الجمعة, نوفمبر 22
Banner

للمنفى شجن لا يمكن التغلب عليه

واسيني الأعرج – القدس العربي

العنوان مقولة لإدوارد سعيد، قالها في عز أحاسيسه العميقة بالمنفى الذي يسميه من عاشوه بـ»الموت الصغير». تحفل النصوص الأدبية بهذه الحالات القلقة التي رسمتها النصوص الروائية العالمية التي كلما حاولت إخفاءها نهضت أمامها بقوة مخاتلة كل الرقابة الوهمية على النصوص. نعيش اليوم عالماً تتصارع فيه الهويات بقسوة شديدة، مخلفة وراءها خراباً كبيراً لا يمكن ترميمه بسهولة، ويندرج ذلك في أفق النظام الدولي الجديد الذي فجر الهويات وفتح أمامها التعبيرات التي ظلت زمناً طويلاً مكتومة. لكن مخلفات ذلك كانت مرعبة، فثمة حروب أهلية مستدامة، ونعت الآخر وتحميله كل الهزائم والانكسارات، وانفجار أوطان بكاملها كانت إلى وقت قصير حية وديناميكية على الرغم من الديمقراطيات الغائبة والمغيبة فيها. الاستراتيجيات الدولية الكبيرة فرضت ذلك بالقوة الناعمة من خلال ثورات داخلية لم تكن حرة بالشكل الوهمي الذي نتصوره.

هناك ثورات حقيقية تتأسس على قيادات حقيقية تقودها حتى النهاية للتغير العالمي الإيجابي، وفتح أبواب التطور والانتهاء من هيمنة الديكتاتوريات، المبرر الطبيعي لكل الاستعمارات اللاحقة. لكن هناك أيضاً ثورات تقودها الساتلات من الأعلى وتوجهها مثلما تريد، وفق المصالح الاستراتيجيات المبتغاة. ما يزال جزء كبير من العالم العربي حتى اليوم تحت وطأة هذا الوضع الصعب والمدمر الذي فكك كل بنيات الحكم التقليدية دون أن يوفر بنيات بديلة وحقيقية، فأصبحت الفوضى بأشكال متفاوتة هي النظام المستشري الأوحد (ليبيا، سوريا، العراق، اليمن، الصومال التي كانت مخبر تجربة…).

تفطن المفكر الفلسطيني، في وقت مبكر، إلى ذلك منطلقاً من حالته الخاصة متسائلاً في عمق أتون الهوية عن حالته: وهو العربي المسيحي، الفلسطيني، بحكم أصوله العائلية والتاريخية، والمصري بحكم الثقافة والتعلم والإقامة، والأمريكي بحكم الحياة في نيويورك، والتدريس في واحدة من أهم جامعاتها، «كولومبيا»، وحضّر رسالة دكتوراه حول شخصية إشكالية شبيهة له قليلاً في مواصفاتها الهوياتية المتعددة «جوزيف كونراد»، الذي عاش مثله في عمق هويات متعددة ومتناحرة، فهو بولندي الولادة (1857)، إنكليزي لغة الكتابة بعدما نفي من وطنه الأصلي، عاش جزءاً من حياته متنقلاً بين العواصم الغربية، لندن وباريس وغيرهما.

عمل بحاراً يحاول أن يجد مسلكاً له في عالم متلاطم الموج. توفي بسكتة قلبية مخلفاً وراءه حوالي 13 رواية، منها «قلب الظلام» التي شكلت مرجعاً مهماً في بحث إدوارد سعيد، وغيرها، وكلها من النصوص ذات الصلة الحيوية بالبحر. يتضح الإرباك الهوياتي أكثر في قصة «إيمي فوستر» التي جسد فيها معاناة المنافي التي عاشها، وتركت ملامسها على هوية شديدة التمزق، لكن أيضاً، شديدة الغنى. ازدواجية الذات التي تتحلل حتى تكاد تتبدد، قبل أن تعيد تركيب نفسها باستمرار من خلال استيعاب عناصر هوياتية جديدة تغني الأصل وتقلل من تطرفه. هي نفسها حالة إدوارد سعيد الذي استعاد في إحدى مقالاته «تأملات في المنفى» هذه القصة القصيرة تحديداً «إيمي فوستر» التي قرأها من جديد وخرج بخلاصات تجسد الحالة العميقة التي كان يعيشها هو نفسه. هناك شبه بينه وبين بطل القصة يانكو، الذي رمته أمواج البحر في منفى إنكليزي قاس لم يختره قط، بعد أن غرقت سفينته التي كانت تعني اللاعودة إلى الأرض الأولى (بولندا) بعد أن نجا من رحلة بحرية مميتة أغرقت كل مرافقيه. التشابه يظهر واضحاً بينهما في القلق الكبير وبدء نسيان ما كان يربطه بالأرض الأخرى التي انتهت بغرق السفينة. فقد بدا غريباً على حواف الأرض الجديدة. كل من رآه، بما في ذلك الذين أنقذوه من موت حقيقي، يتعجب منه. لقد بدا لهم «مختلفاً» لا يشبه البقية. وهو ما دفع به نحو العزلة اللغوية والجسدية والنسيان. يذكر ذلك إلى حد بعيد بحي، في رواية «حي بن يقظان» الفلسفية. حي وهو يكتشف الجنس البشري الذي يشبه عالمه ولا يشبهه، ثم وهو يسافر في سفن الوافدين عليه التي رست في جزيرته وأغوته بالسفر معها. لا أحد كان يفهمه ولم يكن قادراً على فهم الآخرين. الغرابة التي قادت امرأة مثل إيمي نحوه، سرعان ما كان الاختلاف فيها، عنصر فرقة. الأحادية المجتمعية سطحت كل شيء. فكل مختلف، هو مرفوض بل ومنبوذ أيضاً. لقد دفعت إيمي الثمن غالياً باقترابها من بانكو.

رفضها المجتمع المستقر في أوهامه وصفائه، وعزلها كما لو كانت وباء معدياً يجب التخلص من حامله، بالخصوص بعد أن عارضت الكل، بما في ذلك النظام المستقر، وتزوجته. كل الناس يشتهون معرفة يانكو الذي «أتى من هناك»، هذا «الهناك» المحدد لقيم التسامح والعنف والحب والكراهية والاختلاف المدمر. لون بشرته، لغته، جسده، مشيته الرقيقة. اللغات الأوروبية المستعملة في محيطه، الإيطالية، الألمانية والإسبانية، لتقريبه من المكان والبشر، يشعر يانكو بها شديدة البعد. لا تمثله مطلقاً.

وينتهي بحالة اختناق تجهز عليه. كيف يجمع شتاته وهو البولندي الذي يكتب بلغة أجنبية، الإنكليزية، التي لا علاقة لها بلغة الأم التي تحدد البنية النفسية، ترتفع بها أو تؤزمها؟ وكم كان إدوارد سعيد في عمق الأزمة نفسها التي جعلت من لغته الإنكليزية، وهو العربي الفلسطيني، أداته التعبيرية ولكن أيضاً منفاه، لأن لغة الأم هناك بعيدة لأنه في النهاية هو أيضاً مثل يانكو، جاء من «هناك» إلى «الهنا» الذي منحه الكثير ولكنه عجز في أن يمنحه ما ضيعه عبر السنوات التي عاشها في أمريكا. أكثر من ذلك كله، كونراد يملك وطناً يعود إليه عندما يصفو الجو، لكن إدوارد سعيد لن يعود إلى فلسطين، لأن فلسطين أصبحت ذاكرة ولغة.

Leave A Reply