حسن الدر –
لطالما ردّد الرّئيس نبيه برّي أمام زوّاره «لبنان لا يُحكم إلّا بالتّوافق» وهذا ليس شعارًا يتغنّى به المخضرم في السّياسة الوطنيّة، والّذي عاش لبنانين ورسم ملامح ثالث في الحرب والسّلم، بل هي قناعة يمارسها ويلام عليها!
فعام 2016 احترم برّي وعد السّيّد حسن نصرالله للعماد ميشال عون وشبه الإجماع الّذي حصّله الأخير بالتّحالف مع جعجع والتّفاهم مع الحريري، بعد سنتين ونصف من الفراغ، وذهب إلى جلسة الانتخاب بورقة بيضاء علمًا بأنّ نصاب التّعطيل كان في «جيبه الصّغير» حسب تعبيره.
ولو غلّب برّي حسابات النّكد السّياسي يومها على حساب العلاقة التّكامليّة مع نصرالله والشّراكة الوطنيّة مع المسيحيين لما وصل عون إلى قصر بعبدا، وليته فعلها!
حسابات اليوم مختلفة، وجميع المطّلعين على أسرار المعركة الرّئاسيّة يعلمون بأنّ برّي قطب رحاها، لأنّ اللّعبة هذه المرّة لبنانيّة داخليّة في غياب الاهتمامات الخارجيّة عنّا، وفي هذا الملعب يستطيع برّي مدّ خيوط علاقاته وصداقاته يمينًا ويسارًا وفي كلّ الاتّجاهات الطّائفيّة والمناطقيّة بعيدًا من الارتباطات الإقليميّة والالتزامات الخارجيّة.
بناء عليه برز الدّور المفاجئ لصديق برّي اللّدود وليد جنبلاط بعدما كانت السّاحة خالية لصولات جعجع وجولات باسيل اللّذين تفوّقا في المزايدات الطّائفيّة والتّناقضات الدّستوريّة والميثاقيّة.
دخل جنبلاط فجأة على الخطّ فخلط الأوراق، وفي غضون أيّام قليلة وبضعة لقاءات سياسيّة تراجع عن تأييد ميشال معوّض وأكّد على ضرورة التّوافق كمعبر إلزاميّ لانجاز الاستحقاق الرّئاسي، وأعلن من عين التّينة، باسمه واسم برّي، عدم إمكانية الاستمرار بالجلسات العقيمة والتّصويت بأوراق بيضاء وغيرها..
عمليًّا، أعلن جنبلاط انتقال برّي إلى الخطّة «باء» بعد إفشال الخطّة «ألف» أي الدّعوة إلى الحوار والتّوافق وهو السّبيل الأنجح حسب قناعة برّي المبنيّة على تجاربه الطّويلة وخبرته العميقة في التّركيبة اللّبنانيّة.
أمّا وقد أصبحت كلفة الفراغ أعلى بكثير من كلفة الانتقال إلى عمليّة انتخاب ديموقراطيّة غير توافقيّة، فلا بأس بملاقاة الفريق الآخر في صندوقة الاقتراع وفق مقتضيات اتّفاق الطّائف الّتي تؤمّن الشّراكة والميثاقيّة، أي جلسة انتخاب بالأكثريّة المطلقة بحضور ثلثيّ أعضاء المجلس، وعلى قاعدة «هذا مرشّحنا فهاتوا مرشّحكم» وليفز من يجمع أكبر عدد من الأصوات.
غادر جنبلاط عين التّينة وأدار برّي محرّكاته الرّئاسيّة سرًّا وعلانيّة، وسرعان ما بدأت التّسريبات عن أسماء النّوّاب وعدد الأصوات، وامتلأت الشّاشات بالتّقارير والبوانتاجات لهذا المرشّح وذاك، والكلّ يُجمع على أنّ سليمان فرنجية الأوفر حظًّا بما لا يقارن مع غيره من الأسماء المطروحة.
أمام هذا التّحوّل في مقاربة الملفّ الرّئاسيّ شعر خصوم فرنجية بالقلق فشنّوا حملة في اتّجاهين:
الأوّل رفع وتيرة التّسويق لقائد الجيش استنادًا إلى اللّقاء الخماسي المزمع عقده في باريس.
والثّاني تنصّل القوّات اللّبنانيّة وبعدها حزب الكتائب من التّعهّد بعدم تعطيل نصاب الانتخاب بحجّة رفضهم القبول بتوقيت حزب الله حسب تعبير النّائب سامي الجميّل.
ثمّ جاءت زيارة سفير المملكة العربيّة السّعوديّة إلى اليرزة واجتماعه بقائد الجيش فحاول هؤلاء ومعهم جبران باسيل وضع الزّيارة، في توقيتها، في إطار قطع الطّريق على سليمان فرنجية، لكنّ مصادر قريبة من السّفير السّعودي وضعت الزّيارة في إطار دعم العماد عون بعد هجوم باسيل عليه والتّأكيد على موقف المملكة بعدم تأييدها أو رفضها لأيّ من الأسماء المطروحة، مع ملاحظة أنّ المملكة انتقلت من مرحلة الحياد السّلبي اتّجاه لبنان إلى مرحلة استطلاع الآراء دون اتّخاذ موقف محدّد بانتظار مآلات الأمور في المنطقة.
لكن الأكثر إثارة للاهتمام زيارة السّفير الكويتي إلى بنشعي في اليوم نفسه، ولقائه زعيم المردة سليمان فرنجية، ومعلوم الدّور الكويتي في ترتيب العلاقات اللّبنانيّة الخليجيّة بعد أزمة الوزير السّابق جورج قرداحي والمبادرة الّتي تبنّتها دولة الكويت لإعادة العلاقات إلى طبيعتها بين لبنان وأشقائه العرب.
بالعودة إلى بوانتاج برّي حول فرنجية وحملة التّشويش الّتي رافقته، ومنها أنّ سقف ما يمكن أن يوفّره برّي وحلفاؤه لفرنجية لا يتعدّى الخمسين صوتًا يقول مصدر قريب من عين التّينة: ما دام الأمر كذلك فلماذا كلّ هذا الخوف والهلع؟ فليذهبوا إلى جلسة ثانية بنصاب الثّلثين، وإذا صدقت حساباتهم يكونوا قد ضربوا رئيسين بجلسة واحدة.
ويتابع المصدر ذاته: لقد حرص الرّئيس برّي على التّشاور والتّوافق والحوار مع الجميع، وأعطى وقتًا لذلك، وعقد احدى عشرة جلسةً حتّى تحوّلت الجلسات إلى مهزلة، وكان خطاب الفريق الآخر يدعو إلى احترام العمليّة الدّستوريّة ولينجح من ينجح في دورات متتالية.
حسنًا إذن، لقد أدّينا قسطنا إلى التّوافق فلنذهب إلى الانتخاب، وليتحمّل المعطّلون المسؤوليّة أمام اللّبنانيين عمومًا والمسيحيين خصوصًا، أليسوا دعاة حفاظ على الحقوق والمواقع المسيحية؟!
وعن مدى جدّيّة ترشيح قائد الجيش يقول: العماد عون شخصيّة محترمة لكنّه محكوم بتعديل الدّستور في ظلّ مجلس بالكاد يستطيع الاجتماع على 65 صوتًا لانتخاب رئيس في دورة ثانية، وبالمناسبة، الّذين يدعمون قائد الجيش يرفضون اجتماع المجلس في غياب الرّئيس، فكيف سيعدّلون الدّستور إذا استطاعوا تأمين 86 صوتًا لذلك، وهو أمر شبه مستحيل، يختم المصدر.