الجمعة, نوفمبر 22
Banner

الهُويات‭ ‬القلقة‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬الأمّ

واسيني الأعرج – القدس العربي

الهويات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬تعبيرها‭ ‬الوطني‭ ‬والقومي‭ ‬تصبح‭ ‬قلقة،‭ ‬مرتبكة،‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬استنفار‭ ‬دائم‭ ‬وانتظارات‭ ‬شديدة‭ ‬الحيرة‭ ‬والخطورة،‭ ‬رافضة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يأتيها‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬المركزية‭ ‬التي‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أكثر‭ ‬ذكاء‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الحساسيات‭ ‬الثقافية،‭ ‬وتميل‭ ‬نحو‭ ‬الرؤى‭ ‬الضيقة‭ ‬وعرضة‭ ‬لمختلف‭ ‬الانزلاقات،‭ ‬وقد‭ ‬تصمت‭ ‬مؤقتاً‭ ‬محتضنة‭ ‬غليانها،‭ ‬أو‭ ‬تحتج‭ ‬سلمياً‭ ‬للتذكير‭ ‬بوجودها،‭ ‬أو‭ ‬بعنف‭ ‬عندما‭ ‬لا‭ ‬يتمّ‭ ‬الإصغاء‭ ‬لحاجاتها‭ ‬الثقافية‭ ‬والتاريخية‭. ‬فالساكت‭ ‬عن‭ ‬الحق‭ ‬شيطان‭ ‬أخرس؛‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬شريك‭ ‬في‭ ‬الجريمة‭ ‬الموصوفة،‭ ‬بل‭ ‬جزء‭ ‬منها‭ ‬ومن‭ ‬نظامها،‭ ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬الوقائع‭ ‬ويلمسها‭ ‬يومياً‭ ‬لكنه‭ ‬يمرّ‭ ‬أمامها‭ ‬وكأنها‭ ‬لا‭ ‬تعنيه‭ ‬أبداً،‭ ‬يرفع‭ ‬مناخيره‭ ‬ويمضي‭ ‬نحو‭ ‬شؤونه‭ ‬اليومية‭. ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬الأمر‭ ‬طبيعياً‭. ‬فالمرور‭ ‬يومياً‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬معين،‭ ‬يرى‭ ‬باستمرار‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬زواياه‭ ‬المظلمة‭ ‬امرأة‭ ‬بلباس‭ ‬ممزق،‭ ‬فقيرة،‭ ‬معدمة،‭ ‬قذفت‭ ‬بها‭ ‬الحياة‭ ‬نحو‭ ‬ذلك‭ ‬المكان‭ ‬البائس‭ ‬والبارد،‭ ‬ترضع‭ ‬ابنتها‭ ‬بنهد‭ ‬ذابل‭ ‬وحليب‭ ‬قليل،‭ ‬وأمامها‭ ‬سجاد‭ ‬صغير‭ ‬يضع‭ ‬عليه‭ ‬المارة‭ ‬بعض‭ ‬نقودهم،‭ ‬ويمضون‭ ‬إلى‭ ‬شؤونهم‭. ‬في‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬يقوم‭ ‬بما‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬أي‭ ‬متعاطف‭ ‬مع‭ ‬الفقراء‭. ‬يضع‭ ‬قطعته‭ ‬النقدية‭ ‬ويمضي‭ ‬نحو‭ ‬شؤونه،‭ ‬لكنه‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬تموت‭ ‬دهشة‭ ‬الإحساس‭ ‬وتكون‭ ‬تلك‭ ‬المرأة‭ ‬قد‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الديكور‭ ‬العام،‭ ‬فتصبح‭ ‬غير‭ ‬مرئية‭ ‬بالنسبة‭ ‬له،‭ ‬وصوت‭ ‬ابنها‭ ‬الذي‭ ‬يبكي‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬الجوع‭ ‬أمراً‭ ‬عادياً،‭ ‬مثل‭ ‬زامور‭ ‬السيارات،‭ ‬أو‭ ‬صراخ‭ ‬الباعة‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭. ‬العادة‭ ‬قاتلة،‭ ‬تجعل‭ ‬الأشياء‭ ‬تمر‭ ‬عادية‭ ‬أمام‭ ‬أعيننا،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬كذلك‭. ‬الصمت‭ ‬على‭ ‬الظلم‭ ‬شراكة‭ ‬فيه‭.‬

إنّ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يطالب‭ ‬بثقافته‭ ‬وحقه‭ ‬اللغوي‭ ‬والحضاري‭ ‬والإنساني‭ ‬يسقط‭ ‬حتماً‭ ‬في‭ ‬شرك‭ ‬الهويات‭ ‬المغلقة؛‭ ‬هويات‭ ‬هي‮ ‬للوهم‭ ‬أقرب‭ ‬منها لجوهر‭ ‬الحقيقة‭.‬

فهل‭ ‬في‭ ‬المطالب‭ ‬الهوياتية‭ ‬داخل‭ ‬الوطن‭ ‬الأمة‮ ‬L’Etat Nation،‭ ‬ما‭ ‬يضر‭ ‬فعلاً‭ ‬بوحدة‭ ‬الكيان‭ ‬وطني؟‭ ‬كيان‭ ‬لو‭ ‬استوهب‭ ‬معضلات‭ ‬العصر‭ ‬وقرأها‭ ‬بشكل‭ ‬جيد‭ ‬يكون قد‭ ‬خطا‭ ‬خطوة‭ ‬نحو‭ ‬توليد‭ ‬انتماء‭ ‬يجد‭ ‬فيه‭ ‬الاختلاف‭ ‬والتعبير‭ ‬الحر‭ ‬مكانين هما‭ ‬الطبيعيان‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬وطني‭ ‬أشمل؟‭ ‬المنع‭ ‬يولد‭ ‬الكراهية‭ ‬الهوياتية‭ ‬التي‭ ‬تتحول‭ ‬بسرعة‭ ‬نحو‭ ‬شكلها‭ ‬الانفصالي‭ ‬الأكثر‭ ‬تطرفاً‭.‬

الأكثر‭ ‬أسفاً‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬لهذا‭ ‬التصور‭ ‬البسيط‭ ‬أن‭ ‬يمنع‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬من‭ ‬حفر‭ ‬القبور‭ ‬الهوياتية‭ ‬بأيديهم،‭ ‬فتمزق‭ ‬الوطن‭ ‬الواحد‭ ‬إلى‭ ‬وطنيات‭ ‬تسلمتها‭ ‬قوى‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الحروب‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬وسخرتها‭ ‬ووجهتها‭ ‬وفق‭ ‬مصالحها‭. ‬التجارب‭ ‬العربية‭ ‬الأخيرة‭ (‬سوريا،‭ ‬العراق،‭ ‬ليبيا،‭ ‬اليمن،‭ ‬لبنان،‭ ‬المغرب‭ ‬والجزائر‭ ‬بشكل‭ ‬أقل‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن‭)‬،‭ ‬الخطابات‭ ‬الوطنياتية‭ ‬التي‭ ‬اعتمدت‭ ‬خطاباً‭ ‬إقصائياً‭ ‬لكل‭ ‬المكونات‭ ‬التاريخية‭ ‬للأمة،‭ ‬وحساساً‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مطلب‭ ‬لغوي‭ ‬أو‭ ‬حضاري،‭ ‬انتهك‭ ‬الحق‭ ‬الأدنى‭ ‬لمجموعة‭ ‬بشرية‭ ‬في‭ ‬حقها‭ ‬التعبيري‭.‬‮ ‬إنه‭ ‬خطاب‮ ‬يصادر‭ ‬التاريخ،‭ ‬ويتلاعب‭ ‬به‭ ‬تحت‭ ‬غطاء‭ ‬‮«‬المحافظة‮»‬‭ ‬على‭ ‬الوحدة‭ ‬المفترضة‭ ‬لكيان‭ ‬كل‭ ‬الاختلافات‭ ‬والميزات‭ ‬والهويات‭ ‬الصغيرة،‭ ‬مما‭ ‬يجعل‭ ‬أضراره‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬فوائده،‭ ‬بل‭ ‬فتاكة‭ ‬بالنسيج‭ ‬الوطني،‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬مما‭ ‬يظنه‭ ‬سدنة‭ ‬التاريخ‭ ‬وخطاب‭ ‬الحاجة‭ ‬الآنية‭ ‬وليس‭ ‬الاستراتيجي،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬ير‭ ‬النور‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭. ‬فمنح‭ ‬الفرصة‭ ‬للآخر‭ (‬الغرب‭ ‬الاستعماري‭) ‬الحق‭ ‬في‭ ‬الانقضاض‭ ‬على‭ ‬البدان‭ ‬التي‭ ‬أنهكتها‭ ‬الأنظمة‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬التي‭ ‬ترفض‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬تحديداً،‭ ‬غير‭ ‬صورتها‭ ‬المتآكلة‭. ‬المشكلة‭ ‬الكبرى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬حوصلة‭ ‬تاريخية‭ ‬لكل‭ ‬الممارسات‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬أحداث‭ ‬دموية‭ ‬أعقبتها‭ ‬تطرفات‭ ‬هوياتية‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭.‬

‮ ‬أيمكننا‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬فردي‭ ‬أو‭ ‬جماعي‭ ‬دون‭ ‬إثارة‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬بعيد؟‭ ‬ودون‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬إلى‭ ‬الأعماق؟‭ ‬تاريخ‭ ‬شكلنا‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬نحن‭ ‬عليه‭ ‬اليوم؟‭ ‬إنّ‭ ‬ذهنية‭ ‬البتر‭ ‬التاريخي‭ ‬لجزء‭ ‬مهم‭ ‬من‭ ‬الخصوصية‭ ‬الثقافية‭ ‬الوطنية،‭ ‬قد‭ ‬جعلت‭ ‬الجزائر‭ ‬وطناً‭ ‬دون‭ ‬رحم،‭ ‬ودون‭ ‬تاريخ‭. ‬كأن‭ ‬التاريخ‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬سطرها‭ ‬القيمون‭ ‬على‭ ‬البلاد‭ (‬54-62‭) ‬وهي‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬تقاطعت‭ ‬كل‭ ‬الاختلافات‭ ‬والهويات‭ ‬المتصارعة‭ ‬منذ‭ ‬الأربعينيات،‭ ‬فكونت‭ ‬لحمة‭ ‬واحدة‭ (‬العربي،‭ ‬الشاوي،‭ ‬القبائلي،‭ ‬الترقي،‭ ‬الميزابي،‭ ‬الوهراني،‭ ‬العاصمي،‭ ‬القسنطيني‭ ‬وغيرهم،‭ ‬المسلم،‭ ‬المسيحي،‭ ‬اليهودي‭…) ‬خرجت‭ ‬فيها‭ ‬الجزائر‭ ‬منتصرة‭ ‬وموحدة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير،‭ ‬لكن‭ ‬الحسابات‭ ‬الضيقة‭ ‬واللاتاريخية‭ ‬جعلت‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬يتخندق‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬لتقاسم‭ ‬الغنيمة،‭ ‬أو‭ ‬خوفاً‭ ‬على‭ ‬وجوده‭. ‬الحلول‭ ‬الإقصائية‭ ‬السهلة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تؤدي‭ ‬حتماً‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الكسورات‭ ‬الهوياتية‭.‬

لقد‭ ‬تواتر‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬المدرسية‭ ‬–‭ ‬المكان‭ ‬الطبيعي‭ ‬لرسم‭ ‬الهوية‭/ ‬الهويات‭ ‬في‭ ‬تعدديتها‭ ‬الوطنية،‭ ‬هذا‭ ‬الغياب‭ ‬المفجع،‭ ‬وهذا‭ ‬البياض‭ ‬الذي‭ ‬يحرم‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬تاريخي‭ ‬الحقيقي،‭ ‬فجعلا‭ ‬من‭ ‬وطن‭ ‬لا‭ ‬شيء،‭ ‬أو‭ ‬جعلا‭ ‬منه‭ ‬‮«‬ملكية‭ ‬خاصة‮»‬‭ ‬تسير‭ ‬وفقاً‭ ‬لمشيئة‭ ‬من‭ ‬أسسوا‭ ‬لهذا‭ ‬التصور‭. ‬لقد‭ ‬تم‭ ‬‮«‬نهب‮»‬‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬البلاد‭. ‬ويمكننا‭ ‬أن‭ ‬نفترض‭ ‬بحق،‭ ‬لو‭ ‬نشأت‭ ‬الهويات‭ ‬المكونة‭ ‬للبلاد‭ ‬بشكل‭ ‬من‭ ‬مناخ‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬واستراتيجية‭ ‬تكوين‭ ‬بلاد‭ ‬تعترف‭ ‬بتعدديتها‭ ‬وثقافاتها‭ ‬التي‭ ‬تجمعها‭ ‬أرض‭ ‬وتاريخ‭.‬

أيمكننا‭ ‬أن‭ ‬نعتز‭ ‬بأرض‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نعرفها،‭ ‬أو‭ ‬نقص‭ ‬حكاياتها؟‭ ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نتوق‭ ‬إلى‭ ‬انتماء‭ ‬ما‭ ‬ونحن‭ ‬نهزأ‭ ‬بالملامح‭ ‬الأولية‭ ‬المكوّنة‭ ‬له؟‭ ‬أيمكننا‭ ‬أن‭ ‬نذهب‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬الخطابات‭ ‬السياسوية‭ ‬المسطّحة‭ ‬والحاقدة‭ ‬على‭ ‬الآخر‭ ‬الذي‭ ‬فينا‭ ‬ومنّا،‭ ‬والمحتقرة‭ ‬لهويته‭ ‬الثقافية‭ ‬والتاريخية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬جزء‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الوطن‭ ‬الواسع‭ ‬والأرض‭ ‬التي‭ ‬نشأ‭ ‬فيها،‮ ‬ونحن‭ ‬لم‭ ‬نحقق‭ ‬بعد‭ ‬مآتمنا‭ ‬الوطنية‭ ‬المختلفة،‭ ‬ولم نتصالح‭ ‬مع‭ ‬تاريخ‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬نعيش‭ ‬عليها‭ ‬وفيها؟‭ ‬تاريخ‭ ‬صعب،‭ ‬ومعيش‭ ‬ارتعاشة‭ ‬خوف،‭ ‬أو‭ ‬جرح‭ ‬لا‭ ‬برء‭ ‬منه‭ ‬بسهولة‭ ‬دون‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬تصحيح‭ ‬المسارات‭ ‬والأخطاء‭ ‬والحماقات‭ ‬المرتكبة؟‭ ‬البلاد‭ ‬المغاربية‭ ‬التي‭ ‬تطرح‭ ‬فيها‭ ‬مسألة‭ ‬الهويات‭ ‬بحدة،‭ ‬قارة،‭ ‬ولكونها‭ ‬كذلك‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬دقة‭ ‬وحساسية‭ ‬وحذر‭ ‬في‭ ‬التعامل‭. ‬كيف‭ ‬نتناول‭ ‬تاريخ‭ ‬وطن‭ ‬مترامي‭ ‬الأطراف،‭ ‬شديد‭ ‬الثّراء‭ ‬والاتساع‭ ‬والغنى‭ ‬مثل‭ ‬الجزائر،‭ ‬عندما‭ ‬يبتر‭ ‬‮«‬سادة‭ ‬التفكير‮»‬‭ ‬أو‭ ‬المتحكمين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬جزءاً‭ ‬مهماً‭ ‬من‭ ‬جوهره‭ ‬التكويني؟‭ ‬كاتب‭ ‬ياسين‭ ‬يذكرنا‭ ‬بالحماقات‭ ‬التي‭ ‬تسببت‭ ‬في‭ ‬جراحات‭ ‬كثيرة‭ ‬تراكمت‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬شديدة‭ ‬الخطورة‭ ‬‮«‬إنّ‭ ‬تعاسة‭ ‬بلاد‭ ‬ثرية‭ ‬مثل‭ ‬الجزائر تكمن‭ ‬في‮ ‬انعدام‭ ‬وجود‭ ‬دينامو‭ ‬محرك‮ ‬DYNAMO-MOTEUR‮ ‬يعيد‭ ‬لهذه‭ ‬البلاد‭ ‬حجمها‭ ‬الإنساني‭ ‬والعالمي‮»‬‭. ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬العمى‭ ‬لكي‭ ‬نعتبر‭ ‬رأي‭ ‬كاتب‭ ‬ياسين‭ ‬‮«‬ضرباً‭ ‬من‭ ‬التفرقة‮»‬‭ ‬و»الحقد‭ ‬على‭ ‬الأمة‮»‬‭. ‬كلام‭ ‬كاتب‭ ‬عالمي‭ ‬عظيم،‭ ‬قضى‭ ‬حياته‭ ‬يحارب‭ ‬طواحين‭ ‬الهواء‭ ‬مثله‭ ‬مثل‭ ‬النبيل‭ ‬دون‭ ‬كيخوتي‭ ‬دي‭ ‬لامانشا،‮ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يستسلم‭ ‬للاعتباطية‭ ‬واللامعنى‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الأوقات‭ ‬الصعبة‭. ‬إنّ‭ ‬الوطن‭ ‬ليس‭ ‬قطعة‭ ‬أرض؛‭ ‬أو‭ ‬امتداداً‭ ‬لا‭ ‬متناهياً‭ ‬من‭ ‬السواحل‭ ‬والرمال،‭ ‬وإنّما‭ ‬هو‭ ‬أعمق‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬بكثير،‭ ‬إنّه‭ ‬قصيدة‭ ‬شعر‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فك‭ ‬رموزها‭ ‬دون‭ ‬بذل‭ ‬الجهد‭ ‬الإنساني،‮ ‬وقبضة‭ ‬يد‭ ‬ممتلئة‭ ‬بالكرم‭ ‬والنّور‭.‬‮ ‬إنّه‭ ‬نظرة‭ ‬متلألئة‭ ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬بعيد،‮ ‬ولون‭ ‬من‭ ‬الصلصال‭ ‬الأمغر‭ ‬الممزوج‭ ‬بأراض‭ ‬أخرى‭ ‬بلون‭ ‬الدّم‭. ‬والمكتشفون‭ ‬للرموز‭ ‬هم‭ ‬وحدهم‭ ‬الذين‭ ‬يمكنهم‭ ‬بلوغ‭ ‬معناه‭ ‬العميق‭. ‬إنّ‭ ‬الوطن‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬هو،‭ ‬وليس‭ ‬ما‭ ‬نريد‭ ‬نحن‭ ‬أن‭ ‬نفعل‭ ‬به‭ ‬بواسطة‭ ‬إيديولوجية‭ ‬مُفْقِرة‭.‬‮ ‬إنّه‭ ‬حقيقة‭ ‬توليدية‭ ‬شديدة‭ ‬التعقيد‭. ‬إنّه‭ ‬نتاج‭ ‬تاريخ‭ ‬يعرف كيف‭ ‬يمزج‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬التناقضات‭ ‬ويجعلها‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الجماعة‭ ‬أو‭ ‬الفرد‭.‬

الوطن‭ ‬جسد‭ ‬يعيش،‭ ‬يتنفس،‮ ‬ينبض‭ ‬بالحياة،‭ ‬وأحياناً‭ ‬ينتفض‭ ‬بقوة‭ ‬ليعدل‭ ‬عقارب‭ ‬الساعة،‭ ‬ويرفض‭ ‬أن‭ ‬يفرض‭ ‬عليه‭ ‬قانون‭ ‬العصور‭ ‬الغابرة‭.‬‮ ‬إنّه‭ ‬أيضاً‭ ‬محاولة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الاستماع‭ ‬لذلك‭ ‬الغضب‭ ‬العنيف‭ ‬ولرعشة‭ ‬الحب‭ ‬العارم،‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬لتذكيرنا؛‮ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬فقد‭ ‬الذاكرة‭ ‬بأن‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬الرجال؛ الرجال‭ ‬بالمعنى‭ ‬الأكثر‭ ‬ثراء،‮ ‬والأكثر‭ ‬نبلاً،‮ ‬والأكثر‭ ‬تناقضاً‭ ‬أيضاً‭.‬

Leave A Reply