ثقيلة أزمات لبنان المركبة منها والبسيطة خاصة وأنها تتجه صعوداً، وما من أفق لحلول قريبة. ترافقت مع الحجر الصحي ومن ثمّ تفجير مرفأ بيروت، ما انعكس على الفنون في مختلف أنواعها. مع تراجع صرامة الإقفال بدءاً من منتصف سنة 2021 كانت الحياة الثقافية والفنية تنتظر من يبثّ فيها الروح من جديد. ولأجل ذلك خاض المعنيون بالثقافة صراعاً مزدوجاً. مع العتمة من جهة، ومع تقلبات سعر الدولار من جهة ثانية، إلى أن استوت الأمور، وتمّ توقيع عقد مساكنة وتعايش ضمني مع الأزمات، عقد انبثق من صلب صراع البقاء والحاجة للتعبير.
شكل المسرح في مدينة بيروت رئة حقيقية يتنفس من خلالها الفنانون، وجمهور المسرح الذي يتشكل من أجيال مختلفة تتوزع بينها المخضرم، إنما جيل الشباب بازر للعيان. ويبدو أن توافقاً غير مكتوب بين المسارح العاملة في مدينة بيروت بات ساري المفعول باعتماد الدولار كبدل للبطاقات. والسبب أن الاستهلاك المالي الأكبر لتشغيل تلك المسارح، يذهب للمازوت الضروري لتوليد الكهرباء، وهو يهوى العملة الخضراء.
بدءاً من شباط/فبراير الماضي بدأت حركة المسارح الثلاثة العاملة في بيروت بالعودة التدريجية معلنة عن عروض متتالية. انطلق مسرح المدينة الذي نوّر شارع الحمراء حين افتتاحه في سنة 1993. فسيدة المسرح في بيروت نضال الأشقر لا تعرف المهادنة ولا الاستسلام. رغم تعدد الأزمات التي عاشها لبنان وبيروت تحديداً منذ التسعينيات إلى الآن، وقرارها التحدي والسير نحو الأمام. درست جيداً أسعار بطاقات الدخول وخفّضتها قدر المستطاع. ووجدت في تلك الأسعار ما يؤمن البقاء والاستمرار للفنانين والعاملين في المسرح.
بدوره انطلق مسرح دوّار الشمس وباتت عروضه منتظمة منذ فكّ الحجر عن الناس. أما المفاجأة في فضاء المسرح البيروتي فتمثلت باقدام الممثلة والمنتجة جوزيان بولس، وإلى جانبها بعض من المؤمنين بالمسرح والثقافة والفنون على استثمار مسرح المونو.
لكن الدورة المسرحية بقيت تفتقد بعضاً من عناصرها فالممثل والمخرج والكاتب جورج خبّاز الذي كان يحجز لمسرحة سنوياً صالة خاصة، بات حالياً في بحث عن صيغة أخرى يعود فيها إلى خشبة المسرح. مسرح جورج خبّاز كانت له مميزاته الخاصة في استقطاب الجمهور من مختلف مناطق لبنان وعلى مدى ثمانية أو تسعة أشهر متواصلة. هذا الجمهور بات عاجزاً عن دفع بدل البطاقات وبدل الانتقال معاً. وجورخ خبّاز يدرك أحوال الناس جيداً. وكذلك كان حال المسرح الغنائي الذي بقي غائباً ولم يبادر أحد من صنّاعه للقيام بخطوة ما.
وفي إطار الأفعال الإيجابية على صعيد المسرح التمدد الذي سجّله المسرح الوطني اللبناني ـ جمعية تيرو للفنون من مدينة صور بإتجاه مدينة طرابلس. وهناك تمت إعادة تأهيل وافتتاح مسرح الأمبير بعد 28 سنة على اقفاله. وبات يستقبل عروضاً مسرحية وسينمائية. وكذلك نشط مسرح أشبيلية في مدينة صيدا واستقبل عروضاً مسرحية، وعروض أفلام مستقلة وثائقية وروائية.
مسرح المدينة
مسرح المدينة استقبل العديد من العروض الجميلة من بينها مسرحية «يا ليل ما اطولك» التي كتبتها وأدتها الممثلة روان حلاوي وأخرجها سليم الأعور. وفيها حكت روان حلاوي وجسّدت بأسلوب درامي مؤثر، ما سردته لها الراحلة ريم البنا في آخر زياراتها إلى بيروت. هذه المسرحية الناجحة بكافة المقاييس عُرضت لثلاث ليالي فقط، وثمة بحث في مزيد من العروض للعام المقبل لأنها جديرة بالمشاهدة من قبل جمهور واسع. فهي تحكي تجربة فنانة من فلسطين، مع الاحتلال، والزواج الفاشل ومع السرطان.
العرض الجميل الذي ميّز عروض مسرح المدينة تمثّل في استقبال مسرحية «آي ميديا» للمخرج والكاتب والممثل الكويتي سليمان البسّام ومعه الممثلة السورية حلا عمران. عروض أقبل عليها الجمهور مستكشفا، متأثراً ومعجباً. وشكّلت تلك المسرحية اعداداً حراً للأسطورة اليونانية، اعتمد على البنى المتدهورة للحقيقة في عالمنا الرقمي. و«ميديا» هي مهاجرة عربية واضحة الخطاب في مقاربتها لـ«وحشية» ما بعد الاستعمار. للأسف «آي ميديا» لم تُعرض في دولة الكويت.
يحي جابر مخرجاً وكاتباً ومنتجاً تابع مشواره مع الشخصية الواحدة على خشبة المسرح. جديده مسرحية «هيكالو» ومعها غاص في العوامل التي أدت لنشوء وتوسع «حي الشراونة» المتمرد على الدولة في بعلبك. جسّد هذا العرض الممثل عبّاس جعفر في أول تجربة له مع مسرح مماثل. المسرحية لا تزال تعمل بنجاح كبير في مسرح دوار الشمس بعد عروض لأيام في مسرح المدينة.
مسرح دوّار الشمس
شكل وجود مسرح دوّار الشمس في منطقة الطيونة مركز لقاء جديد لمحبي المسرح في لبنان. المفارقة التي واجهت هذا المسرح في حزيران/يونيو الماضي أن شرطة بلدية بيروت اختارت مولد الكهرباء الخاص به وختمه بالشمع الأحمر.. والسبب عدم مطابقته للمواصفات البيئية! حملة كبرى واجهت هذا القرار، وُرفع الشمع الأحمر وعادت مسرحية «حاكم طيبة الجديد» إلى الخشبة.
مسرح دوّار الشمس من المسارح الناشطة في بيروت يستقبل الكثير من العروض المسرحية التجريبية التي تستحوذ على اهتمام محبي المسرح. وفي الشهر الأخير من هذا العام تميز دوّار الشمس في استقبال عرض المخرج السوري المميز اسامة غنم في عرض «شمس ومجد». مسْرح غنم في عرضه هذا حياة فئات متنوعة من الشباب حيث الحرب موجودة دائماً.
إلى العروض الكثيرة على خشبة دوّار الشمس برز استقباله لعروض استعادية أسبوعية لمجمل أعمال الكاتب والمخرج يحي جابر منها «مجدرة حمرا» و«طريق الجديدة» إلى جانب مسرحية هيكالو. في الاستعادات يخط جابر نسقاً جديداً في المسرح يبدو أنه مطلوب من الجمهور. يحي جابر علامة مميزة في المسرح اللبناني للعام 2022.
مسرح المونو
بهجة دائمة ترافق جوزيان بولس وهي ترحب بالجمهور المقبل على عروض مسرح المونو وبرنامجه «المفوّل» حتى صيف 2023. استقطب المونو الكثير من المتفرجين الجدد. خشبته متاحة لمن يرغب، وهو لا يسوق لهذا العرض أو لغيره. كانت فيه عروض شعبية كوميدية خفيفة، وأخرى يمكن تصنيفها من بين الأعمال المشغولة بحرفية كبرى كما «لعلّ وعسى» تمثيل حنان الحاج علي ورندا الأسمر. وكان لافتاً في عروض المونو استقباله للبوح النسائي المونودرامي كما «البنت اللي حبت خوليو» أو الجماعي كما «وصفولنا الصبر» للمخرجة دارين شمس الدين.
فريق زقاق يتابع حضوره بنشاط حيث له تجاربه المميزة وحرص في الخريف على احياء «مهرجان أرصفة زقاق» بعد غياب ثلاث سنوات. امتد المهرجان لحوالي شهر، وجمع عشرات الفنانين والمخرجين والشعراء في عروض وفعاليات منوعة بقي المسرح أساساً لانطلاقتها.
السينما
حال السينما اللبنانية كان متعثّراً قبل الأزمة الاقتصادية والجائحة، وتضاعفت المصاعب بعده. وهذا لم يحل دون وصول أفلام جديدة إلى المهرجانات العربية والدولية وحصولها على جوائز. جديد تلك الأفلام حصول فيلم كارلوس شاهين «أرض الوهم» في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي على جائزة سعد الدين وهبة لأفضل فيلم عربي ضمن مسابقة آفاق السينما العربية. وهو فيلم ينتصر للمرأة على من اعتادوا تقرير مصيرها. كما حصدت الممثلة كارول عبّود جائزة أفضل أداء تمثيلي عن دورها في فيلم «بركة العروس» للمخرج باسم بريش. وهو بدوره فيلم يقدّم تحدياً جديداً للمرأة لسلسلة من العادات والتقاليد التي تُكبّلها.
إلى هذين الفيلمين اللذين سيعرضان في بيروت العام المقبل كان لقاء الجمهور مع فيلم «دفاتر مايا» حميماً ومشوقاً. وهو يتضمن سردية عن الحرب وعلاقة الشباب بها وحياتهم خلالها، والهجرة، إلى جانب الحنين واشكاليات أخرى. المخرجان جوانا حاجي توما وخليل جريج كتبا في سيناريو يجمع بين الخيال والواقع بعضاً من حياة جيل الشباب.
وختم المخرج المتميز جداً غسّان سلهب العام مع ثلاثيته الموعودة مع فيلم «النهر» بعد فيلم «الجبل» سنة 2010 ومن ثمّ «الوادي» سنة 2014. أفلام سلهب تتميز بإحساس عالٍ وبمشهدية بصرية ناطقة. أنها مشغولة بمزاج عال، وفيها يجتمع الشخصي مع العام ومع المكان، ليصل بكل متفرج إلى حصيلة قد لا تتساوى مع ما خلُص إليه متفرج آخر.
لبنانياً كانت حصيلة أسبوع الفيلم اللبناني مشجعة، وهي تُنظّم للمرة الأولى. تمثّل الهدف بايصال الأفلام اللبنانية المستقلّة إلى الجمهور خاصة مع الضائقة الاقتصادية التي تحول دون الإقبال على شراء البطاقات. هذا الأسبوع كان من تنظيم جمعية متروبوليس بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي، وجرى اختيار ثمانية أفلام عُرضت خلاله.
فلسطينياً أثار فيلم «فرحة» حفيظة الصهاينة وحاولوا منع عرضه على نتفليكس. «فرحة» كتبته وأخرجته الأردنية دارين سلاّم. فيلم مستوحى من قصة حقيقية عاشتها طفلة فلسطينية كان حُلمها كبير قبل النكبة، وبعدها صارت لاجئة في سوريا. إنها المجازر التي ارتكبتها الهاغانا وشاهدت بعضها تلك الطفلة من ثقب صغير حيث كانت تختبئ. «فرحة» فيلم أكد مدى تأثير الأفلام العربية المماثلة في دحض الرواية الصهيونية التي حاولت وما تزال منذ عام 1948 طمس آثار جرائمها. الفيلم من بطولة كرم الطاهر واشرف برهوم وعلي سليمان.
المهرجانات والحفلات
قليل من مهرجانات الصيف في لبنان ألغى فعالياته. صمدت في وجه المتغيرات وغياب الدعم الرسمي أو تضاؤله للحد الأدنى كما بعلبك، وبيت الدين وجبيل. وجميعها اعتمد برنامجاً مختصراً وضيوف أجانب أقل.
الحفل الكبير الذي شهده لبنان كان في الفوروم دو بيروت بعد إعادة بنائه، بعد تضرره كلياً بفعل انفجار المرفأ. حمل الحفل عنوان «ليلة أمل» وجمع بين هبة طوجي واسامة الرحباني وعازف الفلوت العالمي ابراهيم معلوف. الفرقة الفلهارمونية اللبنانية المؤلفة من 50 عازفاً رافقت غناء طوجي، إلى جانب فريق من الراقصين. حضور الحفل كان مجّانياً وحقق نجاحاً كبيراً.
ولم يغب عن المشهد الفني «مهرجان بيروت الدولي للرقص المعاصر» في ربيع 2022 وإن كانت مساحته قد تراجعت. فقد عقدت فعالياته في متحف سرسق وفي المعهد الثقافي الفرنسي. واستقطب عروضاً راقصة من ألمانيا وإيطاليا.
راحلون:
كثير من الفنانين رحلوا عن عالمنا في العام 2022 منهم الفنان جلال الشرقاوي، وسمير صبري، وزكي فطين عبد الوهاب، ورجاء حسين، وعايدة عبد العزيز، وجالا فهمي، ومهى أبو عوف، وهشام سليم، وجورج الراسي الذي رحل في حادث سير مفجع. روميو لحود الفنان اللبناني الذي يُعتبر من أركان المسرح الغنائي اللبناني، كتب ولحّن العديد من الأغنيات اللبنانية. وقبل أيام رحل الشاعر الحلبي صفّوح شغّالة الذي يعتبر أحد دعائم الأغنية العربية الشعبية التي راجت بدءاً من الثمانيات وما بعدها. وقد غنى كلماته العشرات من الفنانين خاصة من سوريا ولبنان.
زهرة مرعي – القدس العربي