الجمعة, نوفمبر 22
Banner

لا دولة من دون عدل ولا “عدليّة” مع الطائفية والمذهبية

 سركيس نعوم – النهار

لا بدّ أن يفتخر نبيه بري بمسيرته السياسية الحافلة وبالنجاح الشخصي الذي حقّقه خلالها، كما بالنجاحات “الوطنية” التي أسهم في تحقيقها من خلال ترؤّسه “حركة أمل” واحتفاظه بمقعده النيابي منذ حصل عليه ومن أهمّها استمرار المقاومة للاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان مع مقاومين آخرين في تنظيمات سياسية أخرى وأمور كثيرة غيرها. لكنه يفتخر مع ذلك كله وربما قبله بكونه محامياً مارس مهنته. ويقول دائماً أمام زوّاره وفي مناسبات عامة إن القضاء أهم سلطة في البلاد ويجب حمايته. لكن التطورات السياسية السلبية فيها وعلى مدى أعوام وأعوام والمداخلات الخارجية المتنوّعة القريبة والبعيدة خرّبت هذه السلطة، ومعها أفرقاء الداخل الذين حرصوا على تطييف القضاء ومذهبته وعلى توظيفه لتحقيق مكاسب شخصية وسياسية و… ربما كانت الضربة القاضية له أو شبه القاضية في ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون الذي “أنهى كل شيء في الدولة وفي مقدّمها القضاء”، إذ ضُربت العملة الوطنية وفقدت قيمتها وفرطت المصارف كما تلقى القضاء ضربة أوجعته لا بل شلّته. كان ذلك يوم تعطّلت التشكيلات القضائية لإصرار عون على أسماء معيّنة ولمعارضته أسماء أخرى ثم جاء انهيار الدولة ومؤسساتها وعملتها ليجعله مشلولاً ومنقسماً تتناتشه جهات حزبية وسياسية متناحرة ومتخاصمة. ففقد هيبته وفاعلية دوره ووحدته وصار بدوره مسرحاً لصراعات أفرقاء الداخل ولتدخل الخارج فيه.

لكن أكثر شيء يفتخر به نبيه بري على ما يقول استناداً الى قريبين مُزمنين منه هو ما قام به يوم تولّى وزارة العدل عام 1984 في عهد الرئيس أمين الجميّل فأمضى فيها أربع سنوات ثم تابع مهمته الوزارية مع الرئيس سليم الحص بعدما عيّن الأول قائد الجيش ميشال عون رئيساً لحكومة انتقالية عسكرية قبل انقضاء ولايته الرئاسية بدقائق. لكن المسلمين رفضوا ذلك ومعهم “الحركة الوطنية” وتمسّكوا جميعاً باستمرار حكومة الحص. في بداية تلك التجربة يقول هؤلاء القريبون إنه أحلّ الكفاءة في القضاء مكان الطائفية، إذ استدعى رئيس مجلس القضاء الأعلى في حينه وربما كان القاضي سعد الله الخوري وأطلعه على موقفه وسأله رأيه فيه وإن كان في إمكانه الإسهام معه في “الخطوة الإصلاحية” التي فكّر فيها، فوافق معتبراً أن النجاح في الامتحان الذي يجريه المرشّحون لدخول القضاء هو العامل الوحيد لتحقيق هدفهم. عندها زار بري الرئيس الجميّل وعرض عليه فكرته إذ لا يستطيع تنفيذها من دون موافقته. وحصل عليها بعد مناقشة مستفيضة. وخلال خمس سنوات ونصف نفّذ هذه السياسة. وعند انتهائها طلب القاضي الخوري وسأله عن نتيجة هذه التجربة وإن كانت ألحقت ضرراً بحقوق الطوائف كلها في المشاركة في خدمة البلاد من خلال القضاء. فأجابه أن التجربة كانت ناجحة بدليل أن التوازن الطائفي والمذهبي في “العدلية” لم يتأثر باعتماد الكفاءة والامتحان، وأن تمثيل الجميع كان محترماً ومتساوياً بين المسلمين والمسيحيين بنسبة تفوق خمسة وتسعين في المئة، إذ إن حصة أحدهما زادت واحداً فقط عن حصة الآخر. إلا أن بري، يقول القريبون منه أنفسهم، أراد قبل انتهاء ولايته الحكومية أن يعيّن قاضياً شيعياً هو عفيف شمس الدين رئيساً لمحكمة استئناف في النبطية كانت أُنجزت وبدأ التوظيف فيها كي تباشر العمل. فطلب من سعد الله الخوري رئيس مجلس القضاء الأعلى ذلك. لكن الأخير عيّن قاضياً درزياً مكانه. فتقبّل ذلك برحابة صدر. لكن عندما تغيّرت الأمور مع الوقت ولأسباب معروفة لم يرَ بري بداً من التكيّف معها فردّد مقولةً معروفةً من زمان “من حضر السوق باع واشترى” ونفّذها لأن الآخرين من كبار القوم في الطوائف والمذاهب تمسّكوا بها فأضاف هو إليها مقولةً معروفة هي “ع السكين يا بطيخ”. وتبيّن للآخرين بعد مرور سنوات على تجربة بري في وزارة العدل أنه بزّ الآخرين في هذه الممارسة بل تفوّق عليهم. طبعاً يترحّم بري على قضاء أيام زمان قبل الحرب ويتمنى لو استمرّت تجربته الأولى في وزارة العدل وتعمّقت ولا سيما بعد نجاحها. لكن ذلك لم يحصل فضُرب القضاء من بيت أبيه ومن الحكّام والسياسيين والرؤساء والحكومات والوزراء كما من الذين كُلّفوا مساعدة لبنان على الانتقال من الحرب الى سلام أهلي مستدام والى دولة حديثة، إذ حوّلوا ميليشياويي الحرب وزراء ونواباً ورؤساء جمهوريات، لكن فشلوا في جعلهم رجال دولة أو لم يريدوا منهم أن يفعلوا ذلك. فصارت الدولة تُشبه “حارة كل من إيدو إلو” كما يُقال. كان ذلك أحد أهم أسباب تحوّلها فاشلة بعد أكثر من ثلاثة عقود على انتهاء الحروب وعلى اتفاق الطائف الذي لم يُطبّق إلا جزئياً. ولن تقوم قائمة لأي دولة جديدة في لبنان مدنية تحوز ثقة الناس وتخدمهم بإخلاص. بكفاءة العاملين في مختلف مؤسساتها السياسية والمدنية والعسكرية. كما لن تقوم قائمة للبنان كوطن.

في هذا المجال لا بد من التوضيح أن الهدف من “الموقف هذا النهار” اليوم ليس إظهار اختلاف رئيس “أمل” شريكة “حزب الله” في “الثنائية الشيعية” ورئيس مجلس النواب عن أقرانه السياسيين والحزبيين في الطوائف والمذاهب المتناحرة وحصر مسؤولية التردّي بهم، بل هو الإشارة الى المثل القائل “يا بتصير منا يا بترحل عنا”. ومعظم من تعاطوا السياسة في البلاد في أثناء حروب أهلية وغير أهلية استمرت نيّفاً و15 سنة واستمروا فيها بعد “اتفاق الطائف” فضّلوا الاستمرار في الحياة السياسية على فسادها لا الرحيل عنها. وأصحاب النيّات الطيّبة منهم ومن الذين دخلوا هذه الحياة بعد انتهاء الحرب حصل معهم الشيء نفسه. أدّى ذلك طبعاً الى خراب البلاد وإفقار شعبها وتفكيك دولتها وسرقة مواردها.

Leave A Reply