ابراهيم بيرم – النهار
كثر من زوار عين التينة خرجوا اخيرا بانطباع فحواه ان الرئيس نبيه بري بات في الآونة الاخيرة مثقلاً بهمّ دعوة النواب الى جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية إنفاذا للآليات الدستورية المعمول بها. ويتأتى هذا الهمّ من اعتبارات ثلاثة:
الاول، ان المشهد المتكرر فيها قد أضحى عبئاً كونه باعثاً على الضجر والملل مع تكرار المسار الانتخابي وتكرار النتائج المعلّبة اياها.
الثاني، ان افرقاء الفريق المعارض قد نجحوا من خلال هجمات جريئة قاموا بها منذ جلسة الانتخاب الثالثة في ان يصيروا عامل ازعاج حقيقيا له، لا سيما بعدما ابلوا بلاء حسنا في توجيه سهام الانتقاد الى نمطية ادارته جلسات الانتخاب من جهة، ولكونهم باتوا يتعاملون معه بصفته احد المحامين المدافعين عن الفريق الخصم من جهة أخرى.
الثالث، ان هؤلاء النواب انفسهم قد نظموا دفاعات ناجحة لصد هجمات بري التي اعدّها في سياق اشغال الوقت وملء الفراغ في عملية التصدي من خلال رفض دعواته المتكررة لهم للجلوس الى طاولة حوار وطني تحت شعار البحث عن توافق وتفاهم من شأنه انتاج رئيس جديد انطلاقا من نظرية ان لا إمكان ولا قدرة لأي تجمّع نيابي على إيصال اي رئيس يكون من لدنها في ظل التركيبة الفسيفسائية للمجلس الحالي المنتخَب في 15 أيار الماضي.
بل ثمة اكثر من ذلك، إذ نُقل عن رئيس المجلس خشيته الضمنية من احتمال ان تمضي ولاية المجلس الحالية من دون القدرة على انتخاب رئيس جديد يملأ الشغور المستمر منذ نهاية تشرين الاول الماضي.
وبناء على كل هذه المعطيات، فان ثمة من يتكهن بان الرئيس بري الذي افصح عن انزعاجه امام حشد من النواب عندما ابلغ اليه رائد الدعوة الى الاعتصام المفتوح في حرم المجلس احتجاجا على ما سمّاه “طريقة ادارة جلسات الانتخاب” النائب التغييري ملحم خلف قراره البدء بالاعتصام رافضاً الاستماع منه الى تبريراته لهذه الخطوة، لم يدم استياءه طويلا من هذا الحراك النوعي غير المسبوق، اذ من المحتمل انه وجده بمثابة رمية من غير رامٍ كون هذا التطور سيخفف عنه عبء المسؤولية الملقاة على عاتقه بحكم موقعه كرئيس للسلطة التشريعية التي يتعين عليها وحدها لزاما المسارعة الى ملء الشغور الحاصل بانتخاب رئيس جديد كمهمة حصرية للمجلس بُعيد انتخابه.
لذا ثمة من لا يستغرب ان ينظم بري هجوما مضادا عاجلا على هجمة “التغييريين” عليه، فقد تلقف هذا التطور المفاجئ وحوّله جسر عبور له نحو الآتي:
– اعادة إحياء دعوته القديمة الى طاولة حوار وطني يلتفّ حولها كل الاطراف لعلّهم يفلحون في انضاج تسوية حول رئيس لا تنطبق عليه صفات رئيس التحدي.
– التأكيد مجددا على خطورة الاوضاع الحالية وعلى ما تنطوي عليه من احتمالات سلبية اذا لم يظهر عمل وفعل كابح.
– للمرة الاولى يتحدث اقرب مساعدي بري النائب علي حسن خليل عن السعي الى انتخاب المرشح المفضّل لحركة “امل” سليمان فرنجية إن تيقّن المحور اياه من القدرة على تأمين 65 صوتا، وهو ما عدّه البعض افصاحا عن رغبة هذا التيار في المضي برحلة تحدٍّ حتى لو اقتضى الامر امتناع الكتلتين المسيحيتين الكبريين في المجلس عن التصويت لهذا المرشح.
وفي المقابل، تعمّد بري تجاهل الاعتصام في حرم المجلس، علما انه اعتبره بداية فعل تحد له كونه حل في فناء “بيته” الداخلي. لكن هذا التجاهل لم يخفِ ان سيد المجلس منذ اربعة عقود يعدّ ردا استيعابيا هادئا. وليس بري من النوع الذي تفوته معادلة ان ثلاثة ايام بلياليها كافية لجعل هذا الاعتصام نسياً منسياً، فخلال تلك المدة يكون الإعلام قد استنفد عملية التغطية لهذا الحدث وبعدها سيحمل الاعلاميون كاميراتهم واضواءهم بحثاً عن حدث آخر ليعاني المعتصمون الوحدة والوحشة، خصوصا ان بري العارف بخريطة مجلسه كان يعلم علم اليقين ان الاطار التغييري الذي وُلد فيه النائب خلف ومن سار معه قد اصيب بعطب التشرذم وانفراط العقد في شهره الثاني.
ويعتبر زوار عين التينة ان خلف مضطر الى سلوك هذا المسلك الصعب لانه اراد اظهار امرين: الاول انه وفريق التغييريين ارادوا ان يدرأوا عن انفسهم شبهة التقصير والعجز عن اي فعل يغير من الاداء النمطي للمجلس، خصوصا ان هؤلاء اتوا الى الندوة البرلمانية على صهوة الحراك الشعبي ضد المنظومة الحاكمة. وبمعنى آخر أراد هؤلاء ان ينفوا عن ذواتهم تهمة التدجّن والسير بكنف المنظومة المرذولة.
وبصرف النظر عن دقة هذا الاستنتاج، فالواضح ان بري لم يقف مكتوفا حيال هذا التحدي في ملعبه وكانت له طريقته الهادئة للاستيعاب والإبطال. لذا لم يكن امرا عابرا في نظر كثر ان يمرر الرئيس بري خميسين من دون ان يوجه دعوة كالمعتاد الى النواب لانتخاب الرئيس. كما لم يكن امرا بلا معنى ان يفتح بري ابواب القاعة العامة في المجلس لجلسات التشريع (لجان) رغم اعتراض البعض على هذا الاداء والتشكيك بشرعية انعقادها في ظل الفراغ والشغور.
وفي كل الاحوال، يبدو ان بري المدرك تماما لتفاصيل المسارات السياسية الحالية تجاوز مرحلة ملابسات بدء الاعتصام في حرمه وتركه ليذوي ويذبل اعتقادا منه ان الامور التي تفعل فعلها حاليا على الساحة هي اكبر من ان تؤثر فيها “حروب وتحركات رمزية صغيرة من هذا النوع”.