هناك من أعالي الجليل، سطعت شمس النّاصريّ من مغارةٍ ذِكرُها دواء وسرُّها هناء وزادها ضياء. هناك تدلّى الحُبّ من السّماء قطوفًا دانيةً بالخير والطّيوب، تملأ الدّروب بالجنى، وتكلأ القلوب بالمُنى، وتنثر الفقراء في جهات الأرض ملحًا وصبحًا وقمحًا لكلّ البيادر والدّساكر.
في تلك الليلة، طلع ضوء المسيح فاديًا وهاديًا؛ فقُرعِت أجراسُ الكنائس نواقيس بشارةٍ، صداها ترجيعٌ من تراتيل المغارة: بشراك يا مريم، إنّ طفل المذود إصحاحُ السّلام ومصباح الأنام. فاقتفى ظلاله المريدون والحواريّون، يجتدون من وحيه موعدًا للخلاص على ميقات المحبّة. يا زهرة كلّ المدائن، ويا بنفسج كلّ الجنائن: دونك الأرض ضغائن، والعيش ضاق فيها من سعة المدافن. يا سيّدنا المسيح: فقراؤك نحن وبين ظهرانينا ألف هيرودس. من يفتدي عذابات أطفالنا إلّاك يا روح اللّه الأنقى؟ من ينقذهم من أشداق الحيتان إلّاك يا كلمة اللّه الأزكى؟
يا انبلاجة الفجر حقًّا وخيرًا وجمالا، يا عيدَنا الأبلج الأغرّ: اسمك فينا هتاف إيمانٍ وفرح. ألا مسّد بيديك يباس أرواحنا؛ فتخضوضر. أيّها المخضَّبُ بحنّاء دمائك من أجلنا: أحطنا بذراعيك ونقاء حقيقتك. أعدنا إلى إنسانيّتنا وبساطتنا وإيماننا البريء كي نستحقّ محبّتك آمنين مطمئنين.
سلامٌ عليك وألف ألف صلاةٍ تأتمّ أرواحنا فيها بروحك، وتدنو من منارتك وشمعدانك، ومن فتيل قنديلك ومتناول منديلك. فنتسامى معك فوق طين الخراب وتراب الاحتراب. ميلادك سيّدي فائدةُ قيامٍ لا مائدة طعام، وفدية أرواحٍ لا مديةٌ تثخن الجراح.
بالفرح وحده نحيا على أمل انتظارك ورجاء انتصارك. نتلمّس خطى مجوس الشّرق، ونتقمّص وجوه رعيان الجبال، كي نسأل عنك وراء التّخوم وخلف الغيوم وبين النّجوم: أينك أين؟ اللّيل طويل…الخطبُ جليل…الهمّ ثقيل…لا نراك في الجوامع والكنائس، ولا في العمائم والقلانس إلّا في قلّةٍ قليلةٍ ممّن رحم ربّي.
سنظلّ نحتفي بميلادك في عيون الأطفال وقلوب الفقراء الّذين أورثتهم ملكوت السّماء. فأنت غبطة الوجود العظمى في مشارق الأرض ومغاربها، وأنت الوعد السّماويّ الجميل والمبارك أينما كنت.
هلّلو هلّلويا…خلق اللّيلة ملك المجد.