راغب جابر – النهار العربي
من يهن يسهل الهوانُ عليه ما لجرح بميّت إيلامُ
بيت من الشعر الخالد لأبي الطيب المتنبي، وكل شعره خالد، يعبر عن حال اللبنانيين الذين يسامون أشد القهر والعذاب مستسلمين، وربما قانعين وراضين بقدر يعتقدون أنهم يستحقونه.
انقضت سنة 2022 وحلت سنة 2023، وهو تغيير وهمي غير موجود إلا على الروزنامة، فتغير الأرقام لا يعني شيئاً هنا سوى الانتقال من يوم إلى آخر ليس إلا، ليست المشكلة في العدد 2 ولا التغيير في العدد 3. كله سيان. ليلة رأس السنة هي احتفالية مصطنعة ذات أهداف تجارية بحتة لا علاقة لها لا بالماضي ولا بالمستقبل، فالزمن لا يتوقف منتصف الليل ليعود وينطلق من جديد بهمة ونشاط وبخير وفير، أو بشر مستطير.
من مفارقات الاحتفالات بليلة رأس السنة أن اللبنانيين الذين دخل أكثر من نصفهم في مرحلة الفقر الشديد هم من أكثر الشعوب بذخاً واحتفالاً بالمناسبة، وهو تقليد متأصل فيهم منذ عقود طويلة، لكن مهلاً، ليست الصورة كذلك هذا العام. ما نقله الإعلام من احتفالات وسهرات ومظاهر هو جزء بسيط من الصورة، الصورة الحقيقية في مكان آخر. في البيوت حيث المستور لا يخفى رغم محاولات التستر عليه.
نعم، كانت هناك سهرات وربما تكون المطاعم امتلأت برواد الليلة الراقصة، لكن كم كان عدد تلك المطاعم والفنادق التي أحيت المناسبة ومن كان روادها ومن كان الفنانون الذين استقطبتهم بعدما ذهب معظم “الكبار” ليغنوا في الرياض وعواصم عربية أخرى؟
في مجتمع منهك وشبه جائع، ما زالت هناك طبقة من الأثرياء والميسورين، هذا أمر طبيعي في أي مجتمع، حتى لو كان مسحوقاً، هؤلاء فقط من قصدوا الحفلات، هم ومن حضر من بلاد الاغتراب لقضاء العطلة مع عائلته، هؤلاء لا يتخطون بأحسن الأحوال العشرين في المئة من الشعب اللبناني، أما الثمانون في المئة الآخرون فلم تلتقطهم الكاميرا. بقوا خارج الصورة الزاهية لبلد غير زاهية ألوانه على الإطلاق منذ انفجرت أزمته الاقتصادية قبل أكثر من ثلاث سنوات، وما زالت تتفاقم يوماً بعد يوم على وقع اضطراب سياسي لا أفق له، وعجز تام لدى الطبقة السياسية عن إحداث خرق ولو بسيطاً في جدار الأزمة القاتلة. لن يغير قلب العدد من 2 إلى 3 شيئاً. المسألة كما سلف ليست مسألة تغيير أرقام بل تغيير عقليات ومبادئ وأخلاق، وهذه مسألة معقدة جداً في بلد يشبه قضيب الزعرور المليء بالعقد (باستعارة بتصرف من الأديب الكبير سعيد تقي الدين).
صحيح أن وسائل الإعلام حرصت على تقديم صورة إيجابية. قالت إن لبنان لا يموت وإن شعبه ما زال يحب الحياة ومتمسكاً بالفرح حتى الرمق الأخير، لكن بين الفقرات والسطور والمشاهد كان يطل الفقر واليأس والمعاناة. رجال ونساء وأطفال يتسابقون على مراسلي التلفزيونات من أجل هدية بسيطة أو مبلغ مالي. أشخاص ما كنت لتراهم بهذه الهيئة في ظروف طبيعية. كانوا يطلبون الهدية ويصرون عليها. كانت تفرحهم. عائلات كاملة قصدت الساحات التي حطت فيها محطات التلفزيون حاملة قسائم الهدايا من مؤسسات وشركات رأسمالية غنية. هل لاحظتم فرحة الطفل الذي ربح جرة غاز؟ أغلب الظن أنه سيبيعها ليشتري بثمنها سروالاً وقميصاً وحذاءً أو محفظة لكتبه المدرسية.
المأساة الحقيقية كانت في البيوت.
في البيوت التي لم يحتفل أهلها بالسنة الجديدة. كيف يحتفلون وبماذا ولماذا؟ لقد ملوا الاحتفالات وأخبروا أولادهم أنه تقليد بال وباطل، ووثني. قالوا لهم إن الفرح في القلوب وليس في السهر والمأكل والملبس والمشرب. أقنعوهم بالتواضع وبمساوئ التبذير وبأن الفرجة على التلفزيون تغني عن كل شيء، وبأن توقعات ليلى عبد اللطيف وميشال حايك لا تفوّت، ووعدوهم باحتفالات قادمة وأفراح آتية مع الفرج المنتظر لصبر مر. وفي أحسن الأحوال اصطحبوهم إلى ساحة مزينة أو سوق مشعشع بالأنوار الملوّنة للفرجة فقط.
موائد اللبنانيين في الليلة التي كانوا ينتظرونها من سنة إلى سنة، كانت شبه خاوية، اللحوم “عالريحة” والأجبان والشاركوتري والمكسرات والعصائر والشوكولا والمشروبات قد تكون أصبحت في الذاكرة.. طبعاً لا كستناء ولا حلويات ولا هدايا ولا ألعاب للأطفال… “من الموجود جود”، كما يقول المثل اللبناني، والموجود قليل.
عود على بدء، بيت شعر المتنبي يصح على شعب يعرف تماماً من أفقره وأذله، لكنه يستسلم ويكتم ألمه بصمت عجيب.