علي زين الدين – الشرق الأوسط
لم تفلح الأحجام القياسية للدولارات التي يضخها مصرف لبنان عبر منصة «صيرفة» في الكبح التام للمضاربات المستمرة على سعر العملة الوطنية. لكنها فرضت، وحتى إشعار آخر، سقفا أدنى لمبادلات الدولار الأميركي عند عتبة 43 ألف ليرة في الأسواق الموازية، بعدما لامس عتبة 50 ألف ليرة قبل التدخل الأخير لـ«المركزي»، قبيل عطلة عيدي الميلاد ورأس السنة، في أسواق القطع.
ومن الواضح، بحسب مصادر مصرفية وناشطين في عمليات الصرافة، أن الشكوك المبنية على التجارب السابقة لتدخلات البنك المركزي تطغى على تأكيداته بتلبية كامل الطلبات على الدولار، طالما لم يتم تعزيزها بتبدلات حاسمة في الأجواء السياسية القاتمة التي ترجّح استمرار الخلافات الداخلية واحتدامها بشأن الاستحقاقات الدستورية الداهمة بدءا من انتخاب رئيس جديد للجمهورية ومعالجة التباسات وضعية حكومة تصريف الأعمال وصلاحياتها.
وتكشف عمليات المبادلات النقدية، أنشطة متاجرة كثيفة يمكن أن تشكل سببا إضافيا ومؤثرا في تأخير التهدئة النسبية المنشودة. فقد لجأ الكثيرون من مخزّني الدولار النقدي في منازلهم إلى تسييل كميات كبيرة لدى الصرافين توخيا لأرباح سريعة محققة فعليا من خلال إعادة شراء الدولار النقدي من معروض البنك المركزي عبر المنافذ المصرفية كافة، بعدما اقتصرت استثنائيا على مصرف واحد فتح أبوابه خلال أيام العطلة الرسمية، ما أدى إلى ازدحامات خانقة.
وإلى جانب زيادة الطلب على الدولار المعروض من قبل المركزي بسعر 38 ألف ليرة عبر منصة «صيرفة»، أي بفارق سعري بنحو 5 آلاف ليرة عن السعر الساري لدى الصرافين، لفتت المصادر المعنية إلى التحسّن الموازي والمتزامن الذي طرأ على سعر صرف الليرة السورية، ما يشي بانتقال جزء وازن من وفرة الدولار المعروض إلى الأسواق السورية من خلال عمليات نقدية بحت يتم إنجاز أغلبها لدى شركات صرافة حدودية أو من خلال سداد أثمان سلع ومنتجات تحتاجها الأسواق اللبنانية.
وتترجم الحصيلة القياسية وغير المسبوقة لعمليات منصة «صيرفة» التي تعدّت 600 مليون دولار في 4 أيام، الدخول الفعلي لكميات كبيرة من الدولارات المخزنة في المنازل، والمقدرة بأكثر من 10 مليارات دولار، إلى أسواق القطع عبر المصارف وشركات الصرافة. فقد بلغ حجم التداولات نحو 310 ملايين دولار في أول يوم عمل من السنة الجديدة (الثلاثاء)، وهو يضاف إلى مبالغ ناهزت 290 مليون دولار تم تلبيتها في الأيام الثلاثة التالية لصدور تعميم مصرف لبنان الصادر يوم 27 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
ويفترض حسابيا أن تكفل هذه المبالغ امتصاص نحو 22.8 تريليون ليرة من الكتلة النقدية بالعملة الوطنية المتداولة خارج البنك المركزي، والتي يمثل تضخمها المفرط إلى سقف 80 تريليون ليرة، كما توثقه الميزانية الأحدث للبنك بنهاية العام الماضي، سببا رئيسيا للمضاربات النقدية ولتفلت التضخم إلى مستويات قياسية تخطت حصيلتها التراكمية ألفين في المائة منذ بداية الانهيارات النقدية والمالية وتفاقمها دون هوادة على مدى 40 شهرا من عمر الأزمة.
وريثما يتم الإفصاح عن تطور ميزانية مصرف لبنان منتصف الشهر الحالي، والكشف رقميا عن مدى نجاعة التدخل في تحجيم الكتلة النقدية بالليرة المتداولة في الأسواق، تشير مصادر مصرفية متابعة إلى عدم رصد نقص في احتياطات البنك المركزي يطابق رقم الكميات، أي نحو 600 مليون دولار، التي ضخها من قبله لتلبية الطلب على الدولار وفقا لتعميم التدخل. وهو ما يؤكد مجددا أن «المركزي» يلجا بدوره إلى سحب كميات من الأسواق الموازية متحملا الفارق السعري من ميزانيته.
ووفق الرصد الإحصائي، فقد شهد العام الماضي زيادة لافتة واستثنائية في حجم النقد المتداول خارج مصرف لبنان بأكثر من 60% أو بما يوازي 34 تريليون ليرة، إذ ارتفع من 46 تريليون ليرة في نهاية العام 2021 إلى ما يقارب 80 تريليون ليرة. ومردّ ذلك، بحسب تقرير مصرفي، إلى التضخم الملحوظ في حجم النقد المتداول في الأشهر الأخيرة من السنة، والمترجم، في المقابل، بارتفاع في احتياطيات مصرف لبنان من النقد الأجنبي.
ولكن المفارقة، وفق المتابعة المصرفية، أنّ هذا التضخم في حجم النقد المتداول ترافق مع ارتفاع في كلفة النقد الورقي (الكاش) بالليرة في الأسواق، حيث زاد من 5.3% في بداية العام إلى 13% في نهايته بنتيجة بعض الإجراءات التقنية المتخذة من قبل السلطات النقدية للجم بعض الآثار التضخمية لزيادة حجم النقد المتداول، علماً أن كلفة النقد الورقي بالليرة كانت قد وصلت إلى مستوى قياسي نسبته 35% في أبريل (نيسان) من العام الماضي.
وفي المقابل، تقدّر احتياطيات العملات الصعبة لدى البنك المركزي بنحو 10 مليارات دولار. وهي انخفضت بمقدار 2.6 مليار دولار خلال العام الماضي. وكاد الانحدار يسجل أرقاما أعلى لو لم يلجأ مصرف لبنان إلى تغطية مبالغ زادت على 700 مليون دولار عبر عمليات خاصة مع شركات الصرافة وشركات تحويل الأموال التي تعرض على المستفيدين صرف المبالغ الواردة إليهم من الخارج بسعر السوق.