باولا عطية – المدن
شهد سوق العقارات في لبنان تقلّبات عديدة في السنوات الأربعة الأخيرة، بعد اندلاع الأزمة الاقتصاديّة عام 2019. بدأت بإقبال كثيف على الشراء بين العامين 2019 و2021، لكونه ملاذاً آمناً لبعض اللبنانيين الذين فضلوا استثمار أموالهم بأبنية أو شقق أو أرض، فيما القسم الآخر وجد بالعقار حجّة لإخراج أمواله من المصارف بعد أن حجزت عليها. إلا أنّ هذا النشاط لم يستمرّ طويلاً، بل تراجع في العام 2022 ، نتيجة انخفاض القدرة الشرائية لدى المواطن اللبناني.
أمّا اليوم، وبعد الزلزال المدوّي الذي شهدته كلّ من تركيا وسوريا وشعرت بارتداداته بعض مناطق الجوار، تصدّر مشهد الأبنية المهترئة الواجهة من جديد، حاملاً مخاوف الأهالي والمعنيين حول مصير هذه الأبنية، والتي بمعظمها ، 85% منها، قد شيّدت ما قبل الثمانينات وتفتقر إلى الحدّ الأدنى من معايير السلامة خصوصا تلك الموجودة في منطقة بيروت.
وأمام هذا الواقع، بدأنا نلمس تبدلاً في المزاج العام تجاه معايير اختيار الفرد للعقار من حيث المكان، والسعر، ومدى مقاومته الزلازل، والتي قد تنعكس على القطاع العقاري بشكل عام. ترجم هذا التبدّل، بظهور نوع من إدراك ووعي لدى المواطنين حول ضرورة مطابقة الأبنية التي يخططون للسكن فيها، لشروط السلامة العامة.
المناطق البعيدة عن العاصمة والشقق العالية
في هذا الإطار يرى الدكتور جورج نور، المتخصّص باقتصاديات العقارات، في حديثه لـ”المدن”، أنه “من المبكر فهم التحوّل الذي بدأ يطرأ على معايير المواطن باختيار العقارات، فما زلنا في عمليّة الرصد، والتي بدورها أظهرت بعض النقاط المهمّة للدراسة. الفرد كان يسكن أوّلاً في المناطق التي تلبّي حاجاته (الطبابة، الاستشفاء، الأسواق التجاريّة، مكان العمل..)، لذلك كان الطلب مرتفعاً على الشقق في العاصمة بيروت. أمّا اليوم فمعظم المناطق اللبنانيّة أصبحت مجهّزة من جميع النواحي. لذا بدأنا نشهد ظاهرة جديدة وهي السكن خارج المدينة. في المقابل، سلّط موضوع الزلزال التركي- السوري، الضوء على أهميّة اقتناء أو استئجار منزل يتناسب وشروط السلامة العامّة، وربما في مناطق بعيدة عن فيلق الزلازل. فيما أصبح بعض المواطنين يفضّلون السكن في مبان حديثة الإنشاء، وإن كان سعر الشقة فيها أو الإيجار مرتفعاً قليلاً، لعلمهم المسبق بأنّها مجهّزة وفق المعايير الدوليّة. فلم تعد الإيجارات القديمة تجذب المستهلك. كما أنّ هذه الأخيرة أصبحت نادرة”.
وعلى الرغم من تأكيد نور بأنّ جميع المناطق في العالم معرّضة للمخاطر وللكوارث الطبيعيّة، إلاّ أنه وبرأيه “تبقى المناطق البعيدة عن العاصمة هي الأكثر أماناً وأقلّ خطراً. فيما أثبتت التجارب في الدول المجاورة أنّ الشقق التي تكون في طوابق عالية هي الأكثر أماناً بما أنّ المباني في زلزال تركيا وسوريا كانت تسقط بطريقة عاموديّة. وبالتالي، فان الشقق على علوّ منخفض كانت الأكثر تضرراً”.
لكلّ مرحلة زمنيّة معايير عقاريّة تحدّد حاجة السوق
في المقابل يشير نور إلى أنّ “هناك اعتبارات عديدة يجب درسها وتحليلها قبل جزم معايير الطلب. ففي فترة الحرب الأهليّة، كان الفرد يفضّل السكن في مبان سميكة، موجّهة نحو مناطق معيّنة وبعيدة عن مناطق أخرى (خطوط التماس). مع أفضليّة للشقق المنخفضة خوفا من الأعمال العسكريّة كالقصف وغيرها. ومع تطوّر الزمن، أصبحت معايير الحداثة والرفاهية هي التي تسيطر على حركة الطلب في السوق. فكان الفرد يبحث عن شقّة كبيرة مطلّة على البحر أو على منظر طبيعي. ولكن بعد انفجار 4 آب، تأثّرت هذه الشقق بشكل كبير، وانخفض الطلب عليها بعد أن تضررت معظم الأبنية السكنيّة التي كانت قريبة من المرفأ. ما يعني أنّ لكلّ مرحلة زمنيّة معايير عقاريّة معيّنة تحدّد حاجة السوق. في حين يبقى سؤال أي منطقة أفضل للسكن؟ من دون جواب”.
المطلوب وضع خطط سكنيّة منظّمة
ويعتبر “أنّنا ما زلنا نعيش في فترة جمود أو ركود في سوق العقارات في لبنان. إلا أنّ ذلك لا يلغي حقيقة أنّ العقار أفضل استثمار، لأنّ كلّ ما هو غير عقاريّ في لبنان من أدوات نقديّة تبخّرت قيمته، إلاّ أنّ العقار بقي موجوداً. ومن حسناته أنّ طلبه يبقى سار بفضل التكاثر السكاني”، شارحاً أنه “يجب التمييز بين نقطتين. الأولى: هي المباني القديمة، التي لم تخضع للصيانة، وتشكّل خطراً على قاطنيها. والمفروض أنّ يتمّ الكشف على كلّ مبنى يتخطى عمره الـ15 سنة من قبل الجهات الرسمية، على أن تصاغ فيه تقارير لإعادة الترميم. إلاّ أنّ المشكلة، أنه وفي حال ظهور تشققات في المبنى، ليس هناك جهّة قادرة على إصلاحها. فالدولة عاجزة، والمالك لا يملك المال لأنّه يتقاضى بدل الإيجار بالعملة الوطنية، والمستأجر غير مستعد لترميم المبنى بسبب دخله المحدود وغلاء المعيشة. ما يوجب وضع سياسات عامة تحلّ هذه المشاكل وتضع خطط سكنيّة منظّمة.
والثانية: هي المباني الجديدة المفروض أن يكون قد تمّ بناؤها وفق معايير دوليّة تحميها من الزلزال والمخاطر الطبيعيّة الأخرى. وارتدادات الزلزال التركي-السوري كشفت أنّ المباني القديمة تأثّرت بشكل أكبر بالهزّات، فيما المباني الجديدة كانت مرنة أكثر في طريقة عمرانها، ما جعلها تصمد بوجه الهزات، وخصوصا العالية منها”. إلاّ أنه وللأسف، يقول نور، إنّ “العديد من المشاريع السكنيّة الجديدة أنشأت من دون معايير علميّة، ما يؤكّد الحاجة إلى وجود جهات رسميّة رقابيّة، تعطي رخصة الانشاء وفق معايير دوليّة، أو خبراء يقدّمون إفادة بأن هذا المبنى أنشئ وفق الأصول وذلك عبر مراقبة طريقة العمار، ومتابعتها”.
وعن المباني التراثية يلفت نور إلى “أنها تنقسم إلى فئتين: 1- المباني التراثية الفعليّة: وهي بمعظمها تقع في العاصمة بيروت، وتحوي قرميدا، وقناطر بأحجار ضخمة وسميكة. وهذه لم يرتفع ثمنها لأنّ الطلب عليها خفيف، لوجود إشارة عدم إمكانيّة الهدم والموضوعة من قبل وزارة الثقافة والبلدية والمحافظ. 2- المباني القديمة: والتي تعتبر تراثيّة، والتي طمع المطوّرون بشرائها وهدمها وإعادة بناء أبنية جديدة مكانها، تردّ لهم استثمارات كبرى”.
اللبناني لا يملك ترف الخضوع لمعايير السلامة العامة
في المقابل يرى الباحث في شؤون الاستثمار، جهاد الحكيّم، في حديثه لـ”المدن” أنّ “موضوع الزلزال لم يصبح بعد عاملاً أساسياً يؤثّر على معايير الفرد بانتقاء مكان السكن. وسط تطمينات خبراء الزلازل بأنّ لبنان غير مهدّد بشكل مباشر بها”، رابطاً وضع المواطنين اللبنانيين الاقتصادي بعمليّة الشراء، فبرأيه “لا يملك المواطن اللبناني ترف الخضوع لمعايير أو شروط السلامة في انتقاء مكان سكنه. فهو بالدرجة الأولى يبحث عن بيت يأويه، بسعر يناسب دخله الشهري. فيما من يملك عقاراً أو منزلاً أصبح يبيعه بأقل من سعر كلفة العمار، لتأمين حاجاته الأساسية من طبابة وتعليم وغذاء، أو للهجرة إلى الخارج بحثاً عن حياة أفضل. أمّا من يريد شراء عقار أو شقّة في لبنان، فهو على الأغلب يسكن في الخارج، ويملك الكاش، ويستثمر هذه الأموال في شقق أو أبنية أو أرض”.
معايير جديدة لشراء الشقق في لبنان
وتوقّع رئيس نقابة المقاولين في لبنان مارون الحلو، في حديثه لـ”المدن”، أنّ “أيّ شراء جديد لشقة سكنيّة في لبنان بعد زلزال تركيا وسوريا، سيخضع لشروط دقيقة ومعايير معيّنة للاختيار، تأخذ بالاعتبار إذا ما كان المبنى قد بني بشكل مقاوم للزلازل، ومطابق لقانون السلامة العامة الذي أصدرته نقابة المهندسين منذ أكثر من 14 سنة. وبذلك سيقوم الشاري بالتحقق من ما إذا كانت دراسة الخرسان المسلحة تحترم قانون مقاومة الزلازل أم لا، لأنه سيسمح لهذا المبنى بتحمّل المخاطر الطبيعيّة وبالتالي الصمود بوجه الزلازل”.
أمّا المعيار الثاني الذي يجب أخذه بالاعتبار، حسب الحلو، هو إذا ما كان “البناء منفذاً بشكل صحيح من قبل متعهد أو مهندس أو شركة تحترم شروط السلامة العامة، فبهذه الخطوة يكون الشاري قد اشترى راحته وسلامته أيضاً”. وعلى الرغم من تأكيده من أنّ جميع المناطق في لبنان والعالم معرّضة للزلازل والمخاطر الطبيعية، يحذّر الحلو من أنّ بعض “المباني المرخّصة من قبل البلديات أو من مرجعيات سياسيّة بمناطق بعيدة في لبنان، لا تحترم شروط نقابة المهندسين، وهي تشكّل خطرًا على حياة قاطنيها، خصوصًا الأبنية التي تم انشاؤها منذ أكثر من 20 سنة. بالإضافة إلى الأبنية العشوائيّة غير القانونية التي لا تتبع التنظيم المدني”.
ويطمئن بأنّ “أسعار الشقق التي تلتزم معايير السلامة العامة، ليست بالضرورة أغلى من غيرها، إلا إذا كان الطلب عليها مرتفعاً ما يؤثّر على سعرها طبعاً. ولكن كلفة بنائها ليس أكثر من غيرها، فمعظم العمل يكون في أساسات البنى”.
أي مناطق تحوي على أبنية مطابقة لشروط السلامة العامة؟
وعن أماكن وجود الأبنية المطابقة لشروط السلامة العامة يقول الحلو إنّ “معظم هذه الأبنية منتشر بالعاصمة بيروت، ولكن يمكن أن نجد منها في مناطق أخرى، خصوصاً تلك التي تعتمد متعهدين مصنّفين ومهندسين أصحاب خبرة وسمعة. وهنا على الشاري أن يسأل عن هويّة المهندس الذي أشرف على العمار. ومن هذه المناطق نذكر: المتن، كسروان، جبيل، وعاليه”.
عن الأبنية الأثرية لمّح الحلو إلى “إمكانيّة تدعيمها، ولكن التدعيم لن يعطي النتيجة نفسها كشراء شقّة في مبنى حديث الإنشاء، ملتزم بالمعايير المطلوبة من الأساس”، محذرًا من أنّ “الأبنية الأثرية قد تكون متشقّقة ولكنها طبعاً قابلة للمعالجة، ولها سوقها الخاص. إلا أنّ السكن فيها ممكن أن لا يكون آمناً اذا لم تدعّم بشكل صحيح، وقد تشكّل خطراً على أهلها”.
الشراء معلّق حاليّا
وأكّد أنّه “لا يمكن أن نستنتج بهذه السرعة توجّهات السوق، الذي بدوره لا يزال تحت صدمة الزلزال. إلا أنه ومع الوقت ممكن أن تعود خيارات الناس لما كانت عليه سابقاً”، مشدداً على أنّ “القطاع بحالة ركود نظرًا للوضع الاقتصادي. فحالة الشراء والطلب معلّقة حالياً، لأن الناس فقدت إمكانية شراء شقق كبيرة ووضع البلد غير مستقر. لذلك معظمهم يتوجه نحو الإيجار، لأن كلفة البناء ترتفع بشكل تدريجي وسترتفع أكثر فأكثر مع استمرار الانهيار. ومن لديه إمكانية مالية يفضّل أن يستأجر ويحتفظ بماله”.
ونصح الحلو المواطنين “بعدم التسرّع وأخذ الاحتياط، ولكن بشكل واقعيّ. مع التنبّه قبل الشراء إلى ضرورة أن يكون المبنى مدروساً ومنفذاً من قبل شركات ومهندسين أصحاب سمعة جيّدة، ويحترمون القوانين ويلتزمون بشروط السلامة العامة، وذلك من خلال الاطلاع على خرائط الخرسان المسلحة للتصاميم الهندسية”.