الجمعة, نوفمبر 22
Banner

البياتي بين سامي مهدي وفوزي كريم

عارف الساعدي

شكَّل عبد الوهاب البياتي ظاهرة كبيرة في الشعر العراقي، والعربي، منذ النصف الثاني من القرن العشرين حتى وفاته في 1999 في دمشق، فقد كان محل تضارب وتجاذب، ومنطقة للطعن وللحب، فمنهم من يراه مؤسسة إعلامية، وأنه ليس شاعراً إنما هو مدير علاقات لا أكثر، ومنهم من يراه سياسياً أكثر مما هو شاعر، ومنهم من يراه شاعراً أكبر من كل هذه التفاصيل، وهنا سأركز في مقالتي هذه على اسمين مهمِّين من الشعراء الستينيين، وهما سامي مهدي وفوزي كريم اللذان خصَّ كلٌّ منهما عبد الوهاب البياتي بفصل في كتابيهما، فسامي مهدي خصص له فصلاً في كتابه «في الطريق إلى الحداثة 2015» فيما خصص له فوزي كريم مبحثاً مستقلاً في كتابه «شاعر المتاهة وشاعر الراية 2017»، ويُعدَّ الشاعران سامي مهدي وفوزي كريم من الجيل الذي ظهر بعد تجربة الرواد بما يقارب العشرة أعوام، وكانا قريبين من تجربة الريادة، وقد كتبا كثيراً في مشروع التحديث الشعري، نقداً وتصويباً وهجوماً، من وعي الحداثة والموجة الصاخبة إلى ثياب الإمبراطور وتهافت الستينيين، مما يعني أننا أمام تجربتين شعريتين ونقديتين مهمتين في خارطة الشعر العراقي والعربي، فكيف نظر هؤلاء الشعراء لتجربة البياتي؟

لا أظن أن هناك عيناً أكثر دقة من عينيهما للنظر في تجربة البياتي، وما تستحقه، ولكن حين قرأتُ الكتابين وجدتُ عدداً من النقاط التي اتفقا عليها ضمناً في تجربة البياتي، كالدعم السياسي وما حصل عليه من شهرة، إلى آخره من اتفاق بينهما دون أن يتفقا.

ولكن الاختلاف الذي وجدتُه هو في الرؤية، وفي طريقة المعالجة، فقد كان سامي مهدي أكثر غوصاً وتحليلاً لتجربة البياتي، وكيفية استخدامه التقنيات الحديثة في كتابة قصائده، تحديداً في ديوانه الثاني «أباريق مهشمة» 1954 فيما كان فوزي كريم أكثر ميلاً إلى الروح المقالية في كتابته عن البياتي، وقد ركز أيضاً على «أباريق مهشمة» ولكنه كان أكثر قسوة على البياتي، واهتم بوضعه الاجتماعي وعلاقاته وسعيه للسفر والمشاركات الخارجية، وكان يطلق عليه بأنه «بالغ النشاط العضلي»، وهي شتيمة يطلقها فوزي كريم على البياتي، فيما وقف سامي مهدي وقفة نقدية فاحصة للبياتي، مع العلم أن سامي مهدي حاول في كتابته تفضيل البياتي على نازك والسياب في ديوانه «أباريق مهشمة»، وكان في كل مبحث يحلل فيه ديوان البياتي يعود إلى نازك والسياب متهماً تجربتيهما بالتقليدية، وبأنهما ما زالا رومانسيين، وإنَّ جملهما منطقية وطويلة أقرب إلى العمودي، فيما كان يفضل البياتي بجمله القصيرة والمتفاوتة، التي لا علاقة ربما بين جملة وأخرى، ولكن في النهاية ترتبط بصورة كلية، تنتج نصاً يمثل وجهاً جديداً للشعرية العربية، ذلك أن سامي مهدي يرى أن قصيدة «أباريق مهشمة»، «أول قصيدة عربية قطعت صلاتها مع الشعر التقليدي بأنموذجيه: الكلاسيكي والرومانسي»، بينما ينظر فوزي كريم إلى «أباريق مهشمة» على أن هذا الديوان فيه نزعة شتائم «بدأت من عنوان المجموعة (أباريق مهشمة)، فالأباريق قبيحة، وترمز إلى (أشباه الرجال، عور العيون) التي ستكتسحها السيول». ومن ثم يدخل فوزي كريم ببعض التفاصيل عن بعض قصائد الديوان التي يقول إنه كرسها للشتائم (وهناك قصائد مكرسة للشتيمة، ولا تجدي ملاحقة المفردات الرديئة فيها. فقصيدة «صورة تقريبية لبرجوازي صغير، يقرض الشعر» ترسم بدأب صورة، لا تعكس في حقيقتها رداءة هذا البرجوازي الصغير، بقدر ما تعكس رداءة مخيلة الشاعر، ورداءة عواطفه). ثم يغوص فوزي كريم أكثر فلا يكتفي بمصادرة شعر البياتي على أنه ضجيج وحماسي وآيديولوجي فحسب، إنَّما يذهب بالنقد الذي كُتب عنه، حيث يوجهه توجيها آيديولوجياً، حيث يرى أن كل من كتب عن البياتي كانوا شيوعيين (هذه أسماء كتاب يساريين، إن لم يكونوا شيوعيين، واسعي النشاط والتأثير آنذاك، ولقد أسهموا – بالمقابل – في محاولة إطفاء شموع شعراء، مثل السياب وصلاح عبد الصبور وآخرين)، بينما يرى سامي مهدي أن البياتي أثَّر في شعراء عديدين من العراق ومن غيره من الدول العربية (فحين تقرأ قصائد صلاح عبد الصبور الحرة المبكرة فيما بعد في ديوانه الأول «الناس في بلادي» عام 1957، تجد فيها ملامح من قصيدة البياتي وتقنياتها واضحة بينة)، من دون أن يحلل سامي مهدي هذه التقنيات وتأثيرها على صلاح عبد الصبور أو غيره، فهي جملة عائمة لا ترتكن للتحليل.

يخلص فوزي كريم إلى أن التأليب الذي حصل عليه البياتي والدعم الكبير كان وليد تأليب سياسي، لا تأليب فني، و(إن اعتبار «أباريق مهشمة» يمثل الحداثة في الشعر العربي، على حد قولهم، أو قول البياتي نفسه، ليس أكثر من تشويه من تشويهات الأهواء السياسية وتياراتها المتناحرة)، فيما نظر سامي مهدي إلى «أباريق مهشمة» الديوان على أنه «أول ديوان شعر عربي يقطع كل الخيوط التي تربط هذا الشعر بالقواعد والمعايير التقليدية، وينطلق إلى فضاء جديد واسع، بناء ولغة وتقنية، ويفتح الطريق رحبة أمام غيره»، إذن نحن أمام رأيين مختلفين أشدَّ الاختلاف حول عمل واحد هو ديوان «أباريق مهشمة» فكيف قرأوا هذا الديوان؟ ولماذا أصرَّ فوزي كريم على شيوعية البياتي، وعضليته، أكثر من فنيته؟ بخلاف سامي مهدي المختلف آيديولوجياً عن البياتي، ولكنَّه لم يتطرق إلى يسارية البياتي إلَّا لماماً، وانتصر للبياتي بوصف ديوانه «أباريق مهشمة» فاتحة للشعر العربي الحديث، وفضَّله على حداثة السياب ونازك، بل جعله مدرسة سار من خلفه معظم الشعراء العراقيين والعرب، بينما فوزي كريم يرجع كل شيء صنعه البياتي إلى تأثيرات آيديولوجية، حتى حين يتحدث عن لغة البياتي فإنَّه يقول «هي الأخرى خصلة تتطابق مع متطلبات مرحلة اليسار الشعرية والسياسية آنذاك»، ولا أستطيع – بصراحة – فهم هذه الجملة، وهو يتحدث عن لغة البياتي وجملته الشعرية القصيرة، وما علاقتها بمرحلة اليسار؟

أعتقد أن فوزي كريم هنا في كتابه «شاعر المتاهة وشاعر الراية»، حمَّل البياتي الكثير من الحمولات الآيديولوجية، فلماذا؟ هل لأن فوزي المستقل تماماً عن صراعات الأدلجة، والشاعر الذي انسحب مبكراً عن الساحة العراقية وصراعاتها، ها هو يجلد مناوئيه بفحص نتاجهم الأدبي ويحيله إلى مؤثرات سياسية، بحيث أطلق تسمية شاعر الراية على البياتي، وأن البياتي تجرأ على استبدال القصيدة بالنشيد، وأنا أذكر هنا أني التقيت بالراحل فوزي كريم في القاهرة عام 2012 أيام معرض الكتاب، وسألته عن جيله والأجيال الإبداعية التي سبقته فأجاب بحسرة شديدة، إنهم لم يبقوا لنا شيئاً، بمعنى أن المثقفين الآيديولوجيين لم يبقوا لهم شيئاً لا يساريين ولا بعثيين ولا قوميين، وهذا يفسر إلى حد ما تماهي سامي مهدي في أن يغض الطرف عن آيديولوجية عبد الوهاب البياتي، لأنه كان يقرأ تجربته الخاصة ربما في جزء منها، لذلك حاول أن يبعد الأثر الآيديولوجي عن البياتي، وبهذا يصنع للشعراء الآيديولوجيين مكانة مهمة وكبيرة، بدليل أنَّه انتصر به على نازك الخالية من الآيديولوجية، وانتصر به على السياب الذي لم يستقر على آيديولوجية، فانظروا ماذا صنعت بنا الأدلجة!

المصدر: الشرق الاوسط

Leave A Reply