الكاتب – نصري الصايغ
كلمات، لا شيء غير الكلمات. نباح لا أكثر. أصوات تعوي كذباً. عتمة فاجرة. أيام متآكلة. الأمكنة كلها تعيش اختناقها.
لا حياة إلا لنباح سياسي وأصوات تشبه غارات الذباب. حرام. اللبنانيون لا يستحقون هذا الجحيم.
ثقيل هذا العام الذي أماتنا كثيراً. كان قتلاً بطيئاً علنياً. في تمام الساعة الثامنة إلا ربعاً. تظهر مشهدية تقنع الرعاع، بأن “أخاك” عدو لك. شاشات تكاذب. إطعنه سراً، وإن استطعت، إطعنه ببلاغة الوضوح. ذئاب لإخوانهم الذئاب. الأحرار يتامى. في كل حزن ينوؤون. لا يحلمون إلا كوابيس. جماعة الأتباع مباعة، وسحيقة. وذات حيوية كلبية. في كل طائفة يهيمون. الشرق منصب خيامهم وأموالهم. الغرب مصدر عداواتهم وله الأمرة. “وطنهم” تم تهجيره. اللبنانيون تصالحوا مع الموت. والغريب، ان حلف الأعداء، خيار لا بد منه. يسمونه كذباً: التوافق. وهو حقيقة، التنافق. اللبناني استقال من “لبنان الكبير”. انه كيان ” مبهبط” جداً على “شعوبياته”. أبناؤه الجدد ليسوا في لبنان. ناجحون خليجياً، مع سكون سياسي. ممنوع الحكي السياسي. فلسطين: “رجس من قبل الانقياء” فاجتنبوه وإلا..
الغرب، وطن استثنائي لكل طافر من بلده. وبلده كائن استثنائي لا يحمّل إلا بغضاء آخر. لبنان لا يكفيه. بل، لا يليق به. يدجنه، ان استطاع، وإن لا، فضَّل الاغتراب هناك. على الأقل، يعيش حراً. يفكر بحرية. والأفكار لا تمرض. لا تعاقب. لا تصادر. لا تتشرشح. لا تموت… قد لا تنجب ابداً، ولكنك تشعر أنك كائن غير شكل. استثنائي بنسبة ما… لا تظن ان هربك منه، لوطنك المفترض. خيانة.
عندنا، “أفكارنا” مدافن للطموحات الشرعية والضئيلة. طموح ان تعيش محترماً. مستقلاً. انساناً. طموحاً. محباً ومحبوباً. لك القدر والقيمة. ترفض الإنحناء. لا تركع ابداً. حريتك هواؤك. انسانيتك دينك. تضامنك تعاقد. أنت. ذو طموح طبيعي. كل هذا ممنوع. أنت هنا مطلوب ان تصطف في قافلة العواء. يريدونك مربوطاً برسن الوظيفة، والعيش، والمقام. مطلوب منك ان تجيد التصفيق وترداد الكلام المهين والمهان. يريدونك ويتعاملون معك، كخردة سياسية. وأنت ستغتني بمقدار ما تتنازل عن كرامتك، أو ما تبقى منها. مطلوب منك ان تنحني. أن تسير على ركبتيك. أن تسجد. وأخيراً مطلوب منك بشدة وصرامة، ان تكون “سنكي طق”، تتجه غرباً، ولك منه الأحلام الخائبة، برأسمال من كرامتك… أو شرقاً، بأثقال نفطية مليارية، لك منها فلس الأرملة، أو رأسمال يدفعك الى بسالة الارتكاب. بيعاً وشراءً. فساداً وسلاحاً… اسمك الملعون يطوب قديساً في السياسات والمراكز ومتاريس الخراب المنيعة.
أين الأفكار؟ أين العقائد؟ أين الأحلام؟ متى تحضر فرصة الوطن؟ لا أحد يراهن. بعض الأفكار والعقائد لا تنجب. ننتمي الى مقام التبجيل والحفظ والببغانية. أحزاب الحرية لم تر النور. أحزاب العدالة كلام بكلام. العدالة شجرة يابسة على قارعة الطريق. القيم، الاخلاق، المحبة، الحياة، النمو، الوطن، المسؤولية، الفرح، كلها، كلها، كلها، تم تناسيها عمداً. هذه لا تنجب مجداً ولا موقعاً ولا مالاً.
نحن في خراب مزمن. والآتي جهنم. ومطلوب منا ان لا نعرف إلا الليل. حتى الحب البيولوجي تقهقر. صار الزواج “كوكتيلاً” من الانفاق المترع بأسئلة “من أين لك هذا”؟ لم يعد الحب قيمة عليا، بل قيمة القيم كلها. احياناً كثيرة، الزواج صفقة. وحدهم الفقراء يعرفون طعم الحب، برغم مرارته. الروح تعيش على الفتات وتشبع. أما زعران المال، فيعيشون على النهش. انهم خفافيش السياسة والمال والعهر والفساد.
الإنسانيون المتمسكون بإنسانيتهم. الصادقون مع حواسهم ونوازعهم وافكارهم وقيمهم. ذوو أحلام راقية. سامية. حميمة. طيبة. سخية. ولكن هذه الاحلام لا تتحول الى واقع. الواقع مؤجر الى زبانية الأقوال والأموال.. صدق نيتشه في قوله: “لسنا صادقين تماماً إلا في أحلامنا”. لذا، علينا ان نحرس احلامنا. ان تحلم ببهاء ما عندك. أفضل من ان تكون موظفاً في آلات انتاج الفقر، لمصلحة الفقراء على وسع القارات. إن البشرية في هذا القرن، اكتشفت انها قد أفلست أخلاقياً. والأديان والقيم، سلعة رائجة. الثمن بخس جداً. التنازل عن الإنسانية.
هل نحن الاستثناء؟ طبعاً لا، ولكننا كنا طليعة الساقطين الى زمن لن يأتي منه خلاص ما. نحن الآن في عذاب الغد المجهول. ونعيش بؤس انعدام الأفق، ونسير نهاراً في ليل بلا نجوم. اللقمة راهناً، هاجس الصباح حتى المساء. العلم والتعلم. موعد العيون والعقول، التي أضحت بلا معارف. من أراد العلم، فعليه ان يستأجر إقامة في جامعات الغرب، تكلفة مرهقة وساحقة. اغنياؤنا الصغار، باتوا فقراء. الأغنياء الذين عاشوا على اللصوصية والكذب والسرقة، مفتوحة لهم، أبواب الانفاق، ومشرع لهم أسلوب العيش الباذخ، وتوريث أولادهم واحفادهم، اختصاصات خصبة العائدات. عجباً. لماذا نحب الملايين والمليارات وهلم جراً. الرأسمال لديه كلاب تنبح في الاعلام والجامعات والاختصاصات والإنتاج. ومن يخرج عن الطاعة، ليس أمامه إلا الحصار او الفتن او الحروب… دفتر الشروط الأميركي واضح. ارضخ. التحق بالقافلة. لا تفكر. فقط نفذ. وخذ حصتك في ما بعد. السرقة حلال. الدين يمكن توظيفه. يصبح خادماً طبعاً.
بكل حزن نقول: لم يعد الانسان أملاً. لم يعد امله أولاً. رأس المال، هو “أولاً وأخيراً وبين بين”.
هل لبنان استثناء؟ لا. ولكنه تطرف كثيراً في قصوره. انه مشلول. حيويته الطائفية مرَغته حتى السفالة والسخف والارتكاب. كلهم، برغم تراتبية ضرورية، مرتكبون. لبنان اليوم، لا يزال ممسوكاً. انه تحت اقدامهم. والغريب، ان الناس، على دين ملوكها، وعلى سياسة احذيتهم. لا أحد أفضل من أحد. كثيرون منا، من سلالة النعال.
لا أعرف ما قيمة النشيد الوطني. نشيد سخيف بلا أي حقيقة مطلقاً. “كلنا للوطن” كذبة ما بعدها أكاذيب. “للعلى والعلم”. حقارة ما دونها حقارات… العلى، العلم، سيفنا، الفتى، بحره، بره، الى آخره. من اوصاف تكذب وتكذب. ومطلوب منَّا ان نقف نصباً عندما يُتلى علينا، مصحوباً بموسيقى تليق بنابليون بونابرت. نحن، في هذا الادعاء، أصحاب مدرسة في المبالغات، شعراؤنا تغنوا بلبنان. رفعوه الى الأعلى. ألَهوه. سعيد عقل نبي لبناني. مشرّع للجنون والجهل، تحت يافطة العلم. ان عودة الى أرشيف الادب الشعري، تحيلنا إلى أرشيف المهانات السياسية والأخلاقية.
ما تغنى به الرحابنة وفيروز وزكي ناصيف و… و… ليس موجوداً بالمرة. حنين الى ماضٍ موهوم. تأليف ناجح لشعب راسخ في التبعية. قصائد الحرية، لا تمت الى الاحرار. الأحرار في لبنان، كانوا مؤهلين للسجون والنبذ.. عن جد، لم نكن نتوقع ان يخذلنا الشعر الكياني الى هذه الدرجة. نحن أعجز من ـم ننجز أغنية رائعة وتحويلها الى واقع. في زمن الحثالات السياسية، لا بد من التساؤل، ما مدى المسافة بين الكلمة ومدلولها الواقعي، بين المصطلح وواقعه، وبين الموسيقي و”قفا نبك على رسمٍ درس”. ما بين قلوبنا وجيوبنا.
قيل فينا سابقاً، او قلنا في ذواتنا من قبل، نحن من سلالة فينيقيا. نحن الابجدية. نحن الفكر. نحن البحر ورواده، تجارة وحِرفاً. نحن موئل الديانات والأفكار والملاحم.. هل كان ذلك صادقاً. لا أعرف ثم نحن حضانة الأديان الثلاثة. لا. هذا كثير علينا. علينا ان نتواضع قليلاً، ولكن، ومع ذلك، ماضينا أفضل بكثير من واقعنا. والأدلة كثيرة. أفدحها، ان عمر لبنان مئة عام. كان “موعوداً” وعوداً خلابة. انقسم. ألصقوا به مناطق وكيانات طائفية. لم يلتئم. المنقسمون تقاسموا. لم تكن القسمة عادلة. الغبن كان سياسة الأقوياء. ومنذ ذلك التاريخ، تاريخ ولادته القيصرية، وبالتقسيط، وبالفرض والضغط والقرار الغربي، وهو يتقدم مرة بعد مرة، الى المعاناة. لم ينجح. تحت الانتداب، كان مطيعاً. ليتحرر، لجأ الى داعم أجنبي آخر. دور اللبنانيين، كان في ان يتناطحوا دينياً وطائفياً.
هكذا ولد وطن يشبههم. انه وطن ضعيف. الأوطان الصامدة والنامية، ليست أوطان الطوائف. وبلا خجل، الطوائف هنا، تشبه الطنابر سابقاً. أي مجرورة وليست جارة. ولهذا رسنها بيد الاغيار، لا بيد الأحرار.
مئة عام من التراجع. مئة عام من إنكار القيم. مفكرو لبنان والعالم العربي، تنطحوا وقدموا كتابات وافكاراً وعقائد خلاصيَة نسبياً. عبثاً. كل مفكرينا، هنا وفي العالم العربي التعيس، داسوا بمصالحهم واهوائهم أفكار النهضة والنهوض. فضلوا فتات المنافع. انتظموا في قوافل الاستتباع. والغرب لا يهتم بماذا تؤمن، بل بماذا انت مستعد لتكون في القافلة. مسُوقاً لا سائقاً.
مئة عام، ولبنان لم يولد بعد. هو وطن مستحيل. لأنه معطوب وناقص وذابل. الجمع ممنوع. الفرز معقول ومطلوب. واليوم يعيش لبنان الفصل الأخير من حياته التي عاشها بالمقلوب. لبنان منذ مئة عام كان أفضل بكثير من لبنان العام 2023.
هذا يفضي الى صورة حقيقية. لبنان ولد مثقوباً. لا يجمع ابداً. يزرب.
لذلك علينا ان نعود بخيالنا وحواسنا وعقولنا، الى ذلك الزمن. سنجد ان الأوائل برغم سوئهم، هم قديسون جداً، امام سلالة الشياطين هذه. هذا ما يسمى خازوق الحياة الدائم.
إني اشعر بالخجل واكاد أكره نفسي.
ماذا بعد؟
يبقى السؤال: من المسؤول عن هذا الانتحار؟
طبعاً، نحن أولا. لأننا ولا مرة كنا “نحن” بل كنا سُلعات داشرة ولا تنام إلا في حظائرها. اكانت قديمة ام حديثة أم.. كلنا مسؤول.
هل فات الآوان؟
لا.
“إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد ان ينكسر”.
للشاعر أبو القاسم الشابي
لما لا؟ كان التقليد يؤكد على ان الموت هو نهاية المطاف. غلط. كثيراً. ما يكون ذلك باباً للقيامة.
هذا حلم؟
إذا، لنحلم. الاحلام تتحقق أحيانا. فلنعتصم بأحلامنا وبخلاص شعب صغير يستحق ان يكون وطنه منارة. هل قرأتم قصيدة “عبقر” لشفيق المعلوف”؟
لا تتكل على صوت قلبك وأمانيك. ليكن همك وقع اقدامك ومسافة خطواتك وهدف قبضتك.
لا تقبل وصاية أحد.
كن انت الاصالة.
اكتب بجهدك وعرقك وحريتك، تاريخك. إن لم يكن ذلك كذلك، لا تعجب إن داسوك مرة أخرى.
النجاح، مقعده خالٍ. عجّل. ليكن نصيبك الانتصار بشرط ان تكون مستقلاً وسيد نفسك. التحالف مع الأقوى، يفرض عليك ان تفرح. فيصل هو، فيما أنت من سلالة خفي حنين.
فلنتفاءل. إياك ان تنظر الى الجثة التي خلفك. هذه المرة، لا تدع احداً يسبق حذاءك.