تداولت وسائل الإعلام خبراً الأسبوع الماضي أثار قلق المواطنين اللبنانيين الذي يرزحون بالأساس تحت كم هائل من الهموم والمصاعب، مفاده إقامة مشروع لتخزين مواد ملوثة إشعاعياً في جرود بلدة نحلة البقاعية، في منطقة تعد مصدراً لمياه الشرب.
في ظل انعدام الثقة بالدولة، من الطبيعي أن يكون خبر مماثل مصدراً للقلق، خصوصاً بعد أن تكررت نظائره منذ انفجار مرفأ بيروت. فقد أصبح المواطن يعيش في خوف دائم ويشعر بأن حياته مهددة في كل لحظة. يقضي المشروع المعني بإقامة “مخزن للقية الملوثة إشعاعياً” في البلدة البقاعية، مما يطرح علامات استفهام حول ما قد تكون له من تداعيات صحية وأمنية وبيئية ومن انعكاسات على حياة المواطنين، خصوصاً أهالي البلدة التي سيقام فيها المخزن.
في زيارة إلى مقر الهيئة الوطنية للطاقة الذرية للقاء رئيسها بلال نصولي للإجابة عن التساؤلات المطروحة في هذا الإطار، كانت لـ”اندبندنت عربية” جولة في مقر الهيئة، إذ تتخزن المواد المذكورة في الطوابق السفلية وفق معايير معينة من سنوات عديدة بانتظار نقلها إلى المخزن المخصص لها.
مساع ومشاورات بانتظار التنفيذ
لا تعتبر هذه القضية وليدة الساعة بل عمرها سنوات طويلة، وفق ما أوضح نصولي، وذلك بعد وقوع مشكلات بشأن وجود هذه المواد المشعة في لبنان وشكاوى بشأن تجار الخردة في البلاد التي يصدرونها إلى الخارج من دون علم بوجودها. بعد التدقيق في الموضوع صدر قرار عن مجلس الوزراء في عام 1997 يقضي بإخضاع كل شحنة خردة تخرج من لبنان إلى الفحص من قبل الهيئة الوطنية للطاقة الذرية للمصادقة على خلوها من المواد المشعة، علماً بأن الخردة قد تستقدم من أماكن معينة كمستشفيات أو غيرها دمرت في حروب مثلاً فتحتوي على مواد مشعة.
يضيف في دول أخرى تخضع الخردة إلى فحوص للتحقق من عدم وجود مواد مشعة فيها وإلا تعاد إلى حيث تم استقدامها مع شكوى على الدولة المصدرة لاعتبار ذلك يدخل في إطار تهريب النفايات المشعة، التي من الممكن استيرادها لاستخدامات طبية معينة وتكون مرخصة وتخضع للرقابة، لكن ثمة مواد مشعة لا يعرف مصدرها وتكشف بأجهزة خاصة بالتنسيق مع الجمارك ويتم عزلها.
وتابع بين عامي 1997 و2007 تولت الهيئة الوطنية للطاقة الذرية مهمة الكشف الإشعاعي على أنواع الخردة كافة، وأصبحت هناك شبكة للكشف الإشعاعي في لبنان تحت سلطة الجمارك اللبنانية وإدارتها في إطار برنامج مع وكالة الطاقة الذرية لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمواد المشعة. إنما برزت الحاجة إلى تأمين مخزن لهذه المواد يتميز بكونه “آمناً ومأموناً”، بحيث لا يتسبب بالأذى لأحد بسبب المواد التي فيه، وفي الوقت نفسه يكون محمياً من أي تعد أو سرقة بهدف استخدام المواد لتهديد الأمن القومي من خلال اغتيالات أو تفجيرات تتسبب بحال هلع في المناطق المعنية، وإن كانت لا تسبب مزيداً من الأضرار.
يستطرد رئيس هيئة الطاقة الذرية، “لم يكن أمامنا سوى حلين، فإما أن تترك الأمور على حالها بعشوائية ومن دون إدارة فتستمر الشكاوى ضد الدولة اللبنانية أو أن يجري العمل على إدارة هذه المواد المشعة وتخزينها وفق المعايير العالمية في مخزن خاص بها، كما في أية دولة بالعالم. وكونه موضوعاً أمنياً، قضى الطرح الأول بتأمين مخزن للنفايات المشعة ضمن إحدى ثكنات الجيش بحيث يكون الجيش مسؤولاً عن حمايتها، إضافة إلى كونه يتمتع بحرية التصرف في هذا المجال”.
تحفظ كل من المواد بحسب درجات الإشعاع وفق معايير معينة
في عهدة الجيش
بعد التواصل مع رئاسة الحكومة ووزارة الدفاع وتأسيس لجنة لمتابعة هذه القضية، تم اختيار ثكنة للجيش في جنوب لبنان لإقامة المخزن وفق المعايير المطلوبة بحماية الجيش وتحت مسؤوليته، وقد أرسلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية خبراء للتدقيق في الثكنة التي اعتبرت الفضلى من حيث الأمان والموقع والشكل، مع حرصها على تأمين ممول للمشروع. إنما بقي الأثر البيئي والدراسة الزلزالية للمباشرة بالمشروع على الأرض، فكانت المفاجأة أنه بعد يومين أظهرت الدراسات الزلزالية والبيئية أن المنطقة عرضة لفيضانات وزلازل بشكل طرح علامات استفهام لدى المعنيين، خصوصاً أن دراسات مماثلة قد تتطلب أشهراً طويلة.
توقف المشروع وتبين للوكالة الدولية للطاقة الذرية أن هذا الطرح قد لا يكون قابلاً للتطبيق بعد ما أثيرت من بلبلة حوله وكأنه يستهدف أهالي المنطقة. نظراً إلى كل هذه التعقيدات، اتخذت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قراراً بتخزين المواد المشعة بشكل موقت في مقر الهيئة الوطنية وفق المعايير الدولية، لأنها لا يمكن أن تحفظ بطريقة عشوائية ولا يمكن تصديرها أو التخلص منها أيضاً، استناداً إلى المعاهدات الدولية التي تمنع تصديرها. علماً بأنه في دول أخرى ثمة نفايات مشعة ذات مستويات عالية تحفظ في مناطق غير مسكونة بعد إجراء الدراسات اللازمة. من حينها أرسلت الوكالة خبراء لدراسة المشروع وتم تخزين المواد المشعة في مقر الهيئة وفق المعايير المطلوبة بحيث لا تشكل خطراً على العاملين في المبنى.
تخزين موقت امتد لسنوات
أثناء جولة بالطوابق السفلية في المبنى حيث تخزن المواد المشعة المعنية، رأيناها محفوظة في صناديق من الرصاص صممت في لبنان، وهي حائزة على شهادة ISO. وتوضع فيها 10 سنتمترات من الباطون ثم المادة المشعة علماً بأن الخطر الوحيد من هذه المواد هو عند استخدامها بشكل خاطئ، وذلك عندما يتعرض لها الإنسان بشكل غير مبرر، تماماً كما في حال التعرض لدواع طبية.
المواد المشعة المخزنة في مقر الهيئة من حوالى 13 سنة ليست بالأطنان، بل أكدت الهيئة الدولية للطاقة الذرية أنه بالوتيرة التي تكتشف فيها اللقى الشعاعية، قد لا تبلغ الكمية الموجودة حجم حاوية ونصف كحد أقصى خلال أكثر من 50 سنة ومن واجبات الدولة إدارة هذه النفايات المشعة وفق الأصول كأية دولة أخرى.
في المقابل وبحسب متخصصين فإن ما يدعو إلى القلق قد لا تكون طريقة تخزين وإدارة هذه المواد، بل تطرح علامات استفهام حول مصادرها لاعتبار أن نسبة 95 في المئة منها ليس من لبنان. فقسم من الخردة يحتوي على مواد مشعة تأتي من الصناعة النفطية غير الموجودة بالبلاد، وبعضها من أدوات عسكرية فيما ليست هناك حرب أيضاً ويستحيل أن تكون من البلاد. هذا ما يؤكد وجود تهريب للركام المعدني الذي يصل إلى لبنان عبر الحدود من تجار الخردة من سوريا والعراق، بالنسبة الأعلى منه. فبلغ معدل المواد المشعة التي دخلت لبنان الذروة في فترة الحرب في سوريا وأيضاً في فترة حرب العراق، والأسوأ أنه بدخول هذه النفايات المشعة إلى البلاد تصبح لبنانية ولا يعود من الممكن التخلص منها بطريقة شرعية، على رغم المساعي والتحذيرات بضرورة ضبط الوضع من عام 2008.
تُكشف المواد المشعة في الخردة بواسطة أجهزة خاصة
بغياب الهيئة الرقابية كان من الممكن منع لبنان من استيراد المواد المشعة لأهداف طبية. فبدا ضرورياً إدارة القطاع الذي يعكس التطور الاجتماعي والاقتصادي للدول، بحسب نصولي. في لبنان تتولى الهيئة الوطنية للطاقة الذرية إعطاء تراخيص لنقل وتصدير واستيراد واستخدام المواد المشعة في لبنان مع وزارة الصحة. وفي عام 2005 تبين وجود 45 مادة خطرة يجب التخلص منها وهي معروفة المصدر، كانت قد استخدمت لأهداف طبية ومع زوال أثرها وفاعليتها خزنتها المستشفيات بدلاً من التخلص منها، إلى أن تولت الهيئة وطوال 10 سنوات مهمة التخلص منها وإعادتها إلى الشركات المصنعة لاعتبارها معروفة المصادر بالتعاون مع الوكالة التي أمنت ممولين لذلك. علماً بأن أي استخدام في لبنان لمواد مشعة يقتضي التوقيع على اتفاق لإعادتها إلى مصدرها بعد الانتهاء من استخدامها، وذلك منذ صدور القانون في عام 2005.
بعد انفجار مرفأ بيروت، عادت وتحركت المساعي بشأن هذه المواد المشعة نظراً إلى أجواء التوتر والقلق في البلاد جراء ما حصل. تم تكليف الهيئة بالتعاون مع الجيش والأمن الداخلي والجمارك وأمن الدولة والدفاع المدني والوزارات المعنية كافة بتكشيل لجنة وتقديم توصيات أمام المجلس الأعلى للدفاع، ومن ضمنها المتخصصون في هذه الجهات المعنية، وإيجاد العقار المناسب في سلسلة جبال لبنان الشرقية، وتكليف وزارة المالية تأمين التمويل للمشروع ومجلس الإنماء والإعمار والجيش والهيئة إجراء الدراسات اللازمة منذ عامين. كما تكلفت وزارة الخارجية بالبحث مع الوكالة بشأن دول صديقة يمكن أن تقدم المساعدة في هذا المشروع. فكانت هناك مراسلات مع فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا.
بدأت وزارة البيئة الألمانية بالتعاون لتأمين المساعدة التقنية وإجراء الدراسات لتأمين التمويل بعدها على أساس الكلفة المحتملة. وفي الوقت نفسه كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتابع لتوفير الحلول مع دول أخرى، في إطار خطة تعزيز الأمن النووي للبنان. تم اقتراح 13 عقاراً في سلسلة جبال لبنان الشرقية وبعد إجراء الدراسات الجغرافية والميدانية، تم اختيار ثلاثة منها على أن يتم تأليف لجنة مشتركة مع الجيش بالدراسات اللازمة، وقد أمن الجيش مهندسين من قبله لإجرائها حتى يجري البحث بعدها عن التمويل اللازم. بالتالي لم تنفذ بعد الدراسات حول الأثر البيئي وحول ما إذا كان العقار مطابقاً للمواصفات المطلوبة لمشروع مماثل وقد تستمر حوالى ستة أشهر. ومن المفترض تأليف لجنة بالتعاون مع الجيش وخبراء والمجلس الأعلى للدفاع خلال الشهر الحالي للمضي قدماً في المشروع الذي له أهمية كبرى للبنان، بحسب نصولي.
في أخطار المواد المشعة
حول ما يمكن أن تنتج من أخطار عن هذه المواد المشعة المخزنة في مبنى الهيئة الوطنية للطاقة الذرية بانتظار إنشاء مخزن خاص بها لنقلها إليه، تحدث مدير قسم الطب النووي في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت ورئيس الجمعية العربية للطب النووي محمد حيدر، مشيراً إلى أن المواد المشعة المستخدمة طبياً أو صناعياً أو لدواع أخرى تخضع للإشراف المتخصص ولها معدلات من الإشعاع أعلى بكثير من تلك المنبعثة من المواد المخزنة المشار إليها. علماً بأنه من المواد عامة ما يصدر أشعة ألفا، ومنها ما يصدر أشعة بيتا وهما لا تشكلان خطراً إلا في حال الحمل باليد. ومن المواد ما يصدر أشعة جاما ذات خطورة أعلى، ويبلغ الإشعاع الصادر منها أمتاراً عدة.
معظم المواد الموجودة في لبنان هي من تلك التي تصدر أشعة ألفا أو بيتا وتحتوي على الروديوم، كما يوضح حيدر. لكن تتبقى المواد التي تحتوي على السيزيوم وهي ذات الخطورة الأعلى وتستخدم في الصناعة، إنما طريقة الحفظ والتخزين تلعب دوراً هنا أيضاً. “في حال حفظ المواد المشعة في صندوق من الرصاص وفق المعايير المطلوبة، لا تشكل خطورة. وبالنسبة إلى المواد التي يحضرها التجار من خارج لبنان فقد تحتوي حاوية على قطعة مشعة تكشفها الهيئة الوطنية للطاقة الذرية. عادة قد تحفظ المواد المشعة سنوات عديدة حتى يزول الإشعاع منها، لكن لا يمكن تحديد المدة لذلك، وثمة حاجة ملحة لحفظها بشكل آمن حتى يحين وقت التخلص منها. علماً بأن كل هذه المواد المذكورة ليست من لبنان بل من الخارج، إنما لم تستورد لأغراض إرهابية حكماً”.
لا بد من التوضيح أن ثمة عوامل عدة تلعب دوراً في تحديد خطورة الناتجة مواد مشعة وهي درجة الإشعاع ونوعه ومدة التعرض لها وتوافر الحماية المطلوبة. وحتى بالنسبة إلى المواد الأكثر خطورة الموجودة بنسبة قليلة في لبنان، ثمة حاجة إلى أيام من الاتصال المباشر من دون تحصين حتى يكون لها أثر، وفق حيدر. أما في ما عدا ذلك، فليس لها أي تأثير في الإنسان والدليل على ذلك أنها وضعت في مبنى الهيئة الوطنية للطاقة الذرية من سنوات عديدة ولم ينتج منها أذى على الموجودين في المبنى، بما أنها محفوظة وفق معايير معينة مع تحصين وكحواجز أمام الإشعاع في صناديق من الرصاص.
لكن لمزيد من الأمان، وبما أن المكان لا يعتبر كذلك لوجود مثل هذه المواد، تستمر المباحثات لإنشاء مخزن خاص بها ولوضعها تحت إشراف الجيش. مع الإشارة إلى أنه حتى في حال حصول أي تسرب منها لا تنتج أخطار تذكر عنها. كما أنها مواد صلبة لا تذوب ويجب عدم القلق بشأن هذا الموضوع، وإن كانت لن تطمر في التراب بل ستوضع في صناديق من الرصاص في المبنى. ففي حال إقامة المخزن بمنطقة جبلية بعيدة لا يمكن أن تشكل أي خطر على الإنسان.
في كل الحالات فإن الهدف من إقامة المخزن، كما في أي بلد بالعالم هو وضع هذه المواد تحت إشراف الجهات المتخصصة والمحافظة عليها منعاً لاستخدامها بطريقة خاطئة والتعرض عن طريق الخطأ للأشعة في مكان ما، كما يمكن أن يحصل في حال ترك الأمور من دون إدارة وإشراف ورقابة. فالمواد المشعة المستخدمة لأهداف طبية كمعالجة السرطان أو العلاج بالأشعة التي تستخدم بمعدلات أشعة أعلى بكثير فتكون بإشراف طبي وهي محدودة الآثار الجانبية عندها، وهي معروفة المصدر وعند الانتهاء من استخدامها ترسل إلى خارج لبنان مع تراجع أثرها وفاعليتها في الاستخدام الطبي الذي تعتمد من أجله.
Follow Us:
كارين اليان ضاهر – اندبندنت