حسن الدر –
لعلّه الحزب الأكثر تكيّفاً مع الظّروف والمتغيّرات المحلّيّة والإقليميّة، والأكثر براغماتيّةً وواقعيّة رغم كونه حزباً عقائديًّا يتبنّى أيديولوجيّة دينيّة تتخطّى حدود الأوطان المصطنعة لتشمل الأمّة الإسلاميّة على ترامي أطرافها واختلاف قوميّاتها وأعراقها.
لكنّ تلك الأيديولوجيا لم تمنع قيادة حزب الله من مراجعات عدّة عند مفاصل أساسيّة طرأت على المشهد السّياسي والدّيموغرافي منذ انطلاقته في ثمانينات القرن الماضي حتّى يومنا هذا.
يرى مراقبون لمسيرة حزب الله بأنّه مرّ بأربعة تحوّلات جذريّة، فحزب الثّمانيات غيره في التّسعينات، ونسخة ما بعد التّحرير عام 2000 تختلف عن نسخة الحزب ما بعد 2005 حتّى العام 2019، وما بعد حراك 17 تشرين ليس كما قبله، خصوصاً بعد تفاقم الأزمة الاقتصاديّة في البلد وعجز النّظام القائم عن الصّمود في مواجهة الحصار الخارجي والفساد الدّاخلي، وبالأخصّ بعد الحملة الإعلاميّة الممنهجة الّتي قادتها ماكينة محترفة عملت على تحميل الحزب وحده مسؤوليّة إدارة البلد عبر حليفه الرّئيس السّابق ميشال عون وإطلاق يد النّائب جبران باسيل ليتصرّف على هواه السّياسي الإقصائي.
وبسبب قدرات الحزب وامتداده الإقليميّ حاول على مدى ثلاث سنوات التّخفيف من وطأة الحصار الخارجي على لبنان، ورغم قوّة حضوره داخليًّا وإقليمياً، إلّا أنّه لم يستطع فرض حلول بديلة تعوّض اللّبنانيين، وحتّى بيئته الخاصّة، ما خسروه نقداً في المصارف وما يعانونه يوميًّا من تدنّي مستوى العيش على كافّة الصّعد.
اصطدم الحزب بتركيبة النّظام الطّائفيّ العميق ففشل خيار التّوجّه شرقاً بسبب ارتباط قوى أخرى بالبُعد الغربي والأميركي تحديداً، وأدرك الحزب استحالة القيام مقام الدّولة في استيراد المازوت الإيرانيّ وبعض المواد الحياتيّة الأساسيّة.
وللأمانة التّاريخيّة، فإنّ التّحوّل الأخير كان قد عبّر عنه السّيّد نصرالله عام 2009 في مقابلة متلفزة عندما قال: «نحن نتبنّى رؤية الإمام موسى الصّدر للبنان» وهذه تعتبر نقلة نوعيّة في فهم الحزب لطبيعة التّركيبة اللّبنانيّة وخصوصيّتها الّتي لا يمكن مقاربتها بطريقة مغايرة.
لكنّ الحرب في سوريا وقراءة الحزب لأهدافها وخلفّياتها فرضت عليه القتال خارج الحدود لإحباط مخطّط الإطاحة بسوريا باعتبارها قلب محور المقاومة ونقطة قوّته، فتأخّرت بلورة الصّيغة الجديدة لآليات العمل السّياسي الدّاخلي عشر سنوات على الأقل.
في 10 أيّار 2022 خطب الأمين العام السيد حسن نصرالله في الضّاحية الجنوبيّة استعداداً للانتخابات النّيابيّة، وكانت الخطبة تلك صياغة واضحة لأولويّات الحزب في المرحلة القادمة، وممّا جاء فيها:
– تبنّي كلّ ما ورد في كلمة الرّئيس نبيه برّي في اليوم نفسه باعتباره يعبّر عن توجّهات وأفكار الثّنائي.
– في موضوع الدولة، نحن نُؤمن، بما سبقنا إليه الإمام موسى الصدر، أن لبنان هو وطن نهائي لِجميع أبنائه في حدوده الحالية المعروفة؛ هذه المعاني ليس فقط لأهداف سياسية، وإنّما أيضا لأهداف ثقافية.
– لبنان لا يتحمّل طائفة قائدة مهما بلغت هذه الطّائفة من القوّة، بتركيبته المتنوّعة لا يتحمّل حزباً قائداً ولا تياراً قائداً ولا حركة قائدة.
– قد تصبح كحزب لبناني قوّة إقليمية ولكن في لبنان تبقى حزباً لبنانيًّا محليًّا جزءاً من هذه التّركيبة الموجودة في البلد التي تحتاج الى التعاون والى الشراكة والى المساهمة والى التفاهم بين اللبنانيين فيما بين بعضهم البعض.
يعمل السّيد نصرالله دائماً طمأنة اللّبنانيين ودفع الشّبهات والافتراءات الّتي تحاول تصوير الحزب وكأنّه جسماً غريباً عن النّسيج اللّبناني، ويقدّم أدلّة عمليّة ووقائع ملموسة ليس آخرها مسألة ترسيم الحدود البحريّة، فقد حاول خصوم الحزب اتّهامه بعرقلة ملفّ التّرسيم لحين توقيع الاتفاق النّووي بين إيران وأميركا، وثبت العكس.
في الخطابين الأخيرين، وفي مسألة رئاسة الجمهوريّة، وضع السّيّد نصرالله شرطاً وحيداً، وهو رئيس لا يطعن المقاومة في ظهرها، وهذا مطلب وطني وليس حزبياً أو طائفياً لأنّ الطّعن بالمقاومة سيؤدّي إلى حرب أهليّة يخسر فيها الجميع، وبهذا التّواضع في الشّروط أعطى السّيّد نصرالله للرّئيس القادم حرّيّة مطلقة في نسج العلاقات وعقد التّفاهمات الدّاخليّة والخارجيّة الّتي تضمن خروج لبنان من أزمته.
ولهذه المقاربة أسبابها، ولعلّ أبرزها:
– يقين الحزب بأنّ النّهوض الاقتصادي يتطلّب تسوية العلاقات مع الخليج العربي عموماً والمملكة العربيّة السّعوديّة خصوصاً.
– الخوف من جنوح بعض المكوّنات نحو مشاريع التّقسيم أو الفدرلة، والخشية من هذه المشاريع مشروعة في ظلّ الانحلال الّذي تشهده مؤسّسات الدّولة، كأنّ هناك من يريد أخذ البلد إلى مبدأ الادارات المحلّيّة كأمر واقع في ظلّ الغياب شبه التّام لمؤسّسات الدّولة.
– ضبابيّة المشهد الدّولي والإقليمي بعد تعثّر روسيا في أوكرانيا وانعكاس الحرب هناك على العالم بأسره، والخشية من نشوء واقع جديد يفرض تغييرات جيوسياسيّة يعتبر الشّرق الأوسط أرضاً خصبةً لتقبّلها.
– انشغال الخارج بأزمات أكبر من لبنان، وعدم قدرة أي فريق داخلي على فرض رئيس من دون الحوار والتّشاور مع باقي الأفرقاء.
وفي السّياق لا بدّ من الإشارة إلى معنى «طعن المقاومة في ظهرها»، فمخطئ من يظنّ بأنّ منشأ ذلك الشّرط هو خوف المقاومة من تآمر عليها مع الخارج، المسألة تتعلّق بما أكّده السّيّد نصرالله في خطاب العاشر من أيّار، الخوف من أن يأتي رئيس يرضخ لضغوط الأمر الواقع ويقبل بأيّ صيغة تطيح بشكل لبنان القائم، وذلك ما حذّر منه الإمام موسى الصّدر قبل اندلاع الحرب الأهليّة فاعتبر أنّ «سقوط النّموذج اللّبناني يمثّل خسارة للإنسانيّة جمعاء»، وأيّ لعب في الخارطة الجغرافيّة اليوم يعني تثبيت وتشريع وجود الدّولة العنصريّة على حدودنا، لأنّ أيّ تقسيم تحت أيّ عنوان سيكون على أسس طائفيّة.
فهل يلاقى السّيّد نصرالله في منتصف الطّريق؟ وهل يعيد الرّئيس نبيه برّي الدّعوة إلى طاولة الحوار؟
الكرة في ملعب الأفرقاء اللّبنانيين، وإلّا فإنّ لبنان الّذي نعرفه قد لا يبقى على ما عرفناه منذ مئة عام، وأن نذهب إلى حوار سياسي هادئ خير من مغامرة انتظار مآلات الصّراعات الدّوليّة والإقليميّة الّتي قد تطول، وقد يأخذنا تحلّل الدّولة إلى فوضى عارمة وحوار بالنّار لا يستطيع أحد التّنبّؤ بنهاياته!