“ما يزيد عن الشهرين من المعاناة عشتها وعائلتي في سجن تركي، أبشع أنواع المعاملة تلقيناها، 15 كيلو غرام خسرتها من وزني نتيجة سوء التغذية، وأياً تكن أوجاعنا الصحية كان المسؤولون عن إدارة السجن يختصرون الأمر بحبة مسكن، ولو كنت أعلم أن هذا سيكون مصيرنا لما فكرت يوماً بالهجرة غير الشرعية”… بهذه الكلمات عبّر اللبناني مرعي الحاج عما واجهه والعشرات ممن كانوا معه في رحلة على متن “قارب الموت”.
كان هدف ابن بلدة ببنين العكارية شمال لبنان، أن يصل وزوجته وأبناؤه الأربعة إلى الشواطئ الإيطالية ومنها إلى ألمانيا حيث يقيم ابنه البكر، لإكمال ما تبقى لهم من عمر في دولة تحترم الإنسان وتؤمن له الحد الأدنى من مقومات الحياة، إلا أنهم تفاجأوا بعد يومين من انطلاقهم بتعطل القارب وهم في طريقهم إلى تحقيق حلمهم، ويشرح لموقع “الحرة”، “كنا على مشارف السواحل اليونانية، بدأت الأمواج تتقاذفنا، حاول شبان إصلاح المحرك لكن محاولاتهم باءت بالفشل، وبعد مرور حوالي 24 ساعة طلبنا الإنقاذ” مضيفاً “حضرت سفينة وقامت بنقلنا إلى أنطاليا، رغم معارضتنا وتأكيدنا أن وجهتنا هي شواطئ إيطاليا وليس تركيا”.
“يومان نام خلالها من كانوا متن القارب في العراء في تركيا وسط لمراقبة أمنية” بحسب مرعي، “وذلك لحين أخذ إفاداتنا والبصمات وإتمام كل الإجراءات المطلوبة، قبل أن يتم نقلنا إلى السجن، وقد تم تحطيم هواتفنا، لنذوق بعدها كل أنواع العذاب، فقد اختصر طعامنا على مسحوق الطماطم، ما اضطرني إلى شراء المأكولات لعائلتي، فصرفت المبلغ الذي كان بحوزتي وقدره ألفي دولار، لأعود إلى لبنان معدماً من كل شيء”.
تصدرت قوارب الهجرة غير الشرعية الأخبار في لبنان في الآونة الأخيرة، لا سيما في شهر أبريل الماضي مع غرق قارب كان يضم ما يزيد عن 80 مهاجرا، وذلك بعد اصطدامه بخافرة للجيش اللبناني كانت تلاحقه، وبعد إنقاذ عدد كبير ممن على متنه وانتشال جثث البعض الآخر، لا يزال البحر يبتلع ما يقارب الثلاثين جثة غالبيتها من نساء وأطفال، حيث عجزت السلطات اللبنانية وغواصة استقدمت بمبادرة خاصة، عن انتشالها نظراً لعمق المياه في مكان الكارثة.
وفي شهر سبتمبر الماضي غرق قارب كان يقل نحو 170 شخصاً بين لبناني وسوري وفلسطيني، أمام السواحل السورية، ففارق عدد كبير منهم الحياة فيما لا يزال مصير العشرات مجهولاً.
أصبحت “قوارب الموت” الأمل الوحيد للنجاة في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية مأساوية يمر بها لبنان، فمنذ 2019، يعيش هذا البلد أزمة اقتصادية حادة، صنفها البنك الدولي بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850، حيث فقدت الليرة ما يزيد عن 90 بالمئة من قيمتها بعدما تخطى سعر صرف الدولار الواحد عتبة الـ40 ألف ليرة.
الفرار إلى المجهول
يؤكد مرعي الذي يعمل مزارعاً، أن “عدد الذين وصلوا معه إلى تركيا، نحو 300 شخص غالبيتهم من الجنسية السورية، إلا أنه تم فصلهم عن بعضهم البعض، لا بل علمنا انه تم إعادتهم إلى بلدهم”، في حين أشار رئيس الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير أن ” الأمن العام اللبناني تحرك لإعادة 210 لبنانيين موزعين بين تركيا واليونان ومالطا، حيث عمل على تأمين أوراق عبور للقسم الأكبر منهم بعد التأكد من ملفهم، من هنا استغرق الأمر وقتاً”.
عاد المحتجزون على دفعات ولا يزال هناك 30 شخصاً، من المتوقع عودتهم إلى لبنان كما يقول اللواء خير لموقع “الحرة” في الساعات القادمة، وفيما يتعلق بالسوريين والفلسطينيين العالقين أجاب “من يحمل إقامة تمت إعادته إلى لبنان إذا كان يرغب بذلك”، مشدداً على أنه لم يتم وضعهم في سجن داخل تركيا، بل في مركز للترحيل”.
سبق أن نفذ عدد من أهالي المهاجرين غير الشرعيين العالقين في تركيا، اعتصامات في عكار، طالبوا خلالها “أركان الدولة والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم بالتدخل لمتابعة ملف أبنائهم” مؤكدين أنهم “أمنوا كل المعلومات التي طلبتها السفارة اللبنانية في تركيا والملف بات في عهدة وزارة الخارجية للتحرك وحل الإشكالية المالية العالقة مع السلطات التركية التي تطالب بدفع مبلغ ما بين 150 دولارا و200 دولار رسم خروج عن كل شخص، للسماح لهم بمغادرة الأراضي التركية”.
وأكدوا أن “هذا الأمر في عهدة الدولة اللبنانية التي كانت السبب في تهجير إبنائهم بسبب ضيق الحال والقلة وانعدام فرص العمل والعيش بكرامة، والدولة مطالبة اليوم بالاتصال الفوري مع السلطات التركية لاستعادتهم خاصة وأنهم لا يملكون المال ويعانون أوضاعاً صحية صعبة للغاية”.
وغادر آلاف اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين لبنان على متن قوارب خلال الأشهر الماضية بحثاً عن حياة أفضل في أوروبا، منهم من لقي حتفه في البحر، ومنهم من وصل إلى وجهته، ومنهم من غادر المياه الإقليمية وواجه صعوبات حالت دون تمكنه من وصول القارب الذي على كان يقله إلى الشواطئ الأوروبية، ومنهم من لم يتمكن حتى من مغادرة المياه الإقليمية بعد توقيف الجيش اللبناني لقاربه.
العودة إلى “الجحيم”
كما معظم المهاجرين باع مرعي البالغ من العمر 45 سنة كل ما يملك، سيارته ومصاغ زوجته وأثاث منزله، دفع مبلغاً كبيراً للمهرب، وكما يقول “بدلاً من تحقيق ما طمحت إليه من حياة كريمة، ها أنا أعيش في ظروف أسوأ، إلى درجة أني أعجز عن تسجيل أبنائي في المدرسة”، مشدداً على أنه يعيش في وضع نفسي سيئ للغاية.
وعن عدم محاولته السفر بطريقة شرعية إلى ألمانيا، أجاب “ليس لدينا جوازات سفر، وهي تجربة أندم على خوضها ولن أكررها أبداً، فقد لامسنا الموت وواجهنا كل أنواع المهالك، ولو كان الوضع في لبنان جيداً لما خاطرت وغيري ورمينا أنفسنا في البحر، هرباً من جحيم لبنان، الذي تضاعف منذ عودتي قبل أسبوع، فلا أعلم كيف سأتدبر أموري الآن بعدما خسرت كل شيء”.
يبلغ عدد الذين كانوا محتجزين في تركيا بحسب ما يؤكد عضو لجنة أهالي اللبنانيين المحتجزين في تركيا، مختار بلدة ببنين، زاهر الكسار، “نحو 450 شخصاً، وقد كانوا على متن قاربين تعطلا في عرض البحر، قبل أن تنقلهم الجندرما التركية إلى انطاليا، وقد جرت معاملتهم بصورة سيئة جداً كما نقلوا لنا، إلا أننا لا نضع اللوم على السلطات التركية، بل على المسؤولين اللبنانيين وبالتحديد على الخارجية اللبنانية، لعدم مبالاتها بمواطنيها اللذين فروا من لبنان بعد الحال الذي وصل إليه بسبب الطبقة الحاكمة التي أفلست البلد، وحرمت أبناءه من التعليم والطبابة والاستشفاء ولقمة عيش كريمة”.
يُذكر أن لبنان شهد بحسب منظمة الأمم المتحدة زيادة في عدد المغادرين بحراً منذ عام 2020 حين حاول 38 قارباً على متنها أكثر من 1,500 راكب القيام بتلك الرحلات الخطرة، وتم اعتراض أو إعادة أكثر من 75 في المئة منها.
يشدد الكسار لولا رفع أهالي المهاجرين الصوت وقيامهم باعتصامات وقطعهم للطرقات وانشاء لجنة متابعة، لما تحرك أحد من المسؤولين لمتابعة الملف، لافتاً إلى أن ” القنصل اللبناني في تركيا قام بواجبه على أكمل وجه، لكن وزارة الخارجية غائبة عن السمع بشكل كلي، ورغم مرور ما يزيد عن الشهرين على تعطل القاربين، لا يزال هناك موقوفين في تركيا وفي السجون اليونانية”.
سبق أن صرّح رئيس المنظمة الدولية للهجرة في لبنان، ماتيو لوتشيانو في أبريل الماضي أن الأزمة الاقتصادية في لبنان تسببت بواحدة من أكبر موجات الهجرة في تاريخ البلاد، قائلاً “تدفع الظروف الاقتصادية اليائسة المتزايدة، بعدد متزايد من الأفراد في لبنان إلى المغادرة بطرق غير آمنة. هناك حاجة ماسة إلى بدائل آمنة وقانونية للهجرة غير النظامية، وإلى دعم سبل العيش وتحسين الوصول إلى الخدمات في المجتمعات المعرضة للخطر”.
فيما دعت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة، إلى “الإنزال الآمن للأشخاص العالقين في عرض البحر وإلى احترام مبدأ عدم الإعادة القسرية، وسيحصل الأفراد الذين يتم إنقاذهم في البحر أو إعادتهم إلى لبنان على دعم طبي ونفسي ومساعدات طارئة”.
كما ناشدت المنظمتان تضامن المجتمع الدولي المستمر لتيسير ظروف المجتمع المضيف وكذلك اللاجئين والمهاجرين الذين يتم استضافتهم في لبنان، وأكدتا في بيان أن المنظمتين تواصلان العمل مع مجتمعات اللاجئين والمهاجرين والمجتمعات المضيفة لتوعية الأفراد حيال مخاطر الرحلات غير النظامية.
أسرار شبارو – الحرة
Follow Us: