زياد المكاري – النهار
للبنان ثروتان: الحرية والإنسان. ولكن هذا اللبنان يختلف عن غيره من البلدان، من حيث تكوين شعبه المتعدّد الأديان، والمتنوّع الانتماءات الثقافية والفكرية.
فهل لبنان رسالة، أم لبنان الرسالة ادّعاء لم يصنع وطناً؟
منذ 1920، واجه لبنان صعوبة في تحديد هويته والتغلّب على تناقضات مكوّناته، التي سار بعضها في طريق التعريب، وسلك بعضها الآخر سكّة التغريب.
عام 1943، تجدّد الخلاف على الهوية الوطنية، فعلّقنا البحث فيها 46 عاماً. بعضنا تشبّث بفينيقية لبنان، وبعضنا الآخر تمسّك بعروبته، وخلصنا في حينه إلى لبنان ذي وجه عربي، وإلى “لاءين” لم تصنعا وطناً، إلى أن حسم “الطائف” عروبة لبنان هويةً وانتماءً بعدما عالجها بشكلٍ متوازن.
أزال “الطائف” اللغط التاريخي بين الإسلام والعروبة، وطمأن المسيحيين بعروبة حضارية علمانية، فبات “الطائف” عروتنا الوثقى كلبنانيين، وعروبتنا الصلبة، ولا بأس هنا من الاستعانة بالمطران جورج خضر الذي كان يقول: “ليس في وسعنا إلاّ أن نعيش معاً مسلمين ومسيحيين مرتبطين بالعرب. إنّ ضمانتنا الوحيدة هي الجار العربي، والانعزالية هي الانتحار”.
الهوية الملتبسة التي عاشتها الجمهورية الأولى في أعوامها الـ 46، كانت ولّادة لخلافات وصراعات، بدأت كلامية وانتهت دموية.
“اتفاق القاهرة” في تشرين الثاني 1969 كان الشرارة الأولى، تلته صواعق كثيرة بدءاً من “حادثة البوسطة” في نيسان 1975، وصولاً إلى العام 1988حيث كان الانتحار. في أيلول من ذاك العام انقسمت السلطة التنفيذية إلى سلطتين وحكومتين، وعليه كان لا بدّ من جرّاح عربي لاستئصال الورم اللبناني، فكان “الطائف”.
هل هذا يعني أنّ دستورنا مستورد؟
لم يبدأ “الطائف” مع وصول نواب لبنان إلى السعودية في ختام أيلول 1989. مقدّمات كثيرة سبقت هذا التاريخ كانت على شكل أوراق ووثائق واقتراحات تنقّلت بين بيروت ودمشق والرياض وباريس وجنيف ولوزان.
الوثيقة الأولى والأكثر جديّة، هي “الوثيقة الدستورية” التي حملها الرئيس الراحل سليمان فرنجيه إلى دمشق في شباط 1976وأعلن بنودها من هناك.
انحاز الرئيس فرنجيه إلى عروبته، في وقت غزت مشاريع التقسيم والفيديرالية والانعزالية عقول الموارنة، فكانت “الوثيقة” أوّل مشروع “تنازل” مسيحي عن الصلاحيات لمصلحة الوحدة اللبنانية والشراكة الوطنية والاستقرار.
شكّلت “الوثيقة” مدخلاً لوقف الحرب، وكانت مسودة أولى لـ”وثيقة الوفاق الوطني” التي انبثقت من “الطائف”.
ألا يعني ذلك شيئاً؟
14 عاماً كان يُمكن إسقاطها من عمر الحرب اللبنانية التي استمرّت 15 عاماً، ولكن قطار الحرب كان أسرع من قطار السلم، والأسباب كثيرة، على رأسها المخطّطات الخارجية للخرائط الداخلية.
بعد 7 سنوات على وثيقته الإنقاذية الأولى، أسّس الرئيس فرنجيه لـ”جبهة الخلاص الوطني” في تموز 1983. مشروعه الأوّل كان أحادياً، ومشروعه الثاني كان موسّعاً، وبمثابة إضافة لمشروعه الأوّل.
في “الجبهة”، قدّم الرئيس فرنجيه مشروعاً متكاملاً، ساهم بإلغاء “17 أيار” ومفاعيله السلبية، ووضع اللبنة الثانية لـ”اتفاق الطائف” بعد لبنة “الوثيقة الدستورية “.
بعد 13 عاماً على “وثيقة” الرئيس فرنجيه، وبعد 6 سنوات على استيلاد “جبهة الخلاص الوطني”، أُقرّت “وثيقة الوفاق الوطني” في الطائف، برعاية سعودية وضمانة عربية وتأييد دولي، وكان العبور الآمن إلى زمن السلم.
شارك الرئيس فرنجيه في مؤتمر “الطائف” من خلال إيفاده الدكتور عبد الله الراسي لتمثيله في الاجتماعات.
وأكّد الرئيس فرنجيه على التزامه “اتفاق الطائف” من خلال سيره بترشيح الرئيس الشهيد رينه معوض، علماً أنّ فرنجيه كان في حينه مشروع رئيس للمرة الثانية، لو لم يتمّ تعطيل نصاب جلسة 18 آب الشهيرة للحؤول دون انتخابه، ومع ذلك انسحب وبارك.
كان “الطائف” من دون أدنى شك طريق السلم، ولكن ماذا عن طريق الدولة؟
الاجتهادات كثيرة، والتأويلات أكثر، ولكن الأكيد هو أنّ “الطائف” لبناني، وهذا كافٍ لنتمسّك به… و”الطائف” علماني، وهذا كافٍ لنتشبّث به… و”الطائف” وفاقيّ، وهذا كافٍ لنُبقي عليه… والأكيد أيضاً أنّ “الطائف” ورقيّ ولم يسلك طريقه إلى التنفيذ، وهذا كافٍ لنطالب بتنفيذه قبل أن نطالب بتعديله.
لعلّ وعسى أن يكون مؤتمر “الأونيسكو” اليوم، الذي يجمع شهوداً على ولادة “الطائف” وحراساً على تطبيقه، الخطوة الأولى على طريق تنفيذه ليُبنى على الشيء مقتضاه.