سابين عويس – النهار
طوى لبنان اعتباراً من يوم امس، الاول من شباط 2023، صفحة التثبيت النقدي لسعر الصرف الذي دام نحو ثلاثة عقود بقرار سياسي غطته الحكومات المتعاقبة على اختلافها، وتنفيذ تقني من مصرف لبنان الذي تلطى وراء القرار بكلفة باهظة استنفدت جزءاً كبيراً من احتياطاته.
فمنذ يوم امس، بدأ العمل رسمياً بسعر صرف جديد للدولار الاميركي على اساس 15 الف ليرة بدلاً من 1507 ليرات، وفق ما اعلن حاكم مصرف لبنان، وذلك بعد مرحلة تحضيرية بدأت قبل شهرين مع الاعلان عن القرار وسريان مفعوله في شباط 2023، بحيث كان يُفترض بالفترة التمهيدية ان تسهم في وضع آليات تطبيق السعر الجديد، ولا سيما في ما يتصل بالقروض المصرفية التي تشكل العائق الاكبر امام حسن تنفيذ القرار، في ظل وجود نزاع قانوني بين المقترضين والمصارف حول السداد.
لم يقترن القرار بأي آليات تطبيقية بالنسبة الى هذا الموضوع، علماً ان سعر الصرف السابق سمح باطفاء تسليفات بقيمة قاربت 35 مليار دولار، هي في الواقع من ودائع الناس التي اضيفت الى الخسائر المالية، ولا يزال هناك نحو 21 ملياراً يفترض ان يتم سدادها وفق السعر الجديد.
بات واضحاً ان المصرف المركزي يرمي من القرار الجديد الى تنفيذ مطلب صندوق النقد الدولي بتوحيد اسعار الصرف تمهيداً للوصول الى تعويم العملة الوطنية. ولا يزال سعر الصرف الرسمي الجديد بعيداً كل البُعد عن تحقيق هذا الهدف ما دام الدولار يسجل قفزات جنونية في السوق الموازية، ويقلل من استفادة المودعين من رفع سقف السحوبات الى 15 الفاً ما دامت السوق تمتص هذه الزيادة فوراً.
صحيح ان المصرف المركزي بتعاميم اخيرة اصدرها قدم تسهيلات للمصارف لمنع الانعكاسات السلبية على رساميلها التي تراجع تقييمها من 16 مليار دولار الى مليار و600 مليون دولار، فسمح لها بتقسيط حساباتها بالقطع على خمس سنوات بنسبة 20 في المئة سنوياً، كما اجاز لها اعادة تقييم اصولها العقارية بالدولار الطازج مع امكان احتساب 50 في المئة منها ضمن الاموال الخاصة، ولكن كل ذلك لن يحول دون انكشاف التعثر الذي بلغه القطاع المصرفي، كما القطاع الخاص، بما ان تراجع القيمة الفعلية للرساميل لا يتوقف على المصارف وانما على كل شركات القطاع الخاص التي تعذّر عليها اعادة تكوين رأسمالها.
لا تبدو الصورة جيدة بالنسبة الى القطاع المالي خصوصاً والاقتصادي عموما، في ما لو استمرت الاجراءات “الترقيعية”، ولم تتمكن السلطات المعنية من ارساء السياسات الاصلاحية المطلوب ان تواكب قرار تعويم العملة.
على هذا المستوى، لا يلبي لبنان شروط صندوق النقد وسط ارتفاع اصوات معارضة لخيار الصندوق.
والواقع ان المشكلة لا تكمن في تلطي المسؤولين وراء ذريعة تعذر اتخاذ الاجراءات في ظل حكومة تصريف اعمال ومجلس نيابي عاجز عن التشريع، رغم ان هذا الامر صحيح، انما تكمن في عدم جاهزية المشاريع الاصلاحية المطلوب اقرارها وابرزها ثلاثة: “الكابيتال كونترول” ومشروع اطار التوازن المالي ومشروع قانون اعادة هيكلة المصارف.
واذا كان المجلس النيابي يعتزم الالتئام في هيئة عامة تحت عنوان تشريع الضرورة من اجل اقرار مشروع “الكابيتال كونترول” الذي انجِز في اللجان النيابية، فإن المشروعين الآخرين غير موجودين ولم تُكتب مسودتهما بعد، علماً ان المفارقة الساخرة ان مشروع “الكابيتال كونترول” بصيغته النهائية المعدلة غير متوافر هو ايضاً، وثمة نواب يشتكون من عدم قيام لجنة صياغة المشاريع بدورها في كتابة المشروع ليصار الى اقراره كما تم التوافق عليه، من دون مفاجآت او فِخاخ تغير في مضمونه. كذلك ثمة اعتراض من كتلة “الجمهورية القوية” على عقد جلسة عامة يقتصر جدول اعمالها على قانون “الكابيتال كونترول”، مشترطة، وفق ما يكشف النائب غسان حاصباني، ان يترافق ذلك مع المشروعين الآخرين اللذين يكملان الرزمة الاصلاحية المطلوبة من الصندوق، والتي تتيح وضع لبنان على السكة السليمة التي تعبّد طريقه امام التعافي الاقتصادي والمالي.
لن يسلم لبنان من ارتفاع نسبة التضخم واستمرار الدوران في الحلقة المفرغة للتدهور النقدي، طالما لم تقترن الاجراءات النقدية برزمة اصلاحية جدية تسمح باعادة الثقة الى الاقتصاد واستقطاب تدفقات استثمارية غير متوافرة حالياً. والخشية من استمرار الوضع على حاله في ظل استمرار المراوحة على المشهد السياسي وتعطيل الاستحقاقات الدستورية. وفي حين يزور منسق المساعدات الفرنسية بيار دوكان بيروت في اليومين المقبلين ضمن جولة له على دول المنطقة، لا توقعات بأن يحمل جديداً، خصوصاً ان زيارته ستتزامن مع انعقاد الاجتماع الخماسي الاميركي السعودي الفرنسي القطري المصري في باريس، ولن يحمل دوكان اي رسائل قبل ان تتضح نتائج الاجتماع، فيما تنحصر زيارته بمتابعة ملف الطاقة كما اوضحت مصادر حكومية، وهو كشف عن هذا الجانب عقب زيارته الى القاهرة امس حيث اوضح ان لبنان يواجه انهياراً كاملاً في قطاع الكهرباء.
وقد طُرحت مبادرة عام 2021 لاقامة شبكة اقليمية للطاقة تتضمن ايصال الغاز من مصر وانتاج الكهرباء من الاردن، ويمكن للمشروع ان يحظى بتمويل من البنك الدولي، الذي يعمل من اجله دوكان، وهو استطلع ما وصلت اليه النقاشات في مصر على هذا الصعيد. وينتقل دوكان من بيروت الى الاردن ثم واشنطن لاستطلاع تطور الموقف الاميركي الذي لا يزال يعارض تنفيذ المشروع بسبب امتناع واشنطن عن استثناء مصر من العقوبات بسبب مرور الغاز في الاراضي السورية.