خالد أبو شقرا – نداء الوطن
يوماً بعد آخر تتعمق الازمة النقدية ويصبح حلّها أكثر صعوبة. جزء أساسي من المشكلة المتفاقمة يعود إلى الخيارات التي انتهجها مصرف لبنان قبل انفجار الازمة في نهاية العام 2019، وبعدها. ذلك أن “الوسيلة الوحيدة لاتخاذ القرار الصحيح هو الاعتراف بالقرار الخاطئ”، على حد تعبير الكاتب والروائي باولو كويلو. وهذا ما لم يفعله “المركزي”. فعزز سياسة الانكار، بسلسلة لا تنتهي من التعاميم التي لم تقف عند حدود السياسة النقدية، إنما تعدتها إلى الاقتصادية والمالية وحتى الاجتماعية.
مثلما عوّدنا منذ بداية الازمة، أصدر مصرف لبنان مطلع الشهر الحالي تعميماً جديداً حمل الرقم 648 (قرار وسيط رقم 13495) توجّه فيه إلى المصارف، وأبرز ما جاء فيه: تخفيض الفوائد لأجَل وفوائد شهادات الايداع بالدولار الاميركي المودعة لدى مصرف لبنان من المصارف العاملة في لبنان بنسبة 50 في المئة. على أن يُعمل بأحكام هذا القرار لمدة ستة أشهر اعتباراً من تاريخ صدوره في 1 تشرين الثاني 2022.
فماذا يعني هذا التعميم؟ وكيف يمكن أن يؤثر على المصارف والمودعين؟
“يطبّق هذا القرار على كل التزامات “المركزي” تجاه المصارف سواء كانت ودائع مباشرة بالدولار، أو شهادات إيداع مكتتب بها”، يقول رئيس قسم البحث والتحليل الاقتصادي في “بنك بيبلوس” نسيب غبريل. “وهي ستؤدي حكماً إلى تراجع إيرادات المصارف من هذين المصدرين بنسبة 50 في المئة. وستؤثر بالتالي على حجم المؤونات التي تأخذها البنوك على سندات “اليوروبوندز”، وعلى محفظة التسليفات للقطاع الخاص، وعلى المصاريف التشغيلية”. وستضاف هذه التراجعات برأي غبريل “على كل الخسائر التي تتحملها المصارف، التي تعاني أساساً من انعدام الارباح. وهو الامر الذي يبرز بشكل واضح بميزانياتها المنشورة. من دون أن ننسى الانخفاض في الذي طال محفظة القروض المصرفية للقطاع الخاص، بنسبة 62 في المئة منذ العام 2019. وجزء كبير من هذه المحفظة متعلق بالتسليفات بالعملة الاجنبية للافراد التي ما زالت تدفع بالليرة اللبنانية على سعر صرف 1500 ليرة، بحسب تعاميم مصرف لبنان. ومحفظة القروض هذه التي تشكل مصدر إيرادات مهماً للمصارف، تضاءلت بشكل كبير حتى كادت تختفي”. ويضاف، بحسب غبريل، إلى هذه الخسائر “توقف المصارف عن الاقراض نتيجة الظروف التي لم تعد خافية على أحد. وأخذ المصرف المركزي قراراً بتسديد الفوائد على الودائع وشهادات الايداع بالعملة الاجنبية مناصفة بين الليرة والدولار منذ آذار العام 2020”. وهو ما عاد وأكد عليه في التعميم الاخير.
المودعون لن يتأثروا
تدابير “المركزي” التي تؤدي إلى تراجع إيرادات المصارف، سبق لها ونشفت المودعين بالتكافل والتضامن مع البنوك. فالاخيرة لا تسدد نصف الفوائد على الودائع لزبائنها بالدولار نقداً، إنما تضيفها على الحسابات المحجوزة، ويسحبها المودعون عند استحقاقها بالليرة اللبنانية على أساس التعميم 151، أي على سعر 8000 ليرة. وبالتالي هي “مجرد قيود تسجل في الميزانيات، وعلى شاشات الحواسيب”، بحسب المستشار المالي د. غسّان شماس. و”غير ذات قيمة بالنسبة للمودعين. إنما بالنسبة للمصارف فالودائع المدفوعة من مصرف لبنان، حتى ولو كانت على شكل قيود محاسبية، فهي تظهر كأرباح في ميزانياتها. وهي بأمس الحاجة إلى هذه الارباح المقيدة مع اختفاء أي مصدر آخر باستثناء العمولات لتحقيق المداخيل وتبقى شكلياً على قيد الحياة.
التوقف عن تدليل المصارف
مما لا شك فيه أن “المركزي” هدف من وراء التعميم الاخير، الذي يقضي بتخفيض الفوائد على ودائع المصارف بنسبة 50 في المئة، والاستمرار بتسديدها مناصفة بين الليرة والدولار، “تسكير يده على الاحتياطي الذي ما زال بحوزته”، برأي شماس. إنما الاهم معرفة نسبة الفوائد الجديدة التي يدفعها على الدولار. والتي يجب أن تكون أقل من تلك التي يتقاضاها على توظيفاته، خصوصا أن الفوائد في العالم ما زالت رغم الارتفاعات بسيطة، بالمقارنة مع تلك التي تدفع محلياً حتى بعد تخفيضها. وهنا يسأل شماس افتراضياً هل كانت الفوائد تدفع من كيس “المركزي”؟ ليخلص أن هذا الاجراء المتعلق بتخفيض الفوائد كان يجب أن يتخذه “المركزي” منذ بداية الازمة.
“في جميع الحالات لا يمكن وضع تخفيض الفوائد على ودائع المصارف إلا في خانة توقف “المركزي” عن تدليل المصارف”، يقول شماس، “وقد أتى هذا الاجراء متأخراً لما لا يقل عن عامين. وقد يكون أول ارهاصات الاصلاح المصرفي في لبنان”.
رفع قيمة السحوبات مؤجلة
مع كل تطور نقدي أو مالي يعود سؤال المودعين عن إمكانية رفع قيمة السحوبات بحسب التعميم 151، من 8000 ليرة للدولار إلى رقم أعلى قد يكون 12 أو حتى 15 ألف ليرة. وهذه المناسبة التي أوحت للكثيرين أن “المركزي” قد “يستفضل” بعض الاموال لم تشذ عن هذا السياق. وبرأي غبريل فان موضوع رفع قيمة السحوبات مؤجل وليس ملغى بشكل كلي.
وقد تفتحت العيون عليه بشكل كبير مع اتخاذ المالية قراراً بتخفيض سعر الصرف الرسمي إلى 15 ألف ليرة قبل فترة ليست بطويلة. الامر الذي يرفع قيمة السحوبات بشكل تلقائي من حيث المنطق. وفي جميع الحالات، فإن قرار تغيير سعر الصرف من الناحية التقنية، يُتخذ بالتنسيق بين مصرف لبنان والمالية، ويجب أن تكون الاجواء مهيأة له. وهو ما سيحصل ويجب أن يحصل.
وعندها يصبح لحاق التعميم 151 به أمراً مطروحاً. إنما هذا لا يعني، بحسب غبريل، “زيادة الكمية المعطاة بالليرة اللبنانية. فاذا كان مثلاً الحد الاقصى للسحوبات هو 3000 دولار على أساس 8000 ليرة للدولار، قد يصبح 1600 دولار على سعر صرف 15 ألف ليرة. بشكل أن يبقى مجمل المبلغ بالليرة 24 مليوناً”. وهذا طبعاً يرتبط بحسابات حجم الكتلة النقدية بالليرة وانعكاسها على الكثير من الامور ومنها سعر الصرف.