سلوى بعلبكي – النهار
تتزاحم على خطوط الانقاذ الاقتصادي والمالي رؤى وأفكار تترجَم بخطط ومشاريع وضعها مسؤولون عن قطاعات اقتصادية ومتخصصون، طرحت خرائط طرق للانطلاق نحو رحلة الخروج من القعر الذي آلت اليه الامور. لم تتعارض الخطط على تعدّدها ومشارب واضعيها، بل تقاطعت في معظم بنودها باستثناء بعض التباينات حول قانون “الكابيتال كونترول” وتوزيع الخسائر والموقف من صندوق النقد الدولي. بَيد أن جميعها كان متعارضا مع خطة الحكومة التي سُميت “خطة سعادة الشامي”، خصوصا حيال رفض شطب الجزء الاكبر من الودائع، فيما يصرّ بعضهم على منح المصارف مجدداً فرصة اعادة ترميم ملاءتها للمحافظة على ليبرالية الاقتصاد.
هذه الخطط كانت موضع اهتمام اعلامي واكاديمي وشعبي، لكن الغائب الاكبر عن مناقشة واضعيها كانت الدولة والممسكون بالملف الاقتصادي، إذ لم يبادر أحد منهم الى فتح حوار ونقاش جدي وعلمي تُستنبط منه خطة شاملة تأخذ في الاعتبار هواجس كل القطاعات الاقتصادية، والأهم المودعين كافة.
من هذه الخطط، خطة ارسلت الى النواب جميعا، اعدّها الخبير الاقتصادي نيكولا شيخاني ولاقت استحسانا من عدد كبير من المودعين وجمعياتهم لما تتضمّنه من اصلاحات مهمة اقتصاديا ومصرفيا، والاهم انها تحمي أموال المودعين.
فالخطة لحظت اقرار قوانين تتعلق باصلاح “مؤسسة كهرباء لبنان” وتثبيت مصرف لبنان سعر الصرف واستقلالية القضاء، واعادة جدولة الديون (سندات اليوروبوند وسندات الخزينة)، وحماية احتياط الذهب والتعامل مع جميع المودعين على اساس المساواة دونما تمييز بين مودعين صغار وكبار وودائع قديمة وجديدة، بل التمييز بين اموال شرعية وغير شرعية.
تنفيذ الخطة يتطلب مرحلتين: الاولى تشمل التدابير الفورية للسنة الأولى، والثانية تتعلق بالتدابير المتوسطة الأجل (من السنة الاولى حتى السنة الثالثة).
في المرحلة الاولى تشدد الخطة على اقرار قانون “الكابيتال كونترول” وتطبيقه لمدة أقصاها 6 إلى 12 شهرا، على اعتبار أنه بعد مرور 6 أشهر، قد يصبح غير متوافق مع توحيد سعر الصرف، وتاليا قد يضر بالاقتصاد ويعرقل التدفقات المالية الجديدة إلى البلاد، اضافة الى إقرار قانون للإصلاح الفوري لمؤسسة الكهرباء وتطبيقه، بما من شأنه تحسين الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 20% في غضون سنة.
على صعيد السياسة النقدية، توصي الخطة باعتماد المصرف المركزي سياسة واستراتيجية نقدية شفافة لتوحيد سعر الصرف وتثبيته، والسيطرة على انخفاض قيمة الليرة مع معالجة ارتفاع أسعار الفائدة، وإعادة تقييم توصيات ورقة صندوق النقد التي وضعت في تشرين الأول 1994 نظاما لـ”مجلس النقد”، بما من شأنه أن يجعل الاقتصاد في وضع ملائم للنمو عبر خلق الثقة المطلوبة بالعملة الوطنية.
أما في ما يتعلق بالقوانين والتشريعات المطلوبة من مجلس النواب، فتوصي الخطة بإقرار قانون يضمن استقلالية القضاء للمحاسبة وضمان تنفيذ القرارات القضائية، وآخر يتعلق بتعديل “قانون السرية المصرفية” ليشمل جميع موظفي القطاع العام والمؤسسات الخاصة التي تتعامل مع الأموال العامة أو العقود العامة. وسيكون القانون أيضا حاسما في عملية مراجعة حسابات القطاع المصرفي وإعادة هيكلته (بما في ذلك إعادة هيكلة ورسملة مصرف لبنان).
وفي المرحلة الاولى ايضا ضرورة مراجعة حسابات جميع المصارف مع تدقيق مالي وتحليلي معمق، والمصرف المركزي، والمؤسسات العامة (الوزارات الرئيسية،CDR ، ومؤسسة الكهرباء، وشركات المياه والاتصالات العامة، والضمان الاجتماعي)، ووضع قانون عادل وشفاف للمشتريات العامة، وإعادة هيكلة النظام الضريبي، وضبط الحدود ومنع التهريب بما يزيد دخل الدولة ويحسن الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 20% إضافية على الأقل، وإقرار خطة متكاملة لعودة نحو مليوني نازح إلى بلادهم، بما يؤثر إيجابا على الناتج المحلي الإجمالي وميزان المدفوعات.
أما التدابير المتوسطة الأجل التي لحظتها الخطة، فتتعلق بوضع سياسة مالية هادفة وضريبية تقوّي الجباية اولا قبل زيادة الضرائب، واستراتيجية تقشف لتفادي العجز في الموازنة، وتعزيز تحصيل الضرائب، وإعادة هيكلة كاملة لمؤسسات القطاع العام وإلاصلاح إلاداري (الحكومة الإلكترونية e-government)، وإعادة هيكلة الديون وجدولتها بما يتماشى مع ميزانية متوازنة، اضافة الى وضع استراتيجية كاملة )مالية، ضريبية وهيكلية( للحد من عجز ميزان المدفوعات، فضلا عن استراتيجية مالية تفرض ضرائب مرتفعة على المنتجات المستوردة غير الأساسية (كما في سنغافورة)، مع توفير درع ضريبية للاستثمار الأجنبي المباشر لتحفيز هذا الاستثمار والنقد الجديد.
وأفردت الخطة مساحة كبيرة للأزمة المصرفية وحقوق المودعين، فأشارت الى المادة 15 من الدستور التي تكفل إقرار قانون لحماية الودائع الخاصة وتطبيقه (مثل قانون حماية الذهب) والتعامل مع جميع المودعين على أساس المساواة من دون أي تمييز بين مودعين صغار ومودعين كبار لاسترداد الودائع ومن دون أي تمييز بين ودائع قديمة وودائع جديدة، بل ثمة اموال شرعية واموال غير شرعية. ودعت الى إقرار وتطبيق “قانون تسوية وضع المصارف” يتبنى نهج إعادة تنظيم المصارف المليئة/المصارف المتعثرة على نحو يمكّن القطاع من استعادة قدرته على البقاء ودعم التعافي الاقتصادي، بعد مراجعة وتقييم الأصول النوعية (QAR Quality Assets Review) وبشكل رئيسي الأصول العقارية في كل مصرف من مدققين ماليين دوليين متخصصين ومشهود لهم دوليا ومستقلين، وتقييم المشكلة النظامية (systemic) مقابل المشكلة الهيكلية (structural) ومدى قابلية كل مصرف للاستمرار من خلال تقييم صافي قيمة الأصول في كل مصرف، ثم حساب الاعتمادات المرتبطة بالخسائر المتصلة بمخاطر سندات اليوروبوند، وبمركز إستثمارها بالعملات الأجنبية القصير الأجل في المصرف المركزي وفقا لمعايير IFRS9 (المقدرة بمبلغ 9 مليارات دولار)، وبقروضها المتعثرة وفقا لمعايير بازل، ومن ثم تقييم قدرة المساهمين القائمين والجدد على رسملة المصارف بأموال جديدة تلقائيا بغية إستمرارية العمليات، كذلك تقييم الاندماجات والاستحواذ عبر القطاع. أما المصارف التي لن تتمكن من إعادة الرسملة أو الدمج فتوضع تحت وصاية المصرف المركزي وتحوّل ودائعها إلى “بنك متعثرSPV” يكون بمثابة مؤسسة مالية خاصة Bridge bank or Bad bank SPV (كيان ذو غرض خاص وليس بنكاً) مملوكة بنسبة 100% للمصرف المركزي، على أن يخفض مبلغ الاسترداد الخاص بالكيانSPV ذي الأغراض الخاصة عبر إعداد ضريبة الثروة والإصلاحات المالية، اضافة إلى استرداد جميع الفوائد التي تتخطى معدلات فوائد سندات “اليوروبوند”، وعزل الاموال غير “المؤهلة” بسبب معايير تبييض الاموال. وينشئ “قانون تسوية وضع المصارف” أيضا إطار الحوكمة السليمة الرشيدة والشفافة والمستقلة في كل من القطاع المصرفي، مصرف لبنان، وهيئة التحقيق الخاصة، ولجنة الرقابة على المصارف، وهيئة الأسواق المالية، إلى جانب المحكمة الخاصة بالأسواق المالية، وذلك لتجنب تضارب المصالح، ولضمان إستقلالية هيئات الحوكمة وولايتها المحدودة ومحاسبتها اذا اقتضى الامر.
توازياً، يجب إجراء تقييم لأصول الدولة على مدى مستقبلي 10 سنين، وبافتراض إعادة هيكلة الأصول وإنشاء أصول جديدة (أي الامتيازات وما إلى ذلك)، يمكن أن تبلغ قيمة أصول الدولة ما لا يقل عن 150 مليار دولار، ثم إنشاء شركة إدارة الأصول AMC (أو صندوق سيادي) تملكها الدولة بنسبة 100% لإدارة وتطوير وتحسين أداء الشركات والأصول المملوكة للدولة، بالاستعانة بمجلس تنفيذي دولي مستقل، فيما يمول مردود الشركة الدولة والخرينة التي بدورها تمول “المركزي” من الفائض لاعادة رسملته واعادة أموال المودعين عبر الكيان الخاص SPV.
وتطرقت الخطة الى شروط اعادة الثقة التي لا يمكن فرضها عبر “الهيركات” و/أو “الليلرة” بل عبر توحيد سعر الصرف وتثبيته، والاسترداد التدريجي للإيداعات المحجوزة وغير المتوافرة للمودعين عبر الكيان الخاصSPV، وإعادة هيكلة/إعادة جدولة الديون، وإصلاحات عميقة في القطاع المصرفي بما في ذلك مصرف لبنان، واصلاحات هيكلية في القطاع العام. وأشارت الخطة الى أن الهدف من أي خطة تعافٍ هو خلق الثقة المطلوبة في النظام لجعل المودعين غير مستعدين لسحب أموالهم من المصارف وجذب الاموال الموجودة في البيوت والمقدرة بنحو 10 مليارات دولار نقداً إلى المصارف، اضافة إلى حصول المودعين على السيولة اليومية اللازمة لأموالهم كما كانت الحال قبل الأزمة.
هذه السيولة موجودة بالفعل، وتظهر حسابات تقريبية للناتج المحلي الإجمالي الحالي أن لبنان لن يحتاج إلا إلى ضخ سيولة تقدر بنحو 15 مليار دولار في النظام. كما يمكن استخدام مردود الـ AMC، وكذلك قسم من احتياط مصرف لبنان، اضافة الى الـ 4 مليارات دولار الموجودة في المصارف.
تتطلب هذه الوثيقة إرادة ودعم المجلس النيابي والسلطة التنفيذية معا بغية إقرار القوانين المذكورة اعلاه وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية، وتنفيذ خطة McKinsey&Co الاقتصادية، وتوقيع اتفاق مع صندوق النقد لتعزيز الثقة بالنظام، وتطبيق أحكام الدستور دونما أي تحريف.