سلوى بعلبكي – النهار
بدأت دولرة الاقتصاد تكبر ككرة ثلج لتشمل جميع القطاعات، فبعد دولرة المحروقات ودولرة الاستشفاء والمطاعم والتأمين والأدوية وقطع السيارات والأدوات المنزلية وأقساط المدارس الخاصة وإيجارات الشقق والمحالّ التجارية واشتراكات المولدات، وغيرها من النشاطات التجارية والاقتصادية، وصل الدور اليوم الى أسعار المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية في السوبرماركت.
تحقق ما كانت تطالب به نقابات التجار والمستودرين، وتحقق ما كان ينتظره المتابعون للمسار الانحداري لليرة اللبنانية، وانقسم اللبنانيون بين مؤيد ورافض لقرار وزير الاقتصاد أمين سلام التسعير بالدولار وكلٌ له حجته ومبرراته. المهللون يعتبرون أن مثل هذا القرار يخدم المواطن وخصوصاً الزبائن ويضع أمامهم ثباتاً لسعر المواد الاستهلاكية والغذائية التي يحتاج إليها وتبعد الفوارق في الأسعار بين سوبرماركت وأخرى، أو بين تاجر وآخر بما يبعد شبح الاستغلال الذي كان يمارسه بعض التجار والسوبرماركت بعدم خفض أسعارهم عند هبوط سعر صرف الدولار، لا بل يشطحون بالأسعار ما فوق سعر صرف الدولار في السوق الموازية.
أما الرافضون لقرار الوزير فينطلقون في معارضتهم من عدم قانونية القرار والخلل السيادي الذي يعتريه، فالوزير يضع الحجر الأساس لإلغاء الليرة أو على الأقل الإمعان في تهميشها. ويزيد بعضهم على اعتراضه أن اللبنانيين في حال دولرة قوتهم وغذائهم سيصبحون فريسة لجشع التجار والمستوردين خصوصاً في ظل غياب مؤسسات الرقابة واضمحلال قدرتها على مراقبة جودة البضائع وأسعارها. كما ينحو البعض الى القول “إن خطوة كهذه ستزيد من الطلب على العملة الخضراء بما سيشكل ضغوطاً على السيولة ستؤدي حكماً الى ارتفاع جديد في سعر الدولار”.
الوزير سلام قال في مؤتمره الصحافي “لم نكن يوماً من المسؤولين الذين يقبلون بالدولرة أو بتحويل اقتصاد لبنان الى اقتصاد نقدي مدولر، لذلك سأشرح اليوم كيفية عمل هذه الآلية. العنوان الرئيسي هو أن البرنامج الذي نعمل عليه وضعناه في إطار المؤشر الغذائي، ليس فقط في القطاع الغذائي بل يعتمد أيضاً في قطاعات أخرى لحماية المواطن والوضوح والشفافية في الأسعار لأن الاستنسابية في التسعير بين الدولار والليرة لا يمكن السيطرة عليها، لا في السوق السوداء ولا على منصّة صيرفة ولا في مصرف لبنان ووزارة المال”، مؤكداً أن “المؤشر الغذائي هو آلية في وزارة الاقتصاد ولم نلجأ يوماً الى الحلول السهلة أو الهروب الى الأمام، ونحن آخر من سيلجأ الى الدولار لحماية المستهلك ولكن عملنا مع لجنة الاقتصاد وبالتشاور مع القطاع الخاص والصناعيين والمستوردين وأصحاب السوبرماركت على التمييز في التسعير بالدولار بين سعر الدولار على المنتجات مقابل فرض الدفع بالدولار وهذا ما يمنعه القانون”.
رئيس جمعية المستهلك الدكتور زهير برو الذي أكد لـ”النهار” أن أحداً من وزارة الاقتصاد لم يتواصل معه أو مع الجمعية في موضوع التسعير بالدولار، قال إنه في انتظار ما سيؤول إليه القرار خصوصاً أن وزير الاقتصاد أكد في مؤتمره الصحافي أنه سيعطي “مهلة أسبوع قبل إصدار قرار رسمي من وزارة الاقتصاد للرأي العام أي الاتحادات والنقابات ولكل المعنيين بالموضوع للتفاعل والتشاور في هذا الإجراء”، كما أكد الوزير أنه “سيحرص شخصياً على التنسيق مع كل المعنيين وفي المجلس النيابي على وضع الطروحات والملاحظات التي تردنا من أي جهة ودرسها لاتخاذ القرار النهائي ضمن المعطيات الذي سيلحظ الفترة الزمنية والآلية التي ستتبع وتوضيح الخدمات التي سيركز عليها هذا المؤشر الغذائي”.
وإذ سأل عن منافع قرار الدولرة، أكد أن الحلول الجزئية لم تعد تنفع، فيما المطلوب حل جذري ومشروع متكامل للخروج من الأزمة وفي مقدمها ليس تنظيم الاستهلاك كما هي الحال الآن بل تطوير القطاعات الإنتاجية والتكنولوجيا الحديثة والاستثمار فيها لكونها القطاعات الوحيدة التي يمكن أن تدخل الدولارات الى البلاد.
واعتبر برو أن “الحل لا يكمن بتكرار نفس السياسات التي أدت الى إفلاس البلاد، فيما قرار الوزير سلام هو مجرد تقني وإداري وتالياً لن يعالج المشكلة”، مؤكداً أن “سبب ارتفاع الأسعار هو انهيار الليرة، وغياب الدولة عن إعداد برامج انتاجية، والتجار “فلتانين” وطريقة تحايلهم لا نهاية لها، والعناصر الثلاثة هذه لا تزال قائمة ولم تتغير”.
أما خطورة القرار، برأي برو، فهي إمكانية أن “ينسحب قرار التسعير بالدولار على السلع المنتجة المحلية وخصوصاً الزراعية من فاكهة وخضار التي لا تزال أسعارها في متناول فقراء لبنان والتي تشكل الى جانب الحبوب الغذاء الرئيسي لكل الشعوب في حالة الأزمات الكبرى… وبذلك يكون قد فتح باب جهنم على الناس، من هنا ننبه الى خطورة الموضوع وشرعنته”.
الى ذلك أكدت مصادر قانونية أن “قرار الوزير مخالف لقانون حماية المستهلك والنقد والتسليف اللذين يفرضان التسعير والتعامل بالليرة”. واعتبرت أن القرار هو بمثابة “دولرة” انطلقت في جميع مفاصل الاقتصاد، ومن شأنه حرمان الدولة والمصرف المركزي من سلطة التأثير في السياسة النقدية في البلاد، التي تصل إلى حد العجز عن اتخاذ أي قرارات تنسجم مع الأوضاع المستجدة في البلاد، إضافة الى انعدام قدرة الدولة على اتخاذ أي قرارات تنسجم أو تتلاءم مع الأوضاع الاجتماعية التي تطرأ، الاجتماعية، ووضع نفسها تحت رحمة القرارات التي ستصدر عن البنك المركزي الأجنبي بما سيجعل مصرف لبنان في موقع المتلقي لما سيقرره الاحتياط الفيديرالي الأميركي الذي بالطبع لن يأخذ في الاعتبار ما يحتاج إليه لبنان عند تحديده لسياسته النقدية.
وإذ أكدت أن “القرار المرتقب عرضة للطعن بالإبطال أمام مجلس شورى الدولة”، سألت: “على أي سعر صرف سيدفع المواطن على الصندوق؟ هل على أساس سعر السوق السوداء أم صيرفة أم وفق مؤشر يصدر عن وزارة الاقتصاد قد ينشئ سعر صرف جديداً في البلد أم على سعر صرف 1500 ليرة؟”.
في الخلاصة رأى المصدر المراقب أن “المواطن لن يشعر بأي تأثير إيجابي من صدور هذا القرار الذي اعتبره البداية على طريق الدولرة الشاملة ويرمي الى حماية التجار لا المواطن وتشريع مؤشر سينشأ عنه سعر صرف جديد”. ورأى أن “الحل القانوني السليم الذي من شأنه وقف هذه النواحي المنعدمة القانونية أن يتم الضغط لإعادة إحياء ردهة بورصة بيروت عبر منصة إلكترونية تؤدي الى وقف جميع هرطقات أسعار الصرف المتعددة وغير المسبوقة في الجمهورية اللبنانية”.
الى ذلك رأى الخبير الاقتصادي محمد فحيلي أن قرار “وزير الاقتصاد يأتي ضمن سياق خدمة التجار والمستوردين تماماً كما قرار دعم الاستيراد سنة 2021 الذي جاء لمصلحتهم فيما المتضرر الأكبر كان المواطن، وهم اليوم يطالبون بدولرة الأسعار لمصلحتهم وحتماً ليس خدمة للمواطن”.
صحيح أن “التسعير بالدولار” لسلع الاستهلاك سيحل مشكلات مالكي السوبرماركات والمحالّ التجارية، لكنه بالتأكيد سيدفع بالعملة المحلية إلى الهاوية أكثر وأكثر ولن يبقى ليرات لشراء الدولارات… وهذا هو هلاك المواطن والوطن برأي فحيلي.
خلال السنوات الثلاث الماضية، فقدت الليرة اللبنانية قدرتها على العمل “كمخزن للقيمة” (store of value) و”معيار المدفوعات المؤجلة” (standard for deferred payments) بسبب فقدان الثقة بالدولة الداعمة للعملة رغم كل ما يمتلكه لبنان من ذهب. ولكن مع ذلك، فإنها تظل مقبولة، ولو جزئياً، على أنها “وحدة حساب” (Unit of Account) و”وسيلة تبادل” (Medium of Exchange)، وتالياً يقول فحيلي “يجب الحفاظ على هذا القدر من الكرامة للعملة الوطنية ولو لترك خيط أمل لاستعادة الثقة بها”. ويشير الى أن “محاربة الدولار لن تحمي الليرة اللبنانية، وتالياً علينا أن نجد طريقة لجعل الليرة هي العملة المفضّلة أو المستعملة عندما يتعلق الأمر بتسوية المدفوعات في المتاجر المحلية. يجب أن تكون هذه هي الحال سواء كانت الأسعار مرتفعة أو أعلى، وسواء كان الدولار قوياً أو أقوى”.
كذلك رأى أن “تفعيل العمل بوسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي (بطاقة، شيكات، تحويل)، بالحد الأدنى بالليرة اللبنانية ولتسديد فواتير الاستهلاك، يعطي الليرة امتياز أمام الدولار في الاستهلاك، والعودة الى الشمول المالي في الحسابات بالليرة اللينانية، والحد ممّا يعانيه المواطن اليوم وهو “الاستبعاد المالي”، علماً بأن إقفال حسابات توطين الرواتب بالليرة أسهم بتدهور العملة الوطنية”.