جويل الفغالي – نداء الوطن
دخل اللبنانيون عام 2023 بقلق وخوف مما سيحمله العام الجديد من مصاعب وتحديات بدأت منذ خريف 2019 وما زالت تتفاقم حتى اليوم. ويقلقهم مصير ودائعهم، وقوتهم الشرائية ووضعهم المعيشي وقدرتهم على الصمود بعدما سجلت الليرة انهياراً اضافياً صادماً نهاية عام 2022، حيث تجاوز سعر صرف الدولار الواحد 46 ألفاً. فضلاً عن الفراغ السياسي وكل ما يجرّه ذلك من انعكاسات سلبية على انتظام عمل المؤسسات الدستورية وحياة المواطنين. فقيمة الرواتب والاجور تتآكل في ظل غياب أي عملية تصحيح شاملة خارج سياسة المساعدات الموقتة خصوصاً لدى موظفي القطاع العام. وهناك نسبة التضخم المتراكم التي ارتفعت الى اكثر من 1600 بالمئة منذ 2019 والتي من المفترض أن ترتفع اكثر بعد فرض الرسوم في موازنة 2022 واعتماد سعر جديد للدولار الجمركي (15000 ليرة ). أما بالنسبة لثقة الخارج بلبنان فهي شبه معدومة، ما يجعل حياة كثير من اللبنانيين من «قلة الموت» حيث أصبحت أحلامهم وطموحاتهم من الصعب الوصول اليها ومن المستحيل تحقيقها وسط هذه «الازمة الكارثة».
أما عالمياً، فشهد النشاط الاقتصادي العالمي عام 2022 تباطؤاً واسعاً فاقت حدّته التوقعات، وستعاني شعوب في شتّى أنحاء العالم من مستويات التضخم لم تسجل منذ عقود، مع ارتفاع أسعار سلع وخدمات ضرورية مثل الطعام، والتدفئة، والنقل، والإقامة. ورغم أن ذروة التضخم ربما تلوح في الأفق، فإن آثاره قد تزداد سوءاً، وفق رويترز. فكيف ستكون حال لبنان لهذا العام؟ وما هي أبرز التوقعات على الصعد الاقتصادية والمالية والاجتماعية لعام 2023 ؟
التضخم مستمر… والعوامل داخلية وخارجية
طرح صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي مخاوف عالمية غير مسبوقة من احتمال حصول ركود للاقتصاد العالمي في سنة 2023. وقد حذر صندوق النقد من إمكانية حدوث هذا السيناريو ونبّه الى «أن الأسر والشركات في مختلف أنحاء العالم ستواجه ما وصفه بـ«رياح اقتصادية عاصفة» بسبب تفاقم معدلات التضخم واستمرار البنوك المركزية في رفع أسعار الفائدة للحد من هذا التضخم، فضلاً عن أزمة سلاسل التوريد وتداعيات سياسة «صفر كوفيد» التي تنتهجها الصين، اضافة الى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء نتيجة الحرب الاوكرانية الروسية».
ويرى الخبير الاقتصادي جان طويلة أن «التضخم سيبقى يقلق العالم كله خلال عام 2023، نظراً لاستمرار الحرب بين أوكرانيا وروسيا، وعدم ظهور أفق لنهايتها، هذا على الصعيد الخارجي. أما على الصعيد الداخلي، فان كل المؤشرات الاقتصادية والمالية مبنية حالياً على استمرار التضخم في لبنان (لبنان حلّ في المركز الثاني عالمياً على مؤشر البنك الدولي لتضخم أسعار الغذاء بنسبة 240 بالمئة، فيما جاءت زيمبابوي في المركز الأول بنسبة 353 بالمئة، وفنزويلا في المركز الثالث)، الى جانب عدم الاستقرار النقدي والتضخم الداخلي. حيث أن معظم التجار يسعّرون على دولار يفوق سوق السوداء وذلك لضمان استمراريتهم وليتمكنوا من تجديد مخازنهم، إضافة إلى دولرة الأسعار في القطاع السياحي، كلها عوامل تؤدي الى زيادة التضخم».
الليرة ستتقهقر أكثر؟
من أهم التحديات التي يواجهها لبنان اليوم هو وقف انهيار سعر صرف الليرة، حيث أنه لا سقف لارتفاع الدولار، «فسعر صرف الدولار سوف يستمر بالارتفاع مقابل الليرة اللبنانية في 2023»، يقول طويلة، «بالرغم من تدخلات مصرف لبنان في السوق للحد من انهيار الليرة، عن طريق استخدام الاحتياطي، أي ما تبقى من أموال المودعين، مع العلم أن هذا التدخل ليس حلّاً مستداما. أضف الى ذلك، وجود العوامل التي تؤدي إلى انهيار الليرة ومنها المتابعة في طباعة العملة الوطنية، وبالتالي زيادة الكتلة النقدية، الأمر الذي يؤدي إلى إرتفاع سعر صرف الدولار وزيادة الطلب عليه».
تفاقم فقر أصحاب مداخيل الليرة
أما على الصعيد الاجتماعي، فـ«قد يؤثر التضخم وانهيار الليرة على الفقراء بشكل مباشر، يقول طويلة، «لأنه يؤثر على ذوي الدخل المنخفض والمحدود، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة التفاوت وعدم المساواة بين الطبقات، واتساع الهوة الإجتماعية بين طبقة ثري٘ة جداً وأخرى فقيرة، فهناك نسبة بسيطة من اللبنانيين الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار الأميركي. أما النسبة الأكبر منهم فما زالت تتقاضى رواتبها بالليرة اللبنانية التي تتآكل قيمتها مع انهيار الليرة وتؤدي الى تراجع القدرة الشرائية، على الرغم من المعالجات التي يتم إجراؤها، مثل زيادة الرواتب ثلاثة أضعاف، فهي لا تحل المشكلة، لأن الدولة اللبنانية تقوم بطباعة الليرة لتأمين الأموال، الأمر الذي بدوره سيؤدي إلى مزيد من التضخم».
أما على صعيد الهجرة، فيرى طويلة «أن هناك قسماً من اللبنانيين ما زال يبحث عن فرص في الخارج، وهو لا يرى مستقبله في لبنان، ولكن المشكلة اليوم أن الأزمة تضرب جميع أنحاء العالم، لذلك هناك قسم كبير من اللبنانيين يعودون الى لبنان نظراً لقساوة الظروف في الخارج وغلاء المعيشة، وخاصة بعد تقرير الصندوق الدولي الذي حذر من خطورة حدوث ركود للاقتصاد العالمي في سنة 2023».
المصارف ومصير الودائع
وبما يخصّ الأزمة المصرفية، أشار طويلة إلى أن «هذه الأزمة مستمرة في ظل التأجيل والمماطلة في الإصلاحات وإعادة هيكلة المصارف، حيث كان من المفترض أن تنفذ هذه العملية بجدية تامّة من قبل السلطتين السياسية والمالية. أما اليوم فيبقى السؤال الاساسي: كيف سيتم تنفيذ هذه الإصلاحات؟ وكيف ستتم عملية إعادة هيكلة المصارف؟ هل بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي؟ أم على الطريقة اللبنانية؟ الواضح أن المسؤولين قد تجاهلوا موضوع صندوق النقد الدولي، وفي حال سيتم تنفيذ الإصلاحات وإعادة الهيكلة، فستكون على حساب الشعب اللبناني. إذاً إن هذه الأزمة مستمرة في ظل البقاء على نفس النهج المتبع منذ سنوات، ونتيجة المماطلة في تنفيذ الاصلاحات وعدم تطبيق عملية اعادة الهيكلة، أو حتى تطبيقها بالطريقة الخطأ، سنشهد المزيد من التضخم بسبب زيادة طبع الليرة».
وعن مصير الودائع، لم يكن طويلة متفائلاً، فبالنسبة له من الصعب، لا بل من المستحيل إعادة الودائع بالكامل، «فهناك فارق كبير بين الاحتياطي المتبقي في المصارف وبين قيمة ودائع اللبنانيين، وهذا الفارق يزداد مع مرور الوقت، ففي بداية الازمة سنة 2019 كان الفارق يقدر بـ 45 مليار دولار، أما اليوم فلقد ارتفع ليصبح 76 مليار دولار، أي تقريباً ثلاثة اضعاف حجم الاقتصاد اللبناني (يقدر الناتج المحلي الاجمالي بـ 16 مليار دولار). فاليوم أصبح من الضروري أخذ الامور بجدية من قبل المسؤولين، ولكن للأسف ما زالت أولوياتهم استعمال ما تبقى من الاحتياطي والتدخل في السوق عن طريق دعم بعض السلع ومن خلال تعاميم مصرف لبنان، فكيف ستتم إذاً اعادة الاموال للمودعين؟ فإذا كانوا يعتقدون أنهم سيتمكنون من اعادة الاموال عن طريق الإيرادات المستقبلية للنفط والغاز، فهذا بالطبع لن يحصل. بالمختصر المفيد، انهم يتجهون نحو الحلول الانسب لهم والتي تفيد مصالحهم الشخصية، على حساب الشعب اللبناني».
ماذا عن الإصلاحات والمفاوضات مع صندوق النقد؟
«لا إصلاحات جوهرية ولا اتفاق مع صندوق النقد الدولي في 2023»، يقول طويلة، «بالرغم من ضرورة الاتفاق مع الصندوق ، حيث أنه لا خيار آخر. ولكن لدى لبنان مجموعة من الشروط التي يجب تنفيذها للوصول إلى اتفاق نهائي، وقد نفذ جزءاً منها فقط، فموضوع «الكابيتال كونترول» ما زال معلقاً، وكذلك إقرار خطة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. لذلك سيكون من الصعب الوصول الى اتفاق معه كون لا ارادة سياسية لدى الحكام في لبنان».
لا تزال الطبقة الحاكمة في لبنان تعتمد العقلية السياسية الاقتصادية الفاسدة نفسها، وما زالت طرق المعالجة هي نفسها بالرغم من تراكم وتفاقم الأزمات، فالتحديات كثيرة أمام لبنان لعام 2023، ومنها الفراغ الرئاسي، وملف الكهرباء، والدولار وتحديات الاقتصاد المدولر، وسعر الصرف، وكيفية التعامل مع ملف الغاز، وتوجه الحكومة نحو صندوق النقد، ومصير الكابيتال كونترول… فكيف ستكون حال لبنان هذا العام؟ التوقعات كثيرة ولكن هل سيشهد لبنان حلحلة على كافة المستويات ولا سيما السياسية والاقتصادية بعد 3 سنوات من الانهيارات؟ أم سنشهد تفاقماً للأزمات وانهياراً مالياً واقتصادياً عميقاً؟
القطاع الخاص يتأقلم نسبياً… لكن رواتب الدولار ستتأثر بالضريبة
كان عام 2022 صعباً وأرخى بثقله على كاهل العاملين والموظفين في القطاعين العام والخاص مع تقلبات سعر صرف الدولار وارتفاع أسعار المحروقات بشكل كبير ادى إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات كافة وتدهور القدرة الشرائية. «فالقطاع الخاص على خلاف القطاع العام، قسم منه استطاع أن يتأقلم مع المتغيرات الاقتصادية وتمكن من تأمين مصادر إيرادات من خارج لبنان جعلته يعتمد عليها لتمويل مصاريفه التشغيلية»، يقول طويلة، «الأمر الذي مكّنه من الصمود والاستمرار وتحسين الاوضاع المعيشية للعاملين فيه، أما القسم الآخر فاضطر الى إغلاق أبوابه. ولكن اليوم سيواجه أصحاب الرواتب بالدولار معاناة كبيرة إذا استمر العمل بفرض ضرائب ضخمة على رواتبهم التي تصل الى حدود الـ 25 بالمئة، حيث أن هذه الرسوم ليست إلا حجة لتمويل مصاريف خزينة الدولة (تدفع من خلالها رواتب الموظفين في القطاع العام)، وليست لتأمين الخدمات للعاملين في القطاع الخاص، أو لتطبيق سياسة اعادة توزيع الدخل».
أما من ناحية القطاع العام، فرأى طويلة أن «السياسة المتبعة في القطاع العام شاركت في انزلاق لبنان أكثر فأكثر في الأزمة، فعدم المباشرة بأي إصلاح، والمتابعة في الفساد والهدر والاستنسابية كلها ساهمت بتفاقم الازمة. فاذا بقي القطاع العام بعيداً عن أي اصلاح، مثل تصغير حجم هذا القطاع وتحسين نوعية الإيرادات واعادة النظر في السياسة الضريبية والحد من التهريب الضريبي والجمركي، سيشهد القطاع العام المزيد من الانهيار».