الجمعة, نوفمبر 22
Banner

فالنتاين نزار قباني

كما هو معروف، يوم 14 شباط (فبراير) من كلّ عام تجاوز الصيغة الشعبية الأبكر التي احتفت بالقديس فالنتاين، المبشّر المسيحي الشهيد، وسواه ممّن حملوا الاسم ذاته، في روما القيصرية خلال القرن الثالث للميلاد؛ وبات الموعد عيداً دينياً وثقافياً وتجارياً يُكرّس للحبّ والعشق والرومانس إجمالاً، ليس من دون تصاعد تدريجي طاغٍ لأنساق الاستغلال الاستهلاكية، في غمرة هيمنة للتقاليد الغربية على وجه الخصوص. كذلك فإنّ هذه الصيغة الراهنة لعيد الحبّ مسحت، تماماً ربما، الأصل الأوّل لاحتفالات هذا اليوم تحديداً؛ والتي كانت وثنية رومانية تعود إلى نحو ثلاثة عقود قبل الميلاد؛ وكانت تخصّ عيد الخصب والتخصيب، حين كانت الطقوس غير بعيدة عموماً عن مناخات الغرام، وهذا نقاش آخر ليس هنا مقامه.

في المقابل، يحلو لهذه السطور أن تستعيد هدية ذات طابع خاصّ بدا غير مألوف، أو طارئاً تماماً في الواقع، يصلح تقدمة فالنتانية بامتياز إذا صحّ القول هكذا، أو كانت أزمانه أكثر تكريماً لعيد الحبّ طبقاً لما نعرفه اليوم. ففي سنة 1944 شهدت العاصمة السورية صدور مجموعة شعرية أولى بعنوان «قالت لي السمراء»، للشاعر السوري الدمشقي الشاب نزار قباني (1923 ـ 1998)؛ ولم يكن للحدث أن يمرّ طبيعياً أو عارضاً لاعتبارَين اثنين على الأقلّ: 1) أنّ القصائد الـ28 في المجموعة لا تدور حول العشق والهوى والصبابة فحسب، بل تغرق على نحو لم يكن البتة مألوفاً آنذاك، في الجوانب الأكثر شهوانية من تجربة الحبّ؛ و2) أنّ الكتاب وُزّع على المكتبات في صيغة لم تكن بدورها معتادة أو منتظَرة، إذْ كان ملفوفاً بورق السيلوفان، تماماً مثل زجاجة عطر، وقد عُقد عليه شريط أحمر جعله أقرب إلى هدية.

تلك مواجهة لم تمنع قباني من التحليق أعلى في أغراضه، وأبرع في أدواته، وأعمق تجذراً في ذائقة شعرية عربية كانت قد هضمت لتوّها تقاليد شعر غزلي عاطفي ورومانسي وعذري وحسّي في آن معاً

المناخات الوطنية كانت حارّة ومتحركة في سوريا مطلع الأربعينيات، وكان الجنرال الفرنسي كاترو قد اضطر لإعلان استقلال سورية في أيلول (سبتمبر) 1941، وجرت انتخابات نيايبة في آذار (مارس) عام 1943 أسفرت عن انتخاب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية. وفي أيار (مايو) من العام 1945 حاصرت القوات الفرنسية مبنى البرلمان السوري، ثم قصفته وقتلت أفراد حاميته؛ الأمر الذي مهّد الطريق أمام جلاء الفرنسيين بعد عام، ونيل البلد استقلاله الوطني. وبالطبع كانت موضوعات الشعر السوري لصيقة بتلك المناخات، وظلّت غالبية القصائد تأخذ شكل النشيد الوطني المقاوم؛ لكن» «قالت لي السمراء» صدرت خالية تماماً من أية قصيدة وطنية، أياً كان المقصود بالمصطلح؛ وحافلة بقصائد حبّ غنائية، وغزليات حسّية وأخرى إيروتيكية؛ فضلاً عن رشاقة مباغتة في تطويع المعجم، وأناقة مفرطة في اختيار المفردات، وشجاعة عالية في المجاورة بين الفصحى والعامية.

مقدمة طبعة 1944 من تلك المجموعة كتبها الدكتور منير العجلاني، خرّيج السوربون في القانون والإعلام واللسانيات وأحد أبرز رجالات السياسة والحقوق والنزعة الليبرالية الجنينية التي لم تسلم، مع ذلك، من رواسب التأثر بروحية «القمصان الحمر»، وحثت على مقاومة الاستعمار الفرنسي واستلهام الانوار الأوروبية؛ وكانت خلاصاته في التقديم تتجاوز الترحيب بالشعر الجديد إلى التبشير بولادة «مخلوق غريب» في عالم سوريا تلك الأيام، ناصحاً القارئ هكذا منذ السطور الأولى: «لا تقرأ هذا الديوان، فما كُتب ليُقرأ، ولكنه كُتب ليُغنّى، ويُشمّ، ويُضمّ، وتجد فيه النفس دنيا ملهمة». وإذ مضى العجلاني بعيداً فأضاف: «كأني أجد في طبيعتك الشاعرة روائح بودلير وفيرلين وألبير سامان»، فإنه فصّل القول في خصائص قباني كشاعر رمزي، وغريزي، وعفوي.

وهيهات أن تكون هذه حال المحافظين المتزمتين، المشايخ والإسلاميين على وجه الخصوص، إذْ لم يتأخر الردّ الكاسح من الشيخ علي الطنطاوي (1909-1999)، السوري الدمشقي بدوره، الأديب والقاضي والإعلامي الإذاعي؛ الذي كتب مقالة في العدد 661، 4 آذار (مارس) 1946 من مجلة «الرسالة» المصرية الشهيرة، كان أقرب إلى هجاء مكشوف ضدّ «أدب الشهوة» كما أسماه، متسائلاً عن العناء في كتابته وطباعته ما دام الأمر لا يحتاج إلا إلى «سهرة في الخمارة، أو ليلة في المرقص». ولم يكتفِ الشيخ بذمّ قصائدٍ صاحبها «ليس بالأديب الواسع الخيال، بل هو مدلل، غنيّ، عزيز على أبويه، وهو طالب في مدرسة… وقد قرأ كتابه الطلاب في مدارسهم، والطالبات»؛ بل توقف خصيصاً عند تفاصيل فنّية تخصّ الشكل، فكتب ساخراً: «في الكتاب مع ذلك تجديد في بحور العروض، يختلط فيه البحر البسيط بالبحر الأبيض المتوسط، وتجديد في قواعد النحو لأنّ الناس قد ملّوا رفع الفاعل، ونصب المفعول، ومضى عليهم ثلاثة آلاف سنة وهم مقيمون عليه، فلم يكن بدّ من هذا التجديد».

وفي القرار الأعمق من موقفَيْ العجلاني والطنطاوي استقرت عوامل صدام، سياسي وفكري وجمالي، بين موقفين من حرّية التعبير، وذائقتين، ومفهومين عن الشعر والأدب عموماً؛ كما تأطرت تباعاً، سنة بعد أخرى، مقاربتان معرفيتان لا تخفى جذورهما الإيديولوجية المتناحرة. وتلك مواجهة لم تمنع قباني من التحليق أعلى في أغراضه، وأبرع في أدواته، وأعمق تجذراً في ذائقة شعرية عربية كانت قد هضمت لتوّها تقاليد شعر غزلي عاطفي ورومانسي وعذري وحسّي في آن معاً؛ ومنحت الوجدان العربي والكوني الكثير من هدايا فالنتاين، قبل «قالت لي السمراء» وبعدها…

صبحي حديدي- القدس العربي

Follow Us: 

Leave A Reply