هيام القصيفي – الاخبار
في لحظة تفلّت سياسي وتسليم بأن الشغور الرئاسي طويل، عادت المناكفات الداخلية على وقع تحذيرين، من تفاقم الانهيار الاقتصادي ومن التوتر الأمني
باتت القوى السياسية تتصرف باعتبار أن الملف الرئاسي خرج من أيديها، وبأن الفرصة التي أُتيحت لها في مرحلة منذ ما قبل انتهاء العهد بلبننة الاستحقاق الرئاسي قد ولّت. هذا التسليم، الذي يأتي في شكل مغاير عن استحقاقات رئاسية سابقة، يعكس حقيقة ما جرى بين باريس وقطر والسعودية وإيران، وانعكاس اتصالات قمة الأردن، واللقاءات الدولية والإقليمية المتفرقة. فبات الجميع ينتظر انكشاف بعض التفاصيل المتعلقة بالتسوية المقترحة للبنان وما سينتج منها من اسم رئيس للجمهورية. لكن الانتظار بات يصاحبه تسليم آخر بأن الشغور قد يكون طويلاً، ولو أن ثمة استحقاقات داهمة تحتم التسريع به. ولذلك، ارتدّ الجميع إلى الداخل للعب على حدود التفاصيل المحلية مسلّمين قدر الرئاسة إلى عواصم إقليمية ودولية. لكن، في المقابل، بدأت القوى السياسية تمارس أكبر قدر من المعارك السياسية، في موضوع صلاحيات الحكومة وبدء مرحلة الطعون بمراسيمها، وتشريع الضرورة، واحتدام الكباش السياسي الكهربائي، بحيث لا يتبقى لملف الرئاسة إلا نتف من السياسة العشوائية.
فالارتضاء الطوعي بالشغور ليس حكراً على طرف واحد، ومن الصعب التعامل مع موقفي المعارضة أو حزب الله والتيار الوطني الحر وحلفائهما من دون الأخذ في الاعتبار أن جميع الأطراف يتصرّفون وفق معيار واحد. فأحزاب المعارضة متمسكة بخيار ترشيح النائب ميشال معوض، و«التغييريون» متفقون على الانقسام على أنفسهم، فيما يرفضون أي دعوة إلى حوار للتوافق على رئيس جديد للجمهورية. في المقابل، يتمسّك حزب الله وحلفاؤه بالورقة البيضاء، مع محاولة التيار الوطني الحر أخيراً التمايز عنهم، مستفيداً من الوقت الضائع والشغور الطويل الأمد كي يعيد رئيس التيار النائب جبران باسيل تعويم نفسه مرشحاً رئاسياً. ولكن الحزب وحلفاءه يظهرون في الوقت نفسه تمسكاً دائماً بالحوار حول الشخصية التوافقية. فيما جميعهم يرمون الكرة في ملعب بكركي لجهة دفعها إلى التدخل في شأن، يعرف الجميع أنها لن تكون مؤثرة فيه، لا مسيحياً ولا إسلامياً إلا لجهة الحث على إجراء الانتخابات، لا اختيار الرئيس العتيد.
وبين الوقت الضائع واحتمالات الشغور الطويل الأمد، يمكن التوقف عند مفصلين أساسيين: أولاً حجم الانهيار الذي تتضاعف حدّته اجتماعياً واقتصادياً ومالياً، من دون أي محاولة لفرملته. فما حصل خلال الأيام التي سبقت نهاية العام تم التعامل معه «رسمياً»، على مستوى حاكمية مصرف لبنان وحكومة تصريف الأعمال والقوى السياسية، من باب الاستخفاف بحجم الأضرار التي حصلت وانعكاسها محلياً. ولعل ما قاله رئيس المجلس السياسي في حزب الله السيد إبراهيم السيد في بكركي حول المخاوف من استمرار الانهيار، و«عندها لا قيمة لوجود رئيس في بلد ينهار»، أحد وجوه الأزمة التي يتقاطع فيها جنوح بعض القوى المسؤولة مالياً نحو مزيد من الانهيار، ما ينعكس حتماً على ملف الرئاسة، وغضّ النظر السياسي عن ممارسات مالية تتعلق بقطاع الكهرباء والنفط والمصارف. وهذه مسؤولية مجتمعة لدى كل الأطراف من دون استثناء. فمن قال إن هناك رغبة على أبواب استحقاقات مالية لها علاقة بصندوق النقد والخطط المالية ووضع الحاكمية نفسها، في انتخاب رئيس جديد. ومن قال كذلك إن السكوت «الرسمي» المتمادي على مستويات وزارية ونيابية وسياسية عما يجري مالياً لم يعد له هدف تطويق مرشحين رئاسيين كما الاستحقاق بذاته، بقدر ما هو استمرار في سياسة الإفقار.
وما يجري يضرب عصافير عدة في وقت واحد، طالما أن هناك تسليماً من القواعد الشعبية للمعارضة والموالاة و«التغييريين» بأن حدود اللعبة صارت محصورة بالحد الأقصى بالتحضير للانتخابات البلدية!
أما العنصر الثاني فهو عودة الكلام عن المخاوف الأمنية. ورغم أن هذا الكلام ليس جديداً ويتكرر في مراحل حساسة، يبرز اليوم لجهة تحذير خصوم حزب الله من مرحلة أمنية يمكن أن تتسبّب في زعزعة تسبق مرحلة التسوية. وقد يكون للتلويح بالأسباب الأمنية محلياً وخارجياً ارتباط بحجم المخاوف من أن ترتدّ أي تسوية خارجية أميركية – إيرانية على لبنان تسليماً بنفوذ حزب الله، في انتظار وضوح الموقف السعودي من هذه الاحتمالات. وإذا كان خصوم حزب الله يضعون مسبقاً سقفاً واحداً للتعامل مع أي حدث أمني باعتبار أن الحزب وراءه، تبرز تحذيرات غربية من مخاوف أمنية على صلة بالرئاسة. فمن المسلّم به أن اسم قائد الجيش العماد جوزف عون بات موضوعاً على الطاولة في شكل رسمي في الوسط الخارجي. وعادة يتم تقديم اسم قائد الجيش مرشحاً «أمنياً» في بلد يعيش على وقع الاهتزازات المتتالية. لكن المرحلة اليوم اقتصادية بامتياز، في وقت حُكي عن تسوية أمنية اقتصادية بتزكية عون والرئيس نجيب ميقاتي سوياً لإدارة الوضع. وأي خلخلة أمنية يمكن أن تساهم في تعزيز هذا الجو الرئاسي. رغم أن اختيار أي قائد للجيش لا يتم بحسب مطابخ رئاسية بحكم معرفته الأمنية، بقدر ما يتم اختياره بعد الاطمئنان إلى حجم التعاون الذي يبديه خلال سنوات خدمته مع الأطراف المحليين والخارجيين. لكن توقيت التحذيرات الأمنية يبقى مدعاة تساؤل، ولم يكد يمضي شهران فقط على الشغور الرئاسي.