انطلقت الشاعرة الكويتية سعاد الصباح في تبنيها لقضية تحرر المرأة من إحساسها بمرارة المظلومية التي حاقت بنساء مجتمعها من جانب، وإيماناً منها بالمكانة التي يجب أن تتبوأها المرأة على الصعد كافة من جانب آخر، فلم يكن تماهيها مع هذه القضية انطلاقاً من ذاتها؛ فهي سليلة الأسرة الحاكمة الكويتية، التي منحتها الدعم الكامل منذ بدايات تفتق موهبتها الشعرية.
وثمة رأي، وشبه إجماع، لدى النقاد، على أن دعوة سعاد الصباح إلى تحرر المرأة، كانت دعوة مسؤولة، أساسها تحرير الفكر، إذ تحمل في طياتها الوعي والالتزام بالمعايير المجتمعية والأخلاقية. وقد واكبت الصباح، الشاعرة التي توصف بالجرأة، أقسى اللحظات والمنعطفات الخطيرة التي مرت بها بلادها. في المقابل كانت أشعارها بمثابة صلة الوصل بين أجزاء وطن كبير تَحلم أن تعيش في كنفه، لولا الحروب التي شرذمته والسياسات الخاطئة التي كرست التقسيم بين جنباته.
عن المحطات الحزينة التي مرت بها الشاعرة الكويتية سعاد الصباح، وانعكاسها على أشعارها، وعن مكانة العراق لديها، وعن زوجها الشيخ عبدالله المبارك الصباح وتأثيره في شخصيتها.. جاء هذا الحوار معها.
□ ما الذي دفع سعاد الصباح لمناصرة قضايا المرأة بكل هذه القوة وهذا الإصرار؟
■ وما الذي لا يدفعني لمناصرة قضية المرأة وأنا أرى «أبا جهل» يتجول بين الأحياء، يخطف من يشاء من النساء؛ ويضع من يشاء على مشنقة إعلان، أو فاترينة انفراديّة وسط تصفيق الجمهور! وما الذي يمنعني وأنا أرى فتيات بعمر الزهور يُعلقن على مقاصل السوشيال ميديا، ويؤدن في غرف عمليات التجميل، ويُعرضن مثل أي بضاعة، في أسواق الترويج المجاني؟ وما الذي يمنعني وأنا أسمع صراخ نساء القبيلة و»المعتصم» لا يُجيب، والشاعر لا يسمع سوى صوت ملهمته؟ وما الذي يمنعني من الانتصار للمرأة والأم الفلسطينية تموت كل يوم، وهي تتشبث بشجرة زيتون سقتها بدموعها وأطعمتها من أوردتها؟ فالمرأة قضية وجود، ما الشعر لولا المرأة؟ ما الفن لولا المرأة؟ ما الرجل لولا المرأة؟ سأظل أقاتل بشِعري ونثري وكل أسلحتي البيضاء دفاعاً عن المرأة، ضد الرجل الذي يظلم المرأة، وضد المرأة التي تظلم نفسها، وضد المجتمع الذي يعتبر صوت النساء رذيلة.
□ ماذا يعني أن تكون المرأة شاعرة تكتب عن الغزل والحب، وتفصح عن مشاعرها بكل جرأة في وسط قبلي تقليدي؟
ـ هذا يعني أنها تُقدم نفسها قرباناً للتقاليد، وأن تتقدم إلى ساحة الذبح؛ فهناك من لا يرى في المرأة (سوى قطعة حلوى وزغاليل حمام) ليس من حقها أن تحب، وليس من حقها أن تصرخ، أو تغضب أو تنفجر، وطوال الطريق الذي مشيته نالني الكثير من الحجارة والشتائم. ولولا أبٌ كان السند، وزوجٌ كان المنارة، وبيئة صحية عشت فيها، تؤمن بالمرأة وتساند عقلها وتدعم حريتها لكنت من ضمن آلاف الموؤدات.
لذلك كان الدمع الذي يهطل من عيون قصيدتي أذرفه بالنيابة عن عيون النساء العربيات. والحب الذي كتبته، أهديته لرجل أعطاني من الحب، وعلمني أبجديات الغيم؛ عبدالله المبارك المنارة البحرية التي بها اهتديت.
□ وهل ما زالت القبيلة تخشى من القصيدة، وتضع «فيتو» عليها حتى يومنا هذا؟
■ دائماً هناك من يخاف من القصيدة إذا كانت حرة «تلك الحرية المسؤولة التي لا تكسر النواميس ولاتستهزئ بالأعراف» أما القصيدة المنقادة التقليدية، المسالمة، المُسَلَّمَة فتباركها القبيلة.
□ ما هي وجهة نظرك عن المشهد الأدبي النسوي في الخليج العربي عامة، والكويتي خاصة، في الوقت الحالي؟
■ رغم الواقع المر، ما زلتُ مؤمنة بأن للكلمة دورها الذي يجب ألَّا نتخلى عنه ونقاتل من أجله. الكويتية استطاعت منذ زمن أن تكسر الأغلال، وتقفز الحواجز، وتعلن صوتها بكل شجاعة، وقد فازت في السباق رغم عشرات الجروح التي ملأت جسدها وروحها، والمشهد الأدبي عموماً ما زال يميل للاحتكار.
□ قضيتِ شطراً من طفولتك في مدينتي الزبير والبصرة العراقيتين، ودوماً تتحدثين عن ذكرياتك فيهما.. يا ترى ماذا تعني لك تلك الأماكن؟
■ هي مدن الطفولة التي تنام على أهدابنا، ومشرقة في أعماق الذاكرة، طفولةٌ أشبه بلوحة لا يمكن للزمن أن يحذف خطاً من خطوطها؛ فمن بساتين «الزين» أخذت ألوان قصائدي، وفي أمواج شط العرب رحلت مع السندباد حتى وصلت شواطئ المستحيل. الزبير صوت الذاكرة الأولى، والبصرة الكتاب الذي تعلمت النوايا الصادقة فيه. وهما يبقيان مزروعين كالوردة في القلب، كالينبوع الأول الذي شربت منه، ووطن الطفولة الذي أتلفّت إليه دائماً، هما ليسا بلاد النخل والماء فقط، لكنها البلاد التي احتضنت طفولتي، وعلقت على أشجارها ضفائري.
□ مرت الشاعرة سعاد الصباح بالكثير من المحطات الحزينة والمؤلمة في حياتها، ما تأثير ذلك في شخصيتك؟ وما مدى انعكاسه على أشعارك؟
■ سعاد الصباح هي الشجرة التي امتدت جذورها في ذاكرة الحزن العربي، فكان غذاؤها أوجاع الإنسان العربي، وصوتها نكهة الدمع العربي، وظلها يأخذ شكل الألم العربي. لكنني رغم كل الحزن والخيبات، سأبقى متفائلة، وسأظل أنتظر شروق الشمس من وراء البحر. أما على المستوى الشخصي، فالحزن قرر أن يكون رفيقي الدائم منذ طرق باب بيتنا وأنا في عمر الزهور، وأخذ الوالدة والوالد ولم يرجعهما أبداً، ثم سرق مني الابن البكر مبارك. وإذا كان الزلزال يهز الأرض ويكسر قشرتها وينشر الرعب في إنسانها، فإن رحيل عبدالله المبارك كان الزلزال الذي غيّر ملامح وجه الزمن، وعندما عرفت أن قدري هو مواجهة الأعاصير، قررت أن أصنع من العواصف قصائد، وأتركها قلائد في ذاكرة الدنيا.
□ كتبتِ أجملَ قصائدك في زوجك الشيخ عبدالله المبارك الصباح.. ما الذي استلهمتِه من هذه الشخصية؟ وما وجهة نظرِه في شِعرك؟
■ لم يكن زوجاً وشريكَ عُمرٍ فقط، بل كان المدرسة التي علمتني حروف الحياة الأولى، والجامعة التي أطلقتني في فضاء العلم، والأجنحة التي طرت بها في سماء المعرفة. ها قد مرّ أكثر من واحد وثلاثين عاماً على رحيله ما زلت ممتلئة به، ولا أستطيع أن أصف كيف امتلأت به حتى الآن. هو رجل يتقمصني ويلبسني ليلاً ونهاراً، شتاءً وصيفاً، صاغني، ولملمني، ومنذ الخطوات البكر سمح لي بأن أكون شريكته في ديوانيته مع أهم الأسماء من سياسيين وكتّاب وشعراء ومثقفين على امتداد الخريطة. كان شخصية تمتلك الثراء المعرفي والعطاء الإنساني والسخاء العاطفي، وخلال أكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً لم يمشِ أمامي أبداً، بل كان يمشي إلى جانبي أو يقدمني. لم يترأس المائدة أبداً، ترك لي أن أترأسها، سواء كان ضيفنا صديقاً أو رئيس جمهورية أو أديباً. فمن تراها كانت سعاد الصباح لولا الرعاية والاهتمام والمحبة التي وزعها عبدالله المبارك على حياتها؟ من هذا الغنى المعرفي غرفت أحاسيسي وأهديتها له شعراً، ولم يحدث أن أعلنتُ عن قصيدة، إلا بعد إجازته لها.
□ تعدُ قصيدة «كن صديقي» من أشهر قصائدك، ولقد حظيت بدراسات نقدية عديدة، ومفصلة، لكن البعض يرى أن الإفراط في النقد بغية التحليل والتفكيك يُذهب رونق القصيدة ويبعدها عن فحواها الحقيقي الذي يريده الشاعر، ما رأيك في ذلك؟
■ لا يزعجني أن تبتعد القصيدة عن عشها، فالعصفور الذي أطُلقه لا أوقّعُ معه معاهدة أشترط فيها الجهة التي يطير إليها.
□ هل يمكن أن يلعب الشعر والأدب دوراً إيجابياً في تأسيس خطاب يوطد لعلاقات إيجابية بين دول المنطقة عامة؟
■ بالتأكيد؛ الشعر حمامة سلام، أينما حطت كان الأمان.
□ من وجهة نظرك.. أيهما أبلغ تأثيراً في الآخر.. الأدب أم السياسة؟ وما الرابط بينهما؟
■ السياسة تحتاج إلى الأدب، أما الأدب فيهرب من السياسة كي يحافظ على براءته.
□ كثيراً ما يتردد أن سعاد الصباح قد ندمتْ على قصيدتها «أنا امرأة قررت أن تتزوج العراق»؟ فهل يمكن أن يندم الشاعر على قصيدة قالها في يوم ما لأسباب معينة؟ وكيف عبّرتِ عن هذا الندم في ما بعد، إن كان ذلك صحيحاً؟
■ ومن الذي امتلك حق الحديث بالنيابة عني وأطلق هذا التصريح غير المسؤول؟ أنا شاعرة لا تتبرأ من أولادها، والذين خانوا مبادئهم ذهبوا مع الريح. أما العراق فيبقى هو العراق، وتبقى مشاعري مشتعلة بصدقي وبراءتي، ضد التأويلات.
□ في القصيدة ذاتها مجّدتِ العراق كثيراً، وكان إعجابك به منقطع النظير.. في المقابل انتقدتِ بشكل لاذع الأنظمة العربية، خاصة الخليجية.. ما سرّ شغفك بالعراق في تلك الفترة؟
■ من عادتي في الحب أن أذهب إلى آخر حدود الجنون، لكن في هذه القصيدة تحديداً مارست المحبة العاقلة والود الصريح. المشكلة ليست في القصيدة ومعانيها، بل في الذين يريدون ليَّ عنقها ليضعوا سعاد الصباح في قفص الاتهام، وسعاد الصباح لا تليق بها الأقفاص لأنها احترفت تكسير الأغلال.
□ هل يمكن أن يمارس الشاعر نقداً ذاتياً على ما يكتب؟ وما تأثير ذلك في ضبط انفعالاته بصفته شخصية مرهفة الإحساس سريعة التأثر؟
ـ بالتأكيد، العقل اختيار، مثلما أن الجنون اختيار، لكن عندما تُكتب القصيدة يجب ألَّا يتخلى الشاعر عن جنونه، لكنه جنون الوعي.. الجنون الذي يسمح لك بخلخلة السائد والتمرد على الموروث الواثق بعقلانيته، وهكذا كانت قصيدة «المجنونة» في ديوان «فتافيت امرأة» إنّني مَجْنونةٌ جداً.. عن صديقتي التي دائماً تذكرني بها.
وأنتمْ عُقلاءْ
وأنا هارِبةٌ من جَنَّةِ العَقْلِ،
وأنتُمْ حُكَماءْ
أَشهُرُ الصَّيْفِ لكُمْ
فاتركُوا لي انقِلاباتِ الشِّتاءْ..
□ كتبتِ ديواناً حمل عنوان «برقيات عاجلة إلى وطني» وهو ديوان يحمل في ثناياه النزق والغضب، وجاء الشعور العام فيه صادقاً، وكذلك لا يخلو من المباشرة في الطرح، وهو شيء متوقع من شاعرة متمسكة بهويتها ووطنها، وتدافع عنه بكل ما أوتيت من قوة، بالمقابل تطرقت إلى السلام والعفو والسماحة، ماذا تحدثينا عن هذا الديوان؟ وعن الظروف النفسية التي مررت بها أثناء كتابتك له؟
■ هذا الديوان أشبه بصرخة عميقة من جذور القلب، لوطن كان أكبر بكثير من حجمه في الخريطة. صرخةٌ ضد طغيان لا تقبله النفوس الحرة التي تأبى الاستسلام، وقد انتصرت القصيدة على جلادها، وانتصر الشِعر على سجَّانه.
□ جاءت في الديوان ذاته تراكيب تُعبر عن الحسرة ونبذ الجحود والنكران، لكن ماذا تقصدين بعبارات مثل «التلوث القومي» و»التذبذب الثوري»؟
■ أقصد تلك القناعات الهشة والشعارات التي تستعمل مثل أعواد الثقاب، تشتعل لمرة واحدة، ولغاية معينة، ثم تنطفئ إلى الأبد، لنكتشف في ما بعد أنها كانت مجرد إنارة كاذبة، إن الذين يَركبون المبادئ السامية للوصول إلى غايات وضيعة سينقلب بهم المركب، وسيغرقهم في منتصف البحر.
أجرى الحوار: مصطفى الخليل – القدس العربي
Follow Us: