نبيل هيثم – الجمهورية
كأنّنا أمام مشهد سوريالي أسود لم يكن لأحد أن يتوقعه حتّى في أسوأ كوابيسه؛ بلد بائس يائس مُصدّع بنيوياً، ومُفكك سياسياً، وممزق طائفياً ومذهبياً، ومنهار اقتصادياً، ومالياً، ونقدياً، ومصرفياً، واجتماعياً ومعيشياً، وصحياً، وتربوياً، وكهربائياً، وقضائياً… حتى الزلزال الذي ضرب لبنان قبل يومين، لم يجد شيئاً ليهدمه. وفوق كلّ هذا الركام، يتربّع سؤال يبحث عبثاً عمّا يمدّ هذا البلد بهذه القدرة العجيبة على الصمود والبقاء على قيد الحياة حتى الآن؟
كل التوصيفات تنطبق على المشهد اللبناني؛ عصفورية، ملهاة، دوامة، متاهة، دوّيخة، مغارة، دهاليز، تكاذب، تشاطر، تناحر، ولدنات، صبيانيات، انتفاخات، ادعاءات، هلوسات، مراهقات، شائعات، مزايدات، شعبويات، حرتقات، منافقات، عصابات، زعرنات، أجندات، عداوات، رهانات، طموحات، مغامرات، مقامرات… والحبل طويل على توصيفات مقيتة لا تنتهي.
لم يعد ثمة مطرح للسياسة العاقلة، ولا لحياة سياسيّة برجالات كبار في السياسة والقانون والدستور، كانت لخصوماتهم نكهة وطعم ولذة، وحنكة وأستذة في فن المرافعات والمُحاججات، إنه الافلاس السياسي في زمن الصغار والمراهقين الاميين في السياسة، الذين حملتهم الصدفة الى مواقع حزبية، او نيابية، ونفختهم مواقع التواصل الاجتماعي وسَخّرتهم بعض القنوات التلفزيونية مادة لملء الهواء.
في هذا الجو المفلس والمنهار، هل من عاقل يعتقد أنّ في الإمكان ابتداع حلّ سياسي او بلوغ توافق رئاسي، أو بناء مخرج طوارىء من نفق الازمة الى واحة الانفراج؟
بالتأكيد لا، فمع خريطة التناقضات الداخلية، والمكونات المتصادمة في الرؤى والتوجهات والأجندات، يتأكّد بما لا يرقى إليه أدنى شك، انّ الواقع اللبناني عالق في حبس مُطبق عليه، بين خطوط سياسية متوازية خطّتها مكونات واحزاب وتيارات معادية لبعضها البعض، لا يمكن لها أن تلتقي، ولا تريد أصلاً أن تلتقي. وترجمة ذلك مشهودة في سلسلة المحطات التي توالت منذ صدور نتائج الانتخابات النيابية، وصولاً الى الملف الرئاسي المُسجّى على مذبح النزوات.
في بدايات الأزمة الرئاسية، أطلق الرئيس نبيه بري في هذه الصحراء صرخة لتجنّب ترسيخ الفراغ في سدة الرئاسة الاولى، قال للنواب، ومن خلالهم لكل المكونات السياسية: «على المجلس النيابي الحالي تقع مسؤولية إنقاذ لبنان، لم نفقد القدرة على أن نعمل شيئاً للبلد، فتعالوا نجلس ونتحاور ونتفاهم على رئيس من صنع أيدينا، فنوفّر على لبنان واللبنانيين المآسي والمصائب». فرفضوا، وتغَنّجوا، واشترطوا… والنتيجة كانت مسرحيات فشل متتالية في المجلس. وبالتالي لا دعوات لمجلس النواب الى جلسات انتخابية جديدة الا اذا وجد الرئيس بري امكانية لانتخاب رئيس، او اذا لمس وجود تنافس حقيقي في المجلس بين مرشحين او ثلاثة او اكثر.
مارسَ وليد جنبلاط انعطافة في الملف الرئاسي، مُنهياً من خلالها مرحلة الترشيح الاستعراضي او الصّوري للنائب ميشال معوّض، وحاول ان يلاقي بري في مكان ما، على قاعدة انّ الحوار والتوافق هما المعبر الالزامي لانتخاب الرئيس ضمن سلة خيارات غير محصورة بمرشح وحيد، والنتيجة انه قوبِل بـ»فيتوات» بَنت امام مسعاه حائط صَد سميك.
المسلّم به في الداخل، انّ تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية في جانبه الاساس، هو مسؤولية الحزبين المسيحيين الاكبر اي «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» اللذين يقفان على طرفي نقيض من الملف الرئاسي. البطريرك بشارة الراعي انتقل من عظاته الهجومية الاسبوعية على التعطيل والمعطلين جميعهم، الى محاولة عقد اجتماع مسيحي لعله يفتح ثغرة في الحائط المسدود، ولكن قد لا يُكتب لهذه المحاولة النجاح، تبعاً للمواقف والاشتراطات التي بدأت تتعالى، وآخرها رفض رئيس حزب القوات سمير جعجع ما سمّاه اجتماعات فولكلورية لا جدوى منها، معلناً انه مع اجتماعات تأتي بنتيجة، وتتمتع بمقومات النجاح، ودون ذلك الافضل الا تنعقد.
البطريرك، من الاساس يستشعر الخطر المحدق بالموقع الماروني الأول في الدولة، ومن هنا تأكيده الدائم على إنهاء الشغور في رئاسة الجمهورية وانتخاب رئيس، ولكنه لا يتلقى تجاوباً من داخل البيت، بل احتمالات خطر متزايدة، جراء الانشطار الحاد في الجسم الماروني على وجه الخصوص، وانكار الواقع المتخبّط والمربك والمأزوم الذي تعانيه مكوناته السياسية والحزبية.
فالتيار، وبشهادة القريبين والابعدين، يمر في وضع هو الأسوأ في تاريخه، خرجت رئاسة الجمهورية من يده، وفقد بذلك أعزّ ما يملك. كل هدفه ان يبقى مُمسكاً بعناصر قوة واستمرار في الزمن السياسي الجديد، هو يعتبر ان خصومه يكمنون له، ويعتبرون ان لحظة انتخاب رئيس الجمهورية، أيّاً كان هذا الرئيس، هو بمثابة كتابة ورقة النعوة للتيار. هذا الأمر يستفزّه، فافترضَ انّ الطريق الاسلم لبلوغه هذا الهدف هو التموضع في مربّع المواجهة مع الجميع. ومحاولة كسر اي جهد يؤدي الى انتخاب الوزير سليمان فرنجية او العماد جوزف عون، وبالتالي لا خيار ثالثا لدى التيار سوى جبران باسيل، والرئيس ميشال عون كما يجزم العارفون مقتنع بحتمية ترشّح جبران حتى ولو كانت حظوظه منعدمة.
وكما ان التيار الوطني الحر عاجز عن إمالة الدفة الرئاسية لمصلحته، كذلك هو حال «القوات اللبنانية» التي تحرص على ان تقدّم نفسها في موقع المطمئن والمسترخي، خلافاً لحال التخبّط الذي يعانيه التيار. فسمير جعجع يطمح لأن يكون هو الرئيس، لكنه يدرك ان فرَصه مساوية لفرص جبران. من الأساس لم ترس القوات على مرشح بعينه، روّجت بداية لقائد الجيش، ثم استدركت لـ»سبب ما»، وتراجعت، ودخلت في ما بَدت انها لعبة تقطيع وقت بتبنّي ترشيح ميشال معوض، برغم يقينها ان طريقه مسدود، وحققت بذلك احد عشر فشلاً، وثمة من يعتبر ان حديث «القوات» عن بدائل جديدة يؤشّر الى انها أدّت قسطها مع معوض، وباتت شبه خارجة منه. وبالتالي، فإن «القوات» في جَو الانسداد الداخلي القائم، متموضعة في موقع رصد اتجاهات الرياح الرئاسية، كيف ستهبّ؟ ومن أين؟ وفي أي اتجاه؟
المُسلّم به أن جعجع وباسيل متفقان على رفض فرنجية، كل منهما من موقعه ولأسبابه الشخصية أو السياسية، ويبدو ان باسيل كان الاوضح في تحديد موقفه برفض قائد الجيش، وهو الامر الذي لا يشاركه فيه جعجع بأي موقف علني. الا ان ثمة من يلاحظ التدرّج في الموقف من التبنّي اولاً لترشيح قائد الجيش، الى القول بعدم ممانعة وصوله، وصولاً الى القول انه اذا كانت ثمة امكانية لتعديل الدستور لوصول قائد الجيش الى رئاسة الجمهورية فلا مانع من ذلك، علماً ان امكانية تعديل الدستور في هذه الفترة تبدو مستحيلة لاسباب كثيرة، منها ما هو سياسي مرتبط بعدم توفّر اكثرية الثلثين للتعديل، ومنها ما هو دستوري يمنع تعديل الدستور في غياب حكومة كاملة الصلاحيات والمواصفات للقيام بالدور الاساس في هذا المجال. وثمة من يذهب الى أبعد من ذلك، بقوله انّ الرفض العلني او الضمني لوصول قائد الجيش الى رئاسة الجمهورية سببه الاساس انّ دور وحضور «التيار» أو «القوات» في زمن رئاسة جوزف عون، سيكون ضعيفاً ومحدوداً وبلا اي فعالية او ثأثير.
اما حزب الكتائب، فيسعى بكل جوارحه السياسية لأن يسجّل حضورا فاعلا في الملف الرئاسي، ويسجّل له انه استفاد من هشاشة وضع النواب التغييريين الذين اثبتوا قدرة هائلة على الاستعراض والتخبط وعدم التوحد، وتمكن من تحقيق اختراقات انفتاحية على بعضهم، ونجح في تأسيس حالة صوتية على الحلبة السياسية والرئاسية، الّا انه بنوابه الاربعة لا يستطيع ان يجعل من نفسه حالة مؤثرة الّا في معركة نصاب انعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، او في معركة رئيس جمهورية على المنخار، حيث ان الاصوات القليلة في هذه الحالة تصبح لها قيمة كبرى.
اما في المقلب الآخر، فيبدو انّ حركة «أمل» و»حزب الله» هما الثابتان الوحيدان على موقف حاسم وواضح لناحية تبنّي ترشيح الوزير فرنجية، ولا خيار ثانيا او ثالثا لهما سواه، مَقرون ذلك بـ»لا» كبيرة لتعديل الدستور. وليس خافياً التوجه في هذا الجانب للعمل الحثيث على بناء قاطرة الـ65 صوتاً. وليس خافيا ايضا ان إتمام هذا البناء في حاجة الى مزيد من الانضاج، ليس فقط لناحية تأمين اكثرية الانتخاب (65 صوتا)، بل لتأمين نصاب انعقاد جلسة الانتخاب بالثلثين (86 صوتا)، ودون ذلك صعوبات ومستحيلات.
وعلى الضفة السنية، تَتمظهَر ثلاثة تموضعات للنواب السنة، قسم منهم مع 8 آذار، وهؤلاء حاسمون في تأييد فرنجية، وقسم ثان يمتّ بالقربى السياسية الى تيار المستقبل والرئيس سعد الحريري، وهؤلاء عاطفتهم أقرب الى خيار فرنجية، واما القسم الثالث فهو مُشتّت جماعات وفرادى ضمن المناخ السيادي والتغييري، يتأرجحون بين قائد الجيش ومرشحين وآخرين.
كل ما تقدم، يؤكد انّ الملف الرئاسي في قعر المأزق وخلف متاريس الانقسام والصدام وعدم القدرة على الحسم في أي اتجاه… وخلاصة الكلام لا رئيس ولا من يحزنون.