خالد أبو شقرا – نداء الوطن
تنطبق نظرية تأثير اليويو “yo-yo effect”، حفراً وتنزيلاً على واقع السياسة النقدية المتبعة، منذ انفجار الازمة في نهاية العام 2019. فكما تؤدي الحمية الغذائية الخاطئة، بحسب مُطلق المصطلح كيلي د. براونيل، إلى “فقدان الوزن واكتسابه مرة أخرى بصورة دورية، يؤدي التلاعب بالدولار إلى تقلبات “وحشية” في سعر الصرف. وإذا كان الفشل في النظام الغذائي يؤدي إلى اكتساب الوزن، فان عدم تأمين الثوابت للمحافظة على سعر صرف مستقر نسبياً يدفع إلى نتائج اقتصادية، اجتماعية، ومالية خطيرة جداً.
لم تتراجع الاسعار بنفس نسبة انخفاض سعر صرف الدولار، وهذه هي الحقيقة المرة الوحيدة لتحسن قيمة الليرة. في الصيدلية الواقعة بمنطقة بعيدة عن بيروت، وقف الشاري قبل أول من أمس، مندهشاً من عدم تراجع الاسعار. فسعر مضاد الإلتهاب الذي أخذه قبل اسبوع عندما كان سعر الصرف 40 ألف ليرة، ما زال هو نفسه رغم تراجع الدولار 5 آلاف ليرة. وعند سؤاله عن السبب قال الموظف: “بعد ما غيرنا التسعيرة!”. هذا التباطؤ بتغيير الاسعار في بعض الصيدليات، كما غيرها من المؤسسات والمتاجر ومقدمي الخدمات يخسّر المستهلك نسبة قد تصل إلى 12.5 في المئة من دخله. وبما أن كل القطاع العام، وجزءاً غير قليل من القطاع الخاص، وذوي المغتربين يتقاضون الدولار النقدي ويصرفونه لتلبية متطلباتهم الحياتية، فان الخسائر التي تلحق بالمواطنين ليست فقط كبيرة إنما مضاعفة؛ مرة بالتصريف على سعر منخفض، وأخرى بالشراء على سعر مرتفع.
الدولار 37100 ليرة
في الوقت الذي كانت فيه مختلف “دكاكين” الصرافة، تصرّف الدولار على رقم يتراوح بين 34 و35 ألف ليرة صباح يوم أمس، أصدرت وزارة الطاقة جدول تركيب الاسعار بزيادة 49 ألف ليرة على البنزين، و62 ألف ليرة على المازوت. والسبب هو ارتفاع أسعار المحروقات نتيجة احتساب الدولار في جدول تركيب الاسعار يوم أمس على سعر 37100، عوضاً عن 35500 في جدول الاول من امس. وعليه، يكون المواطن الذي صرّف دولاره على 34 ألف ليرة وعبّأ صفيحتي بنزين على سعر 37100 ليرة، قد خسر 60 ألف ليرة بالصفيحة أي ما يعني 120 ألفاً بالصفيحتين.
الأمثلة عن الخسائر التي يتكبّدها المواطن نتيجة “تأثير اليويو” على سعر الصرف لا تعد ولا تحصى. وهي تزيد بشكل أكبر بكثير في القرى والمناطق التي يعتمد فيها المستهلكون على المحلات ذات الرساميل الصغيرة. إذ إن اصحاب هذه المحلات يهلكون، فعلاً لا قولاً، بعمليتي الانخفاض والارتفاع السريعتين في سعر الصرف. أما الجدل بأن تخفيض السعر لا يؤثر على الباعة، فهو أمر يحتمل النقاش. صحيح أن بيع التاجر للسلع بحسب سعر الصرف الجديد يسمح له بشراء نفس الكميات، إلا أن رأسماله بالليرة بتراجع. كما أن عودة الاسعار إلى الارتفاع بين يوم وآخر، أو حتى ساعة وأخرى بمعدل 2000 ليرة للدولار، يحمّله خسارة بنفس نسبة ارتفاع الاسعار. الامر الذي يعجز كثيرون عن تحمله.
إيجابيات التسعير بالدولار
أمام هذا الواقع الذي يخسر فيه المواطن والتاجر على حد سواء، يصبح الحل الوحيد والمنطقي هو التسعير بالدولار أو ما يعرف بـ”دولرة الاسعار”. الامر الذي يكفل معالجة العديد من المشاكل، بحسب رئيس “المعهد اللبناني لدراسات السوق”، د. باتريك مارديني، ومنها:
– الحد من تقلبات الاسعار، والسماح للمواطنين بمعرفة السعر الحقيقي للسلع.
– توفير الشفافية في السوق بالنسبة للتاجر والمستهلك على حد سواء.
– تأمين الاستقرار، والمساعدة على جذب الاستثمارات. ذلك أن عدم وجود أساس سليم وواضح لتحديد أكلاف الانتاج وآلية التسعير في عمليات البيع، ينفّر المستثمرين ويحرم البلد من الكثير من الفرص الواعدة.
– القضاء على هامش “عدم اليقين” الذي يضيفه التجار على أسعار بضائعهم، تحسباً من ارتفاعات محتملة في سعر الصرف عند عملية شراء البضائع. كأن يعمد التجار مثلاً إلى التسعير على أساس 38 ألف ليرة أو حتى أكثر حتى مع انخفاض سعر الصرف إلى 35 ألف ليرة، لحماية انفسهم من ارتفاع سعر الصرف عندما يحين موعد تسديد الفواتير.
– إنخفاض أسعار مختلف السلع والخدمات نتيجة عملية التسعير الحقيقي.
تعزيز مالية الدولة
الإيجابيات للتسعير بالدولار لا تقف عند المفاعيل الآنية والسريعة، إنما تتخطاها في المرحلة الثانية إلى “إمكانية تسديد أجور العمال بالدولار، نظراً لكون المؤسسات تتقاضى أتعابها أو بدل أسعار منتجاتها بالدولار”، من وجهة نظر مارديني. و”من بعد هذه المرحلة يصبح بامكان الدولة مطالبة القطاع الخاص بتسديد الضرائب والرسوم بالدولار، وبالتالي تحسّن ماليتها، وزيادة ايراداتها بشكل حقيقي”.
الحد من خسائر المواطنين والتجار
أكثر من ذلك فان التسعير بالدولار يتيح للمواطنين من حملة النقد الصعب، وهم أصبحوا الاكثرية في ظل تسديد رواتب القطاع العام على أساس صيرفة، بالدفع مباشرة بالدولار. “الامر الذي يحد من جهة، من خسارة المواطن في عملية تحويل الدولارات إلى ليرات في السوق الموازية على سعر منخفض، ويقلل من الجهة الثانية خسائر التجار نتيجة اضطرارهم لتحويل الليرات إلى دولارات على سعر مرتفع”، بحسب عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عدنان رمّال. وبالتالي “تتقلص فجوة الخسارة في عمليات بين سعري الصرف التي لا يستفيد منها إلا تجار العملة. ويحافظ البائعون على أرباحهم، والمستهلكون على قدرتهم الشرائية، ويخف الضغط على الدولار نتيجة تراجع طلب التجار”. من هنا يرى رمّال أنه “من وجهة نظر علمية من المفضل أن يتم التسعير بالدولار، وترك الحرية للمستهلكين الدفع بالدولار النقدي، أو بالليرة بحسب سعر الصرف الآني. وهذه العملية لا تحمي المواطنين من عدم تراجع الاسعار مع انخفاض الدولار فحسب، إنما تساعد على خلق منافسة حقيقية في السوق وبين المتاجر”. وبرأيه فانه “باستثناء السلع الاستهلاكية اليومية، فان كل السلع المعمرة من سيارات وأدوات كهرباء وقطع غيار سيارات ومفروشات… أصبحت تسعّر بالدولار. ولا سيما مع تسديد التجار أثمانها بالدولار، و”تقريش” الضرائب والرسوم المقومة بالليرة اللبنانية، على أساس سعر الصرف وإضافتها على الكلفة النهائية.
الشعبوية
أمام كل هذه الحسنات، يصح السؤال عن القطبة المخفية التي تحول لغاية اللحظة دون التسعير بالدولار على مستوى واسع؟ ولا سيما أن الدولة بنفسها (وزارة السياحة)، سمحت للفنادق والمطاعم التسعير بالدولار خلال موسم الصيف الماضي. وذلك من أجل حماية المؤسسات من تقلبات الاسعار، وما قد ينتج عنها من مشاكل مع السياح والمغتربين. فلماذا لا يصح على بقية القطاعات ما صح على السياحة، وأثبت نتائجه الايجابية؟ “لانه ببساطة وزارة الاقتصاد لا تزال ترفض اتخاذ هذا القرار”، برأي مارديني. “إذ لا يعود عندها للوزير الشعبوي إمكانية استعراض بطولاته بتسطير المخالفات أمام التلفزيونات بحق المؤسسات التي لا تخفض أسعارها مع كل تراجع بسعر صرف الدولار”.
لا شك أن هناك عقبة أخرى تتعلق بـ”السيادة” تعيق التسعير بالدولار. لكن، هل احترمت هذه السيادة مع السماح تاريخياً لشركات الخلوي بالفوترة بالعملة الصعبة؟ وهل تحترم هذه السيادة بالهتك اليومي للقدرة الشرائية للمواطنين في لعبة رفع وتخفيض سعر صرف الدولار؟ وهل التسعير بالدولار وحده ما يعرض السيادة الوطنية للانتهاك؟