كتب ذو الفقار قبيسي – اللواء : نقطتان بارزتان في مؤتمر مساعدة لبنان برئاسة فرنسا. الأولى اقتصادية على أبواب قرار مرتقب برفع الدعم عن المواد المعيشية الضرورية قد تؤدّي المساعدات إلى تأجيل القرار تجنّباً لانفجار اجتماعي واقتصادي وأمني تدرك فرنسا الرئيس ماكرون تبعياته وتداعياته خلافا لطبقة حاكمة لبنانية منشغلة بغنائم محاصصاتها المالية والسياسية وسمها أو وصمها وزير خارجية فرنسا بقوله: «ان شعب لبنان بكل موارده البشرية والفكرية والتاريخية الهائلة تحوّل على يد هذه الطبقة الى ضحية لفسادها واهمالها وعجزها عن أي إصلاح». والنقطة الثانية تاريخية هي أن الرئيس ماكرون في المهمة الإصلاحية الحالية التي انتدب لها عهده في لبنان، يتخذ نهجا اقتصاديا جديدا يختلف عن النهج التاريخي لأسلافه من السياسيين الفرنسيين ممن كانوا في فترة الانتداب وحتى بعد الاستقلال مباشرة، يعارضون أي تغيير أو إصلاحات اقتصادية في لبنان، وعكس التوجهات الحالية للرئيس ماكرون الذي بلغ في دعوته الى الإصلاح حد «تخوين» طبقة سياسية لبنانية بكاملها تؤثر أنانيتها الفردية ومصالحها الذاتية على المصلحة العامة.
حتى ان الموقف الفرنسي الاصلاحي الساعي الى تأليف حكومة إنقاذ وطنية لبنانية جامعة تضم كل أطياف الشعب اللبناني، يسير عكس الموقف الأميركي غير القابل بالتسويات السياسية، وليس من أولوياته الاصلاحات الاقتصادية وذلك عكس التوجهات الأميركية التي سادت خلال فترة عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. حتى أن فكرة تأسيس مصرف مركزي لبناني ورقابة مصرفية ذاتية ومؤسسة إصدار نقد وطني لبناني مستقل عن المؤسسة المصرفية الفرنسية (التي ورثت صلاحية إصدار النقد المحلي المسلح بالفرنك الفرنسي عن البنك العثماني المسلحة بالجنيه الملكي المصري – أو «المصريات» أو «المصاري» كما نسميها اليوم) كانت مطلبا أميركيا إصلاحيا مصرفيا واقتصاديا، استمر على هذا النهج في فترة بعد الاستقلال، عكس المواقف الفرنسية المانعة في حينه لأي تغيير، وخلافاً النهج الاصلاحي الجديد الذي يقوده الرئيس ماكرون بدعم أوروبي مقابل دور أميركي العوامل السياسية فيه تطغى على الضرورات الاقتصادية والاجتماعية.
ففي كتاب «Money Doctors Between The Wars» «دكاترة المال بين الحروب» لمؤلفه Stephan A .Shunker انه في العام ١٩٥٢ رفضت المؤسسة الفرنسية التي كانت تتولى إصدار الليرة اللبنانية اتخاذ أي إجراءات لوقف التضخم وسط أزمة نقدية مستعصية سادت سوق القطع، حتى ان الولايات المتحدة عبر صندوق النقد الدولي عبّرت عن استيائها من هذه السياسة الفرنسية وأبدت استغرابها كيف انه في بلد مثل لبنان «لا يوجد سلطة نقدية مستقلة». حتى ان السفارة الأميركية في بيروت وجّهت رسالة الى المسؤولين اللبنانيين تساءلت فيها عن مبررات عدم وجود بنك مركزي في لبنان. وبعدها بعام واحد انتقد الصندوق الدولي ما أسماه «فوضى النظام المصرفي اللبناني الذي كان يومها يعمل في ظل سلطة نقدية فرنسية لا تعطي أي اهتمام للاصلاحات ولا تنشر أي احصاءات أو معلومات عن نشاطها ولا عن نشاط أو أداء القطاع المصرفي في لبنان. كما ان «الخزانة الأميركية» استنكرت في حينه عدم احتفاظ السلطة النقدية الفرنسية باحتياطيات كافية من العملات الأجنبية، معتمدة فقط للحصول على الدولار على ما يردها من تحويلات شركة النفط الأجنبية عن رسوم أنبوب النفط الذي يمرُّ في الأراضي اللبنانية (كتاب: Banking on the state, Stanford University by Hisham safieddin) بل انه في العام ١٩٥٤ دعا جورج حكيم من الجامعة الأميركية في بيروت (وزير الاقتصاد اللبناني لاحقا) مجلس التخطيط والتنمية ETOB الى ارسال لجنة تقنية لإصلاح النظام المصرفي اللبناني تولّى رئاستها المستشار في صندوق النقد الدولي Fag Kessing الذي قضى شهورا عدة في لبنان واعد تقريرا بعنوان The Monetery and the Banking System in Lebanon انتقد فيه الطبقة المالية التجارية اللبنانية التي تعبث في ظل نظام نقدي فرنسي، بثروات البلاد على حساب الأكثرية الساحقة من شعب لبنان. وما صدر التقرير يومها حتى تصدى له جوزف اغورليان (نائب حاكم مصرف لبنان لاحقا في الستينيات) الذي كان يومها مستشارا للمؤسسة الفرنسية التي تتولى إصدار النقد في لبنان وسوريا، وذلك بهجوم شديد اللهجة في جريدة «LE JOUR» التي كان يصدرها المفكر السياسي والمصرفي ميشال شيحا ويرئس تحريرها (الرئيس لاحقا) شارل حلو، واصفا التقرير الذي صدر برعاية دولية – أميركية بانه MEDIOCRE» أو «سطحي» ومشيدا بحسنات «الاقتصاد الحر» الذي كانت ترعاه فرنسا في لبنان خلال الانتداب وما بعد الاستقلال، رافضا أي محاولة لأي تغييرات. فيما كانت الولايات المتحدة عبر صندوق النقد الدولي ومجموعة من أساتذة الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت، تسعى الى اصلاحات هيكلية وإدارية في نظام اقتصادي ومصرفي لبناني في ظل نفوذ فرنسي ورث عن نظام عثماني مكاسب وامتيازات لدولته ورجال أعماله وحاشيته وملحقاته، جرت محاولات عدة لاصلاحه حتى من قبل الحكومتين اللبنانية اللتين وجهتا دعوة مشتركة الى الخبير الاقتصادي Paul Van Zeeland لاستشارته بشأن الاوضاع الاقتصادية في البلدين. وبالمناسبة غير صحيح ما يتداوله أهل الاقتصاد «الحر» في لبنان من أن الخبير البلجيكي (الذي نعى شاعر الشعب مهمته في «شونسونيته» الشهيرة: «يا كيكي كيكي تعال لما احكيكي لا ينفع فيكي لا خبير بلجيكي ولا طبيب أمريكي»!) اكتفى كما يزعم أهل الاقتصاد «الحر» في لبنان اقتصرت مشورته على الطلب الى اللبنانيين بأن يتركوا اقتصادهم على ما هو عليه، فيما الخبير البلجيكي الذي كان سابقا رئيس الوزراء في بلده، كتب في تقريره: «هناك» سر عميق «وراء الاقتصاد اللبناني لا يعرف خفاياه إلا نخبة من «حكماء» شطار يعملون بصمت وبمعزل عن الأنظار في خداع احتيالية منمقة Elegant Tricks تدفع بالاقتصاد من مكسب الى آخر يحرصون على عدم الكشف عنها» (المصدر: البرت بدر «نحو افاق اقتصادية جديدة»). الاقتصادي والمصرفي اللبناني، سعيا بالطبع الى مكاسب وامتيازات لها في لبنان لا يمكن انتزاعها الا عبر تغييرات أساسية في نظام فرنسي ورث عن نظام فرنسي.
وقد كان من ضمن الدعوات الأميركية الى الإصلاح في مواجهة هذه «الدولة العميقة» الفرنسية في لبنان بأسرارها وأحجيتها، الرسالة التي بعث بها من مدينة «برستون» الأميركية المؤرخ اللبناني فيليب حتي الى Henry Byroade إلى مساعد وزير الخارجية الأميركية اقترح فيها إنشاء بنك مركزي للبنان بتمويل من الولايات المتحدة. وأرفق حتي الرسالة بمذكرة إصلاحية من موقعيها رؤساء أحزاب وهيئات اقتصادية واتحادات ونقابات عمالية لبنانية طالبت بإنشاء ما أسمته المذكرة «بيت مال وطني» يديره اللبنانيون دون أي تدخّل أجنبي «(المصدر: كتاب banking on the state, by Hisham Safieddin ).
حتى انه يمكن القول ان أزمة بنك «انترا» في ستينيات القرن الماضي كان فيها من الأسباب والعوامل التي تعود الى هذا الخلاف بين نفوذ مصرفي – اقتصادي – سياسي فرنسي سعى الى تصفية «انترا» ونفوذ سياسي – اقتصادي أميركي سعى الى الابقاء عليه عبر مده بقرض سريع مؤقت لم يكن يتعدى الـ٥٠ مليون ليرة مقابل موجودات مالية ونقدية وعينية لدى البنك تتجاوز الـ٥٠٠ مليون ليرة. وكانت النتيجة لصالح الموقف الفرنسي الذي سعى عبر تصفية البنك، إلى تعزيز نفوذ فرنسي- أوروبي مصرفي واقتصادي ولو بمشاركة لم يكن يمكن تجنّبها مع نفوذ أميركي ازداد فيما بعد قوة وتأثيرا في لبنان بالمقارنة مع تراجع نسبي للدورالفرنسي الذي يعيد الرئيس ماكرون إحياءه اليوم بحملة إصلاحية اقتصادية – مصرفية – سياسية وعبر حكومة وطنية جامعة وفي وجه شروط وعراقيل أميركية مانعة.