علي زين الدين – الشرق الأوسط
استعادت السلطة النقدية تجربة شراء الوقت عبر التدخل القوي في عمليات القطع وسعر صرف الليرة، وتوخيا لحفظ الاستقرار الداخلي الهش في مرحلة «الانتظار» الثقيل لإنضاج توافق داخلي على إدارة الاستحقاقات العالقة، وفي مقدمتها انتخاب رئيس جديد للجمهورية كمرتكز لإعادة انتظام السلطات الدستورية، ولا سيما تأليف حكومة مكتملة الصلاحيات تعيد الاعتبار لأولويات الملفات الاقتصادية والمعيشية الشائكة.
فمع بلوغ الدولار واقعيا عتبة 50 ألف ليرة وسط شائعات محمومة عن تفلت نقدي خارج أي سقوف سيفضي إلى انهيارات أكثر كارثية تشهدها قيمة العملة الوطنية، فاجأ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مجددا الأسواق الموازية للمبادلات بقرار رفع سعر التداول على منصة «صيرفة»، وعرض شراء السيولة بالليرة – حتى إشعار آخر – لقاء بيع الدولار النقدي (بنكنوت) بسعر 38 ألف ليرة، مع التنويه بأنه يمكن للأفراد والمؤسسات، ودون حدود رقمية، أن يتقدموا من جميع المصارف لتمرير هذه العمليات.
ووفق معلومات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، فإن مرجعا حكوميا صارح اقتصاديين التقاهم أخيرا بصعوبات التحكم بتطورات المشهد النقدي عبر معالجات ذات طابع تقني بحت.
مبينا أن البنك المركزي يحوز من خلال احتياطيه من العملات الصعبة الذي يتعدى 10 مليارات دولار حاليا، قوة التدخل لمنع التدهور الحاد في سعر العملة الوطنية وسحب كميات وازنة من السيولة المتداولة التي تخطت مستوى 75 تريليون ليرة، إنما ينبغي التنبّه إلى التوازن الشرطي مع الأهمية الفائقة للحفاظ على مستوى ملائم للاحتياطات عبر اعتماد آليات للتدخل تضمن عدم «تهريب» الدولارات في هذه المرحلة الانتقالية الحساسة.
ووفق تقديرات مسؤول مالي لـ«الشرق الأوسط»، فإن زيادة تمركز عمليات المبادلات النقدية من خلال منصة «صيرفة» التي يديرها البنك المركزي، يمكن أن تمنح السلطات والأطراف السياسية وقتا ثمينا، إنما هو محدود بأمد مرتبط بالكميات المتاحة للضخ النقدي بالدولار.
وهذا يقتضي تسريع التحركات داخليا وخارجيا للعمل على إنجاز الاستحقاقات الأساسية وفتح مسارات تصويب الأوضاع الداخلية كافة، توطئة لإعادة تعويم خطة التعافي وإقرار مشاريع القوانين الآيلة إلى عقد الاتفاقية النهائية مع الإدارة المركزية لصندوق النقد الدولي، وانسياب التمويل الخارجي من قبل الصندوق والدول والمؤسسات المانحة.
وبرز في القرار الذي تم تعميمه، أن سلامة فسر الارتفاعات المتتالية للدولار في السوق الموازية خلال الأيام الثلاثة الأخيرة بأنها بسبب عمليات مضاربة وتهريب الدولار خارج الحدود. ليؤكد بالتالي أن هذا الارتفاع تسبّب بتضخم إضافي في الأسواق، مما أضر بالمواطن كون الأسعار في لبنان ترتبط بسعر صرف الدولار. علما أن الأسواق تلقفت أيضا محفزات إضافية للمضاربات ناشئة عن دفق استثنائي للسيولة؛ ربطا بسريان إضافة راتبين على الراتب الأساسي لجميع العاملين في القطاع العام وصرف المفعول الرجعي القانوني خلال الشهر الحالي.
وعلى الفور، رصدت «الشرق الأوسط» انحسارا نسبيا لحجم المضاربات والطلب على العملة الخضراء في المبادلات النقدية لدى تجار العملات والصرافين الناشطين في الأسواق الموازية، مع خفض سعر الدولار من عتبة 48 ألف ليرة إلى نحو 42 ألف ليرة، مع تعميم أجواء بأن التدخل الطارئ لن يدوم سوى لأيام قليلة وباستهداف دفع حائزي الدولار إلى عرضه في السوق للتخفيف من سرعة تدهور سعر صرف الليرة.
واستدعى هذا التقلّب صدور تعميم لاحق حمل توضيحات جديدة من قبل البنك المركزي بعيد ثلاث ساعات فقط على صدور القرار الأساسي، ونص على تأكيد مصرف لبنان أنه «سيقوم ببيع الدولارات على هذا السعر (38 ألف ليرة) مقابل الليرات اللبنانية للأفراد والمؤسسات من دون سقف لقيمة العمليات».
كما أكد أنه ليس من شروط متعلقة بتنفيذ هذه العمليات والتي ستنفذ تلقائياً حينما تتقدم المصارف من «المركزي» بالليرات اللبنانية وسيسلم فوراً مقابلها من دولارات. كما أشار إلى أن هذا القرار ساري المفعول حتى إشعار آخر. وسيمدد مصرف لبنان ساعات العمل بما يتعلق بهذه العمليات حتى الساعة الخامسة مساءً من كل يوم عمل وذلك حتى نهاية الشهر المقبل.
بذلك، أفلح البيان الثاني في إعادة الاعتبار لصدمة التدخل الحاسم المعلن، فعادت عمليات القطع في الأسواق الموازية إلى التوازن النسبي تحت سقف 44 ألف ليرة للدولار، لتنشدّ الأنظار إلى تتبع آليات التنفيذ عبر ردهات البنوك وفروعها، بعدما تعذر إجراء عمليات محسوسة بسبب توقيت صدور القرار ساعة إقفال صناديق المصارف والحاجة إلى تصحيح قاعدة البيانات في الأجهزة، ولا سيما اعتماد السعر الجديد لتطبيقات عمليات منصة «صيرفة».
وعانت أسواق الاستهلاك فعليا من فوضى عارمة جراء تفاقم الفوضى في الأيام الأخيرة، ولجوء التجار والباعة بالتجزئة إلى اعتماد أسعار تحوطية تفوق بين 10 و20 في المائة أسعار التداول بذريعة الحفاظ على قيمة إعادة التموين وتكوين فاقد المخزون. وهذا ما أفضى تلقائيا إلى فورة استثنائية في مجمل أبواب الإنفاق ومؤشر الغلاء، المندفع صعودا بوتيرة متسارعة، ومعززا بارتفاع سعر الدولار بنسبة 100 في المائة خلال عام واحد، ليبدد بذلك مفاعيل الزيادات الطارئة على المداخيل في القطاعين العام والخاص على السواء، ولينذر تاليا باندلاع تحركات واضطرابات تطيح بالاستقرار الداخلي النسبي.
وفي هذا الوقت ازدادت المخاوف من اعتماد سعر 50 ألف ليرة للدولار كمحطة انطلاق مسار جديد وأخطر لانهيارات العملة الوطنية يستمد زخمه من انسداد الآفاق الداخلية المتصلة بالشغور الرئاسي واحتدام الخلافات بشأن صلاحيات حكومة تصريف الأعمال، واستمرار الشلل الذي تعانيه غالبية المؤسسات والإدارات العامة. وبدت الترقبات قاتمة لدى المصرفيين والصرافين والخبراء جراء الزخم الحاد لانهيار الليرة في مرحلة زاخرة بالشكوك المعمقة لحال «عدم اليقين».