أنطوان فرح – الجمهورية
بصَرف النظر عن كل التفسيرات التي أُعطيت في شأن أهداف وصلاحيات الوفد القضائي الاوروبي الذي يبدأ اليوم مهمته الرسمية، لا شك في انّ مجرد قدوم قضاة أوروبيين الى بيروت، والتحقيق مع شهود، أو مشتبه بهم، هو تطور دراماتيكي ستكون له تداعياته في المرحلة المقبلة.
يبدأ العام 2023 على مجموعة تطورات على المستوى المالي والاقتصادي، لعلّ أهمها في هذه الحقبة، التحقيقات التي سيقوم بها قضاة أوروبيون بالتعاون والتنسيق مع القضاء اللبناني، مع شخصيات مالية ومصرفية. ولا يرتبط الملف فقط بالمضمون، أي بالنتائج التي قد تترتب على هذا التحقيق، والاجراءات التي يمكن ان يتخذها القضاء الاوروبي، بل بالشكل أيضاً، أي بتقديم صورة مهزوزة عن الوضع المالي في لبنان، والذي استدعى تدخلاً قضائياً من الخارج.
يأتي هذا الملف الساخن ليُضاف الى الملفات القائمة، والتي لا تبشّر بالخير حتى الآن، ضمن مجموعة من الحقائق، من أهمها ما يلي:
أولاً – لا يبدو انّ الحكومة، وهي في وضع تصريف الأعمال، قادرة أو حتى عازمة على إطلاق خطة للتعافي، تختلف في روحيتها عن الخطة القائمة حالياً، والتي تقوم على مبدأ شطب الودائع. وهذا يعني ان الخطة كما هي لن تُقر، ولا يوجد بديل منها حتى الان.
ثانياً – لا تزال العقلية الشعبوية، والقائمة على بيع الناس الاوهام، ولو تسبّب ذلك بكوارث إضافية يدفع ثمنها الناس أنفسهم في المستقبل، هي السائدة. وما جرى في مجلس النواب في موضوع المادة السادسة من قانون الكابيتال كونترول هو نموذج لهذا النهج. وكل المطلوب إقرار قوانين قابلة للتنفيذ، وتتضمّن العدالة والانصاف. أما سياسة «تبييض الوجه» فهي لا تليق بالنواب، ولا تؤدي سوى الى تأزيم اضافي في المشكلة بدلاً من حلحلة بعض عقدها.
ثالثاً – انّ العلاقة مع صندوق النقد تتراجع، وبدأت الاصوات المطالبة بالتخلي عن التعاون مع الصندوق ترتفع أكثر فأكثر، وقد لا يطول الوقت قبل ان يعلن الصندوق ان ملف لبنان وُضع على الرف، تماماً كما حصل مع تونس في نهاية العام 2022.
رابعاً – وضع الليرة اصبح اكثر تعقيداً، وما يجري اليوم يعكس هذه التعقيدات. اذ ان مصرف لبنان الذي اتخذ إجراء شبيهاً بالاجراءات التي سبق واتخذها في اكثر من مناسبة، وكانت ناجعة الى حدٍ ما، يَجِد اليوم ان السيطرة على السوق صارت مُكلفة جداً، وانّ مليار دولار جرى تداولها بيعاً وشراءً، في بضعة ايام لم تكن كافية للجم استمرار ارتفاع دولار السوق السوداء، ولو ان ضخّ الدولارات ساهَم في تهدئة مسار الارتفاع. لكنّ وقف الضخ سيؤدي فوراً الى عودة الارتفاع السريع للعملة الخضراء. وهذا الوضع بات يُربك المركزي، ودَفعه الى إصدار بيانه التوضيحي امس، من دون ان يعني ذلك ان التبريرات كافية لطَمأنة النفوس. هذا المؤشر يُبنى عليه للقول، انه اذا استمر المشهد على المستويين السياسي والاقتصادي كما هو اليوم، فإنّ 2023 ستحمل معها كارثة الانتقال الى التضخّم المفرط (Hyper inflation).
خامساً – انّ القطاع المصرفي الذي لا يزال صامداً وفق مفهوم تلبية ما يُطلب منه من قبل مصرف لبنان، سيكون مُعرّضاً لضغوطات قد تؤدّي الى كارثة اذا لم يتم التنبّه لها، وفي مقدمها عمليات «شفط» الاموال من قبل مودعين كبار في الخارج يستفيدون من ثغرة عدم وجود قانون يمنع التحويلات، ويقدّمون دعاوى تؤدّي الى إصدار وتنفيذ أحكام تحويل الاموال الى حساباتهم في الخارج. هذا الامر الذي قد يتحول الى كرة ثلج، ويطيح المصارف ويقضي على آمال المودعين، لا سيما الصغار منهم في الحصول على ودائعهم، يحتاج الى معالجة سريعة. ولأنّ الكابيتال كونترول يمكن ان يشكّل الحل، ولأنّ هذا القانون سيأخذ وقته في المجلس النيابي، ولأنّ إقراره حتى لو تمّ إنجازه في اللجان، قد لا يتحقق في ظل الفراغ الرئاسي، ولأن التحكّم بملف إنهاء الفراغ الرئاسي غير ممكن، ولا أحد يعرف كم سيستغرق، لا بد من اعتماد اسلوب طارئ لوقف هذه «المجزرة» في حق المودعين. وهذا يحتّم تدخّل مصرف لبنان، لأنه قادر على إصدار تعميم يمنع بموجبه تحويل الاموال الناتجة عن دعاوى قضائية الى الخارج. وبذلك، يكون قد ساعَد المجلس النيابي في هذه الحقبة، بانتظار ان تسمح الظروف السياسية في إصدار قانون الكابيتال كونترول، عندها يصبح القانون نافذاً، ويتم إلغاء مفاعيل التعميم. ولا يجوز الاختباء وراء مقولة الصلاحيات للادّعاء انه ليس من صلاحية مصرف لبنان إصدار مثل هذا التعميم، لأنّ النماذج المماثلة قائمة في كل دول العالم، وأقربها إلينا مصر التي يتولى فيها البنك المركزي اتخاذ كل القرارات المتعلقة بمنع التحويلات او تحديدها الى الخارج، لحماية مخزون العملات الاجنبية في البلاد.
وفق المعلومات المتوفرة، يعمل مصرف لبنان حالياً على خط هذا التعميم، ويدرس إمكانية إصداره في أسرع وقت ممكن لوقف تسرّب الاموال الى الخارج. ولا بدّ من ان تتحرّك جمعيات المودعين على اختلافها بُغية الضغط لتسريع صدور مثل هذا القرار من مصرف لبنان لحماية اموالهم، وضمان العدالة في الحصول على الحقوق. ومطلوب من النواب أنفسهم ان يدعموا هذا التوجّه، انطلاقاً من مسؤولياتهم في ضمان العدالة والانصاف لكل المودعين.