سلوى بعلبكي – النهار
تتوالى مصائب اللبنانيين يوما بعد يوم وتتفاقم الازمات تبعاً لانهيار سعر العملة، والناس بين مطرقتين: مطرقة فقدان لقمة العيش، ومطرقة العثور على حبّة الشفاء. فبعدما انحسرت موجات التهريب الكبرى من مازوت ومواد غذائية ابان فترة الدعم، عادت لتبرز أزمة التهريب المتمادي مجددا للأدوية، وخصوصا السرطانية منها، اضافة الى حليب الاطفال.
وفيما تعلو صرخات المرضى وذويهم بسبب صعوبة الحصول على ادوية للأمراض السرطانية واللجوء في معظم الاحيان الى الخارج لشرائها مع عدم ضمان فعاليتها، تعلو أيضا مطالب وزارة الصحة للأجهزة والمؤسسات الامنية بضرورة مراقبة وضبط مافيات التهريب والمهربين للحفاظ على ما تيسر حتى اليوم من مخزون علاجي للمرضى في لبنان. فالمعابر غير الشرعية، كما في بعض الاحيان المطار، مفتوحة دونما حسيب أو رقيب جدي فاعل لمنع تسريب الأدوية وتهريبها حتى الى أبعد من سوريا، حيث تبين أن بعضها وصل الى العراق والاردن عبر سوريا أو المطار.
وزارة الصحة بشخص وزيرها فراس الابيض تحاول سد منافذ تسرب الادوية والحليب الى ايدي المهربين عبر آلية تتبّع بالتعاون مع النقابات المعنية والمستشفيات، ونجحت حتى الآن في شمول نحو 50 صنفا من الادوية السرطانية. لكن هذه الآلية لا تشمل حليب الاطفال الذي تفاقم فقدانه أخيرا، فتم رفع الدعم عنه، خصوصا بعدما “لاحظت وزارة الصحة أن الكميات الكبيرة من الحليب المدعوم التي يتم استيرادها تفوق حاجة البلد، وتكاد تكفي بلدين، لكنها تختفي من السوق بعد وقت قليل من وصولها، لذا تم اتخاذ القرار بوقف دعم الحليب”. وأكد الابيض تهريب الحليب الى سوريا، وقال لـ”النهار”: “لو أن حليب الاطفال متوافر في سوريا وبسعر أرخص لكان الشعب اللبناني اشتراه من سوريا بدل تركيا، كما أن كل منطقة البقاع كانت لجأت الى سوريا لشراء الحليب”. وعن عدم شمول آلية التتبّع حليب الاطفال، أشار الابيض إلى أن “الحليب ليس كالدواء ولا يمكن تتبع حركته لأن ليس على علبه Barcode كما أن شراءه لا يحتاج إلى وصفة طبية ما يسهل شراء كميات كبيرة منه من دون حسيب أو رقيب، علما أن شركات مستوردة أكدت إستعدادها لتأمينه بكميات كبيرة بعد رفع الدعم”.
وبالعودة الى تطبيق المسار الممكنن للدواء، فإن اللافت هو ما كشفه الوزير الابيض عن أن “ثغرات كثيرة سادت في السابق، وهذه الثغرات، اضافة الى أبواب الهدر، يجري اغلاقها تدريجا”.
أبرز ما كشفه الابيض أن “مرضى غير لبنانيين كانوا يحصلون على الأدوية المدعومة رغم الدعم الذي يلقاه هؤلاء من جهات دولية، كما أن مرضى كانوا يفيدون من أكثر من جهة ضامنة ويحصلون على أكثر من حاجتهم، وكانت تؤخذ أدوية مدعومة لمرضى مهاجرين أو متوفين. أما الآن فلم يعد في استطاعة التاجر أن يبيع الأدوية المدعومة كما يريد، وتوقفت حظوة بعض المستشفيات التي كانت تأخذ الكميات الأكبر من الدواء”. إذاً، “المسار الممكنن نجح في تأمين العدالة والمساواة بين المرضى اللبنانيين المصابين بالأمراض السرطانية والمستعصية، ونجح ايضا في تأمين الدواء لنحو 75% منهم والعمل جار على تأمين نسبة 100% قريبا”.
وفيما التركيز في موضوع تهريب الادوية والحليب على أنه يهرّب الى سوريا، وهو أمر يسخر منه الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين، على اعتبار أن “أسعار الادوية وحليب الاطفال ارخص بنسب كبيرة في سوريا، فيما يلجأ اللبنانيون اليها لشراء حاجاتهم”، أكد الوزير الابيض أن “تهريب الادوية والحليب ناشط الى الخارج وليس فقط الى سوريا، في حين ان قسما كبيرا منها يباع في السوق السوداء”. وقال: “علينا ان نفرق بين نوعين من الادوية، أدوية الامراض المزمنة التي يشتريها بعض اللبنانيين من سوريا وتركيا بسبب تدني اسعارها كونها مدعومة، أما الأدوية التي تهرب الى الخارج فهي الادوية السرطانية التي لا يوجد منها أصلا في بعض الدول وخصوصا سوريا”، لافتا في السياق الى أنه تم ضبط أحد الاشخاص في المطار متجها الى الاردن وفي حوزته نحو 100 علبة دواء مدعومة لها علاقة بتخثر الدم.
وبما أن الأدوية السرطانية المرتفعة الثمن لا تزال مدعومة 100%، تعمل وزارة الصحة على ضبط استخدامها من خلال آلية التتبع التي تشمل حتى الآن نحو 50 دواء. فالمسار الممكنن الذي تنتهجه وزارة الصحة في تتبع نحو 40 دواء للأمراض السرطانية والمستعصية تعطى في المستشفيات، و11 دواء يتم الحصول عليها من الصيدليات. ويبدأ هذا المسار بإنشاء رقم صحي للمريض Unique ID ومن ثم تسجيل ملفه الطبي من قِبل طبيبه المعالج على منصة “أمان” بما يؤكد أن الدواء الذي يوصف للمريض يلتزم البروتوكولات الموضوعة من وزارة الصحة، وبعدها تتبع هذا الدواء من خلال نظام MediTrack الذي يضبط حركته منذ وصوله إلى لبنان حتى حصول المريض عليه.
ولكن هل هذا يعني أن “كوتا” الادوية التي كانت تخصص للأحزاب لم تعد موجودة؟ ينفي الابيض أصلا وجود “كوتا” للأحزاب على الاقل منذ تسلمه مهامه في الوزارة. “نرسل الادوية الى المستشفيات مباشرة حتى لا يكون هناك كوتا لهذه الجهة أو تلك. الدواء يذهب الى المريض المعني، حتى اننا أوقفنا توزيع الادوية في الكرنتينا لنتجنب مثل هذه الأمور”. وفي سياق آخر، أكد الابيض أن “مبلغ الـ 35 مليون دولار المخصص للأدوية، يذهب الى المرضى الذين هم بحاجة اليها فعلا، وذلك من خلال الترتيبات التي نجريها، علما أن هدفنا ليس التخفيف من الاموال المخصصة للادوية، بل رفع ميزانية الادوية لتشمل الافادة أكبر عدد ممكن من المرضى”. وبناء عليه، أعلن الأبيض عن قرار الوزارة “إستبدال شراء تسعة أدوية Brand للأمراض السرطانية والمستعصية ببدائل لها (Biosimilar) مضمونة الجودة والفعالية إنما بأثمان أقل، ما يتيح شراء كمية أكبر من الأدوية واستفادة عدد أكبر من المرضى، وهو أمر معتمد في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية ومختلف الدول المتقدمة في الرعاية الصحية”.
تراجع نسبة الاستيراد
أدت الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان إلى تراجع في استيراد العديد من السلع والبضائع مع تراجع في استهلاكها، وصولا إلى الدّواء الّذي يطاول صحّة اللبنانيين وسلامتهم، ووفق ما يؤكد الوزير الابيض “كنا نصرف 140 مليون دولار على استيراد الادوية شهريا، وحاليا اصبح انفاقنا نحو 70 مليون دولار، ولكن ليس لأننا أصبحنا نستورد نصف كمية الادوية، بل لأننا أصبحنا نستعين بالادوية الجينيريك”.
واستنادا الى “الدولية للمعلومات” فإنه “إزاء ارتفاع نسبة الاستيراد في العام 2022 إلى مستوى متقارب مع نسبته في الأعوام التي سبقت الأزمة، نجد أنّ الدّواء قد سجل تراجعاً ملحوظاً، فقد وصلت قيمة استيراده إلى 343.2 مليون دولار هذه السنة بعدما كانت 964.6 مليون دولار في العام 2018، أي بتراجع مقداره 621.4 مليون دولار ونسبته 64.4%. أما لجهة الكميات، فقد تراجعت من 10,129 طناً إلى 6,171 طناً (2018 و2022 تباعاً) أي أنّها سجّلت تراجعاً بقيمة 4,048 طناً نسبته 39.6%. كذلك الأمر مع الصادرات التي سجّلت تراجعاً من 53.8 مليون دولار إلى 38.6 مليون دولار، أي بمقدار 15.2 مليون دولار ونسبته 28.2%”.
أسباب التراجع وفق “الدولية للمعلومات” كثيرة أهمها:
– عدم القدرة على دفع ثمن الدّواء، خصوصا لدى فئات كبيرة من اللّبنانيّين، وهذا ما يهدّد صحتهم.
– اعتماد أصناف (من الدّواء) أقلّ سعراً.
– زيادة الاعتماد على الأدوية المصنّعة محلياً لتدنّي أسعارها، وأيضاً جودتها والتي زاد انتاجها.
– استخدام أدوية في معالجة أمراض السرطان أقل كلفة إنما لديها الفعالية نفسها وكانت تُستعمل في سنوات سابقة.
– لجوء العديد من المسافرين إلى سوريا، الأردن، مصر، تركيا، وإيران وغيرها من الدول، إلى استقدام الدّواء منها، نظراً الى سعره المتدنّي في هذه الدول مقارنة مع ثمنه في لبنان، إلى درجة بات فيها الدّواء هديّة بعض المسافرين، ما قلّص الاستيراد بنسبة معيّنة لا يمكن رصدها.