقفون أمام الرفوف في السوبرماركت لاختيار السلع الأقل كلفة، بات ينطبق ذلك على اللحوم فيحاولون اختيار الأقل كلفة منها.
ولأن اللحم البلدي أغلى ثمناً طبعاً من ذاك المستورد البرازيلي أو الهندي يرضى بعضهم بتناول المبرد لإدخال اللحوم في الأقل إلى غذائهم ويضيفونه إلى الطهو، فيما يفضل آخرون اختيار البلدي ليتناولونه ولو استثنائياً ويرفضون تناول الأنواع الأخرى، بحسب الجزار إيلي سعادة في بيروت.
لكن كثيرين يمتنعون اليوم عن تناول أي نوع من اللحوم بكل بساطة لارتفاع أسعارها، على حد قول سعادة، إذ يباع كيلوغرام لحم البقر البلدي بـ10 دولارات تقريباً، فيما يصل سعر كيلوغرام لحم الغنم إلى 13 دولاراً أو 15 دولاراً تقريباً.
وربما ينخفض السعر قليلاً في المناطق البعيدة كالشمال أو في البلدات النائية والجبال، علماً أن هذه التسعيرة هي لكيلوغرام اللحم غير الممزوج مع اللحم المستورد الأقل ثمناً الذي لا يتخطى سعره ثلاثة دولارات، فيما يعمد كثيرون إلى القيام بهذه الخطوة حالياً لزيادة كمية اللحم.
اختفاء الموائد
يبدو واضحاً لسعادة أن الأمور اختلفت اليوم إلى حد كبير بالنسبة إلى اللبنانيين فيؤكد أن مبيع اللحوم تراجع حالياً بنسبة 50 في المئة، وكثير من الأهالي ممن اعتادوا شراء اللحوم بانتظام لم يعودوا يشترونها أبداً في ظل الأزمة، وربما يكتفون بشراء أي من الأنواع المبردة بشكل استثنائي من السوبرماركت بدلاً من زيادة الأعباء الكثيرة أصلاً عليهم حالياً. علماً أن الطلب على اللحوم المستوردة تراجع بنسبة 50 في المئة تقريباً أيضاً، مما دفع المستوردين إلى الحد من الكميات التي يشترونها.
واختار بعضهم استبدال لحم البقر والغنم بالدجاج لاعتباره أقل كلفة فتناول اللحم المشوي لم يعد متاحاً لكثيرين، كما في السابق، نظراً إلى تراجع سوق بيع لحم الغنم لأنه الأغلى ثمناً وربما يكون الدجاج الحل الأنسب عندها.
في المقابل، قلة من المواطنين تعتبر أسعار اللحوم اليوم منخفضة، فهؤلاء يتناولونها من دون مشكلة تماماً كالسابق، وهم طبعاً أولئك الذين يكون مدخولهم بالدولار الأميركي، فتبدو لهم منخفضة السعر بالمقارنة مع السابق وهذا فعلاً ما حصل “قبل الأزمة كان سعر كيلوغرام لحم البقر 12 دولاراً ويعتبر أنه انخفض اليوم بالدولار بالمقارنة مع السابق، لكن ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية تسبب بزيادته 20 ضعفاً بالليرة اللبنانية”.
لكن بشكل عام أصبحت جلسات اللحوم المشوية التي اعتاد اللبنانيون عليها بحيث يجتمعون كعائلات وأصدقاء في عطلة نهاية الأسبوع لتناولها نادرة لأن قلائل هم قادرون على تحمل مثل هذه النفقات الإضافية التي تزيد من أعباء الحياة.
وانطلاقاً من تراجع معدلات المبيعات إلى هذا الحد من الطبيعي أن يكون الطلب على اللحوم أقل فلم يعد سعادة يشتريها من التجار بمعدلات كبيرة كالسابق، خصوصاً مع انقطاع الكهرباء بما لا يسمح أيضاً بحفظ اللحوم مبردة لوقت طويل في حال عدم بيعها.
تراجع أسعار المواشي
مع تدني الطلب على اللحوم تراجع تلقائياً الطلب على المواشي فيشير تاجر المواشي جريس القصيفي إلى أن المبيعات انخفضت بنسبة 70 أو 75 في المئة بسبب الأزمة والأسوأ بالنسبة إليه كتاجر أن أسعار العلف ارتفعت بشكل جنوني، فبلغ سعر طن الشعير 400 دولار أميركي، خصوصاً في ظل حرب أوكرانيا وروسيا التي أسهمت في زيادته أكثر، مما يفاقم الأعباء وانعكس ذلك سلباً على أسعار المواشي فسعر العجل هوى إلى 2000 دولار تقريباً، فيما وصل سعر الغنم إلى حوالى 500 دولار.
واليوم كتاجر قد يبيع القصيفي اثنين أو ثلاثة عجول فقط في الأسبوع بسبب تراجع الطلب بعدما كان يبيع 10 أسبوعياً، حتى إن الجزار قد يكتفي بنصف عجل في الأسبوع بعد أن كان يطلب اثنين سابقاً، خصوصاً أن المواطنين الذين لا يزالون قادرين على شراء اللحوم ربما يتقبلون فكرة تناول أي نوع من اللحوم في هذه الأزمة وإن اشتروا تلك المبردة من السوبرماركت.
ويقول القصيفي إنه ربما يبيع كيلوغرام لحم البقر اليوم بدولارين أو دولارين ونصف الدولار، فيما سعر كيلوغرام لحم الغنم كان أربعة دولارات أيضاً ومع تراجع الطلب انخفض إلى 3.5 دولار، مضيفاً أنه عندما بلغت تسعيرة الدولار في السوق الموازية 20000 ليرة كان مبيع المواشي واللحوم لا يزال بمستوى مقبول، لكن الوضع ازداد سوءاً إلى حد كبير عندما تخطى سعر صرف الدولار مقابل العملة الوطنية 30000 ليرة.
ما يبدو واضحاً أن الأزمة لم ترحم أحداً، فمن من اللبنانيين لم يتأثر بها بشكل من الأشكال؟ حكم على المواطن بأن يتأقلم مع هذا الواقع الجديد على رغم قسوته عبر إيجاد البدائل التي يمكن أن تسمح له بالاستمرار بنمط عيش مقبول وإن فقدت خلال محاولته في كثير من الأحيان أدنى مقومات العيش الكريم.
Follow Us:
كارين اليان ضاهر – اندبندنت