خضر حسان – المدن
قليلة هي المستشفيات الحكومية التي كانت قادرة، قبل انهيار الليرة، على تأمين الخدمات الصحية بصورة كاملة. وتميَّز مستشفى رفيق الحريري الجامعي في بيروت، بارتفاع مستوى التغطية إلى حدٍّ يضاهي المستشفيات الخاصة. لكن غياب الدعم الكافي، أسقَطَ مجالَ المقارنة، لأن القطاع الصحي الرسمي أصبح يعيش بشكل شبه كلّي على المساعدات، التي بدورها تعايشت مع أزمة انهيار الليرة وأوجدت لنفسها وجهة للاستفادة.
لا بديل عن المساعدات
يعتمد النظام الصحي الرسمي على الهبات والمساعدات “بنسبة 90 بالمئة”، وفق ما تقوله مصادر في هذ القطاع لـ”المدن”. وفي المقابل، تؤمِّن إيرادات المستشفيات الحكومية “ما لا يزيد عن 25 بالمئة من حجم الأكلاف المطلوبة لاستمرار عملها”. وهذه الإيرادات “لا تكفي لتشغيل أي مستشفى لأكثر من شهر، من دون دعم”. وجزء أساسي من الأكلاف المستحقة على المستشفى الحكومي بشكل دائم، “هو كلفة المازوت لتوليد الكهرباء. وهذه الكلفة لا تقلّ عن 30 بالمئة من مجمل إنتاج المستشفى”.
عدم تناسب الإيرادات مع النفقات، يترك المبادرة الوحيدة لمحاولة “ترقيع” الأزمة، للهبات التي تقدّمها الجمعيات والمؤسسات الدولية. وبذلك، يصبح مفهوماً كلام وزير الصحة فراس الأبيض عن أنَّ “المِنَح والهبات والقروض الخارجية باتت ركناً أساسياً من أركان تمويل النظام الصحي في لبنان”.
وبما أنَّ فرصة الاعتماد على الذات معدومة، يؤكّد الأبيض أن وزارة الصحة “تهدف إلى تحصيل المزيد من الدعم، بعد توضيح ما لديها من رؤية واستراتيجية، حيث بات المجال مفتوحاً لتطوير هيكلية تعاون واضحة ومتطورة تضمن فعالية المساعدات الإنسانية التي تقدم للبنان، من خلال نظام ممكنن ومنصّة موحدة”.
استغلال الأزمة
رؤية واستراتيجية الوزارة تذهب بعيداً من تأمين المال للعمليات الاستشفائية في الظروف العادية، بل لتأمين ما يغطّي الخدمات الصحية الطارئة في ظل الأزمات والكوارث. فوفق ما قاله الأبيض، يوم الاثنين 13 شباط، خلال ترأسه اجتماعاً لممثلي الدول والجهات المانحة ومنظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي والجمعيات الدولية الشريكة، في السراي الحكومي، إن “كارثة الزلزال في تركيا وسوريا تثبت أكثر من أي وقت مضى ضرورة إعداد الأرضية الصالحة لاستباق الكوارث والأزمات من أي نوع كانت”.
وجهة الأبيض صحيحة، لكنها لا تتحقَّق بلا “تأمين استمرارية عمل المستشفيات الحكومية”، تضيف المصادر. والجهات الدولية “لا تضع الاستمرارية كهدف أساسي لها عند تقديم المساعدات، وهذا ما يعيق تحسين أوضاع المستشفيات”.
وتشرح المصادر أن الجهات الدولية “تستغل أزمة الليرة لتقدّم مساعدات تُحتَسَب قيمتها بأقل من الكلفة الفعلية للتغطية الصحية المنشودة. فعلى سبيل المثال، يتم احتساب كلفة صورة الرنين المغنطيسي، في فواتير الهبات، بنحو 27 دولاراً، فيما كان سعرها قبل أزمة الليرة نحو 170 دولاراً، وتُسَعَّر في المستشفيات الخاصة بنحو 500 دولار”.
والجهات المانحة -حسب المصادر- “تنظر إلى تدنّي الخدمة الصحية راهناً، وتعمل على أساسها. حيث أنها تحتسب ما يمكن أن يغطّي الحاجات الاستشفائية الأساسية”. والمطلوب من تلك الجهات “إما رفع قيمة التغطية التي تقدّمها بنحو 40 بالمئة ممّا هي عليه اليوم، أو مقارنة كلفة الاستشفاء مع أكلاف المستشفيات الخاصة. فهكذا تتناسب قيمة الهبات مع الكلفة الحقيقية للاستشفاء”.
تسجيل الإنجازات
تحتسب المستشفيات الحكومية أكلافها بالليرة، فتتجاوب الجهات الدولية مع هذا الاحتساب “فتقدّم مساعداتها بكلفة قليلة تفيدها في تسجيل الإنجازات فقط، وليس رفع معدّل قدرة المستشفيات على الاستجابة للحاجات الاستشفائية”. وإن كان مستشفى الحريري يسرق الأضواء فيحظى بأموال أعلى، إلاّ أن الكثير من المستشفيات الحكومية في المناطق تتحوَّل إلى ما يشبه المستوصفات. وفي الجهة المقابلة، تفتح مراكز الرعاية الأولية التابعة للوزارة أبوابها، بلا أي وظيفة فعلية “فلا أطقم طبية مؤهَّلة ولا معدّات ومستلزمات كافية، ولا قدرة لديها على العمل لأكثر من يومين في الأسبوع لتستقبل حالات صحية عَرَضية لا تستدعي نقلها إلى المستشفيات. أي أنها مراكز إسعافات أولية”.
وفي هذا الإطار، شدّد الأبيض على “ضرورة العمل على تنظيم المساعدات والقروض على أساس برامج صحية مدروسة حسب حاجة المجتمع، كي تشكل أساساً واقعياً لتحديد الممولين وحجم التمويل والآليات التي تضمن تحقيق المطلوب من هذه البرامج، بما في ذلك على سبيل المثال تحديد سلة الخدمات الطبية الأساسية الممكن تقديمها في مراكز الرعاية الصحية الأولية”.
وأسهم ترجيح هدف تسجيل الإنجازات، لديه ما يدعمه بالنسبة للمصادر. فلو كان الدعم الفعلي مقصوداً “فكان يمكن للجهات الدولية إجراء مقارنة بين كلفة الاستشفاء في لبنان وكلفتها في أي بلد بحجم لبنان، وتُستَنتَج الكلفة المطلوبة، وهذا لم يحصل”.
انزلق لبنان إلى مستوى لم يعد قادراً فيه على الجدال مع الجهات الدولية المانحة. وعليه القبول بما يُقَدَّم وإن كان أقلَّ من المطلوب. وهذا ينعكس على بقاء الخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية متدنّياً. الأمر الذي يُجبِر المرضى على اختيار المستشفيات الخاصة، أو العّض على الجرح في مستشفيات الدولة.