جوني منيّر- الجمهورية
لا تبدو الأمور جامدة ومقفلة كما هو ظاهر في المشهد العام لساحة الشرق الاوسط، فالكواليس بدأت تشهد تحضيرات تُنبئ بتغييرات ستظهر في بداية العام المقبل، وستطال لبنان الرازح تحت أزمة خانقة تهدد وجوده.
كثيرون قرأوا في البيان الصادر عن القمة الاميركية – الفرنسية لناحية الملف اللبناني إهمالاً متعمّداً واشارة سلبية حيال السعي لإيجاد حلول لأزمته، والسبب هو في التطرق بشكل سريع في البيان النهائي للوضع اللبناني لناحية التعبير عن تصميم الرئيسين الاميركي والفرنسي على مواصلة الجهود المشتركة لِحثّ قادة لبنان على انتخاب رئيس للجمهورية والمضي قدماً في الاصلاحات الحاسمة.
كما تميز البيان بالتشدد تجاه ايران وملفها النووي «ودعم حق الشعب الايراني في الحرية».
لكن ثمة رأياً آخر يخالف هذه القراءة المتسرعة، فالاصرار على ذكر لبنان وازمته في البيان الختامي ولو بشكل مختصر، إنما يعكس مسألتين اساسيتين: الاولى بأنه جرى التطرق الى هذا الملف وسط زحمة الملفات الاساسية التي تسود الساحة الدولية ولا سيما بسبب الحرب في اوكرانيا، وهذا له معناه ومغزاه رغم ان الظروف لم تكتمل بعد لإنجاز التسويات المطلوبة. والثانية بأن لبنان لن يكون ثمناً للتسويات الكبرى التي تنتظر الشرق الاوسط.
في الواقع ثمة تفاؤل مفاجئ في الكواليس السياسية خصوصا لناحية اعادة إحياء الاتفاق النووي مع ايران خلال الاشهر القليلة المقبلة. وبات واضحاً ان مفتاح الحلول والتسويات في المنطقة يبقى من خلال انجاز الاتفاق النووي مع ايران، فهو المدخل الالزامي للدخول في تسوية العديد من الملفات ومنها الملف اللبناني بطبيعة الحال.
وخلال شهر تشرين الاول الماضي التقى وزير خارجية الفاتيكان المونسنيور بول ريتشارد غالاغير بـ9 سفراء لدول تؤثر في الملف اللبناني بطلب من الكرسي الرسولي، وفي طليعتهم سفير الولايات المتحدة الاميركية في الفاتيكان جوزف دونيللي.
ونقل غالاغير الى السفراء رسالة من البابا فرنسيس الى حكومات بلادهم تتلخص بالنقاط التالية:
1 – الفاتيكان قلق جداً بسبب الوضع الخطير الذي وصلت اليه الازمة اللبنانية.
2 – الفاتيكان يضع لبنان في اولوية اهتماماته وهو يصرّ على ضرورة عدم اهمال العواصم الكبرى والمؤثرة لضرورة ايجاد حل للمأساة التي يعيشها وسط زحمة الازمات الكبيرة على الساحة الدولية.
3 – لا بد من إيجاد حل لأزمة النازحين السوريين على ارضه، لا ان يكون لبنان ضحية التسويات في هذا الاطار.
4 – لا بد من السعي لإيجاد الظروف المناسبة لمساعدة لبنان على إنهاء أزمته السياسية والمتمثلة بإعادة بناء الدولة اللبنانية وإتمام استحقاقاته الدستورية بما فيها انتخاب رئيس جديد للجمهورية، والعمل على فصل لبنان عن أزمات المنطقة.
هذه الرسالة التي حملها وزير خارجية الفاتيكان باسم رأس الكنيسة الكاثوليكية، جرى إبلاغها ايضا الى الادارة الاميركية عبر السفير البابوي في واشنطن. وحضر هذا الملف خلال زيارة الرئيس الفرنسي الى الفاتيكان، والتي شكلت تمهيداً للقمة الاميركية – الفرنسية.
وفي الوقت نفسه كانت الديبلوماسية الاميركية تُعاود تحرّكها في الكواليس باتجاه الملف النووي الايراني، بعد الانتهاء من الانتخابات النصفية الاميركية. وبدت الظروف وكأنها اصبحت اكثر ملاءمة لتأمين اخراج هذا الاتفاق خصوصاً انّ الشق التقني كان قد جرى الانتهاء منه في مرحلة سابقة، لكن الحرب التي نشبت في اوكرانيا دفعت طرفي الاتفاق الى وضعه جانباً بانتظار جلاء الظروف ورهان كل فريق على مسار الاحداث لتحقيق موقع افضل له.
لكن الحملة العسكرية الروسية تعثّرت، وانتقلت روسيا من موقع الهجوم العسكري الى موقع الدفاع وباتت اوكرانيا أقرب الى رمال متحركة منه الى ساحة تمنح «اكليل غار» الانتصار.
وفي الوقت نفسه، فإنّ نتائج الانتخابات النصفية فاجأت الجميع لناحية ظهور مؤشرات سقوط ظاهرة دونالد ترامب وانتقال الازمة من الحزب الديموقراطي الى قلب الحزب الجمهوري الذي اصبح منقسماً، وسط تآكل قوة ترامب وبالتالي صعوبة عودته الى البيت الابيض.
ويعتقد البعض أنّ رهان طهران على استعادة ترامب لقوته من خلال الانتخابات النصفية تمهيداً لعودته الى البيت الابيض وهو ما كان سيؤدي الى ظهور حالة من عدم الاستقرار الداخلي في الولايات المتحدة، هذا الرهان سقط ما يوجِب التعاطي بواقعية مع الادارة الاميركية الحالية. أما المعطى الثالث فجاء من الداخل الايراني مع اندلاع احتجاجات حملت طابعاً مقلقاً ومزعجاً ولو انه ما يزال بعيداً لأن يصبح خطراً يهدد التركيبة الدينية الحاكمة.
ومع عجز السلطات عن إطفاء هذه الاحتجاجات والتي تشارك فيها الفئات الشبابية، كان لا بد من حسابات اخرى. وقد لا يستبعد البعض وجود بصمات اسرائيلية او ربما سعودية في إزكاء الاحتجاجات، لكن بَدا واضحاً انّ واشنطن بقيت على مسافة من هذه الاحتجاجات، وسط إقرار داخلي بضرورة إجراء اصلاحات داخلية كمثل دعوة مجلس النواب الايراني لمراجعة قانون إلزامية الحجاب. هذه الخطوة وان كان من المحتمل ان يكون هدفها استيعاب الوضع اكثر منه اقرار واقع جديد، الا انها تظهر بوضوح الوضع الصعب الحاصل.
كل هذه المعطيات أوجَبت على الأرجح حسم الامر والانتقال من مرحلة المراوحة والتعويل على مستجدات يُستفاد منها لتعزيز اوراق التفاوض الى مرحلة الشروع في اتخاذ القرار. ولذلك ثمة همس في الكواليس الديبلوماسية بأن الاجواء باتت مؤاتية لتوقيع الاتفاق النووي في الاشهر المقبلة وتحديدا خلال شهر شباط المقبل او ربما شهر آذار.
وطالما ان الشق التقني جرى التفاهم حوله خلال المفاوضات السابقة، فإنه من البديهي الاستنتاج بأن ما يفصل عن موعد التوقيع على الاتفاق مسائل له علاقة بتفاهمات سياسية.
وهذه الصحوة التفاؤلية المفاجئة عزّزتها الاخبار التي جرى تسريبها حول عودة التواصل السعودي – السوري على مستوى مسؤولي المخابرات.
صحيح ان هذا التواصل اذا صح ما يزال اولياً، إلا أنه يعكس مناخاً جديداً مختلفاً عن السابق.
وعلى الرغم من تشابك الاحداث خلال الاسابيع الماضية، الا أنه لفت عدم وجود اي قلق إزاء احتمال «نقض» اتفاق ترسيم الحدود البحرية في لبنان وهذه اشارة واضحة حيال الحرص على إبقاء المناخ الايجابي قائماً في الكواليس.
ولذلك، تتوقع الاوساط المراقبة تدرّجاً تصاعدياً في المحطات الايجابية. اولى هذه المحطات ستكون مع مؤتمر الاردن، والذي ستشارك فيه ايران والسعودية بحضور الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون.
على ان تبدأ دينامية جديدة مع مطلع العام المقبل تجاه الملف اللبناني المعقد.
واذا صدقت الحسابات الموضوعة حول الخرق الكبير بالنسبة للملف النووي الايراني في بداية العام المقبل، فهذا يعني انّ الباب سيفتح امام ترتيب الظروف لإنتاج تسوية في لبنان. وهذا الترتيب سيشمل تفاهمات مع «حزب الله» حول كامل المرحلة المقبلة.
واستتباعاً، إنّ الاستنتاج المنطقي هو بأنّ فصل الربيع المقبل ومن المفترض ان يشهد انتقال لبنان من مرحلة الانهيارات التي عاشها ورزح تحتها خلال السنوات الماضية، الى تدشين مرحلة جديدة ترتكز على اعادة بناء سلطة ومؤسسات الدولة وإزالة خطوط التماس الاقليمية من لبنان.
وهذا سيعني إبعاد لبنان عن سياسة «التنَاطح» الاقليمية من خلال سلطة محايدة وإطلاق يد الجيش اللبناني في دور فعّال وبمساعدة دولية.