“العبور الأخير إلى الشخروب” لنديم نعيمة: غلبة الأسئلة.
الدكتور قصي الحسين – النهار
“الجرس في #المسرح يرن بإلحاح غريب معلنا نهاية الإستراحة وبداية الفصل الثاني. يرن ويرن في أذنيه كالسكين. ولكن النظارة يغادرون الردهة الخارجية وينصرفون”. (#نديم نعيمة)
لطالما شق بعض #الأدباء الكبار طريقهم إلى الغبطة، إلى العظمة، إلى المجد، إلى التاريخ، إلى الخلد، بغلبة الأسئلة عندهم على الأجوبة. لا أعني طرح الأسئلة الوجودية، فهذا شأن الفلسفة، شأن الفلاسفة، شأن العقلنة والعقلانيين والمفكرين، وإنما أخص غلبة الأسئلة الحياتية، الأسئلة الوطنية: أسئلة المعيش اليومي. فما بالكم حين يكون السؤال عن النفس، حياة ووطنا وتاريخ بلد أعظم من حجمه، من دوره، من صغره، وهو لبنان. فما بالكم أن يكون السؤال على لسان الأديب الأكاديمي المدرب والمجرب في نديم نعيمة في مؤلفه “العبور الأخير إلى الشخروب” (دار نلسن).
هنا للأسئلة طعم آخر. مذاق الملح في الجرح، ونكهة العبور على المعابر، وبين المتاريس، والتواريخ الكثيرة، وبين القرى المتجاورة كمسارح، وبين الأحياء المتقابلة: ثقافة وتطلعات، وطرق معيش وألوان حياة: “فتح بهي فمه متوجها إلى الآخرين يستمهلهم، (يسألهم)، شارحا لهم مهمته الجنائزية التي كان بحسبها لوجهها الإنساني وقدسيتها كافية، فأتته من الريس لطمة على حنكه. تناثرت فوقها عيناه شررا وارتج صوابه”.
“العبور الأخير إلى الشخروب”، الذي أراده كاتبه الأديب نديم نعيمة في ثلاث قصص، إنما تتجلى فيه شخصية الأديب وفكره وجوهر حقيقته كإنسان. حتى لكأن كلماته وفصوله وسرده المتتابع والمتقاطع والمتسائل، إنما هو يبوح، يكشف، يقول ويعلن همسا، بلا بوح ولا قول ولا همس ولا إعلان، عن جريمة تدبرت لوطن طفل، لجبل أرعن أبى أن يركع، لحجارة عنيدة في مقالعها، لصخر، لتراب مجبول بعرق ودم، على إيقاع ليل طويل، وعلى أنباء وأصداء مقاتل القديسين والأنبياء، على الدروب/ الجلجلة: “كانت أصوات الجماعة قد بدأت ترتفع ثانية بالترجيع والتطبيب عندما أسكتتهم همهمة بكاء مخنوق وشدت أبصارهم هامة أبي علي الطائح العاصي، وهو يتقدم إلى أبي سلمى والبندقية في كتفه، فيطوق رأسه بذراعيه، ثم ينشج وينشب فوقه كالطفل، وينتفض بكل خلية فيه، كمن مسه كهرباء”.
يغذ نعيمة بلغته الممتنعة في هذا النوع من القصص، في النثر، كما وكأنه يسلك دروب الشعر. حكاياته، بل رواياته، بل أخباره، بل سردياته، كلها تطاول. يصعد في التلال، ويسير في الأزقة، ويطل من خلف المتاريس، والبنايات والجبل وأثلام الحقول وبيادرها، مثل صبي مراوغ، مثل قمر: “وصل إلى محاذاة المتحف فاتسعت الساحة ومن حولها الأبنية. وأحس بمزيد من الثقة. ترك السور متجها إلى الطريق. فأحس فجأة بلسعة حارة في أعلى الصدر”.
هو الحنين والعشق والوفاء والإنتماء والحكمة والفلسفة، والصوفية والعبثية، كما الجدية الساخرة والدعابة الرصينة والهزأة الضاحكة، إنما كل ذلك يشكل قيمة هذا العمل الأدبي، في وحدة الكاتب، وانسجامه الداخلي: “الجسم يستحيل ريشة من جناح حجل. ترتفع خفيفة إلى دائرة الضوء عند القمة. تحملها الريح من هناك. تنأى بها دورة فدورة إلى أن ينطفئ النور من ورائها، فترتمي في غيهب المدى وتغيب”.
عند نديم نعيمة، هذا الحشد، بل هذا التحشيد من الرؤى الكثيفة العميقة والأصداء، نراها تتردد في كل أرجاء عمله المتشعب المشتت والمتشتت الجامع. حتى لكأن الكاتب، إنما أراد البوح، بدل الاختناق. إنما أراد غصص السؤال الصعب، بدل الجواب. فنديم نعيمة، أستاذ مدرسة السؤال عن الجواب، بل أستاذ مدرسة الرد على الجواب، بالسؤال: “- أنت تريد تمسك حمامة؟/ ونزلت طاوية ركبتيها لترى وجهه./، فهز بكتفيه من غير أن يجيب. /-إذا أمسكت حمامة شو تعمل فيها أنت؟./ ورفع عينيه إليها وقد أعاد إليه صوتها الحاني شيئا من جرأته./- أضعها في القفص”.
يعمل نعيمة على التوفيق بين عجزه عن التغلب على الأسئلة الصعبة لوطن في الغربة والأسر، وبين إحساسه بعظمة تحرك روحه في داخله. لذا نراه، يتولى تقديم المشاهد القاسية، على الأجوبة القاسية. يقدم الصورة المادية، على الجواب الرمزي. فالمشهد وصورته والحكاية عنه، وإنشاء التفاصيل، وحياكتها، أغنى له، من الحكاية عنها. يريد أن يكون شاملا، ولا يريد أن يكون مشابها. يريد أن يتحدث عن الجبل، متماهيا معه، مستغرقا في رسم تفاصيله الغارقة في أوحال التاريخ، وفي أحوال العصر، انطلاقا من إيمانه بأنه والوطن، كون واحد، زمانيا ومكانيا: “كان يسترق النظر إليها وكله خوف من أن تضبطه المكبة على أوراقها أمامه خلف المكتب. أو أحد المارة في الممشى الخارجي، وهو يتطلع إلى حيث لا يجب، لمن في سنه، أن يرى”.
جرأته تتحدى الوقائع التي وقف عليها، وهو يتابع مسيرة البلاد، مغسولة بدموعها ودمائها. يأخذ من نسيم الجبل والوادي، ما يمكن أن يشكل عبق الكتابة، التي تتضوع في خلايا القارئ، دون أن تناله تهمة “تحريض” أو “فتنة” أو “عصبية” أو “تعصب”. كأنه فقط يعمق الرؤيا، يعمق الإجابة في الأسئلة المتداولة: “أنت أيتها الجالسة على المنصة، أوسع من كفي. حرام أنت. المشكلة ليست في أني ضيق بل في أنك واسعة. أيها النور المتوهج على خطوة أو خطوتين. سنين وأنا في العتمة. موجع. موجع أن أفتح عيني عليك. ظلي أمام الزجاج. أرجوك لا تفتحيه. حسبي أن أبقى العمر كله أخبط وراء البلور مشدودا إليك”.
تجربة كتابية جديدة في التحريض على المشتبه به بقتل البلاد، مرحلة مرحلة. هذة هي تجربة نديم نعيمة: فعل تجسيم، لإيقاعات القتل القديم الجديد، في صورة المشاهد التي يقيمها لأبصارنا. يدع سؤال المشاهد، يقع لنا، دون أن يذهب إلى الركيك، أو السفيف أو الخسيس، في التعليل والشرح والتفسير. فالبلاد في قتلها أمامنا، مثل نص مفتوح. فلا تحتاج لأعمال الشراح والمفسرين والمتهمين بالسفسطائية الغبية والغيبية. هنا البلاد في تجلياتها الكبرى على الخشبة من أول الدهر، وهي لا تحتاج للبحث عن الدوافع ,للتحري عن القتلة. إذ لا يصعب على القارئ أن يرى العبثية في الأجوبة القائمة لأن الحقيقة الأصلية هي في لب الأسئلة.
يختار نديم نعيمة أسلوبه في الحديث عن البلاد القتيلة، من خلال الوقوف على أسباب الأسئلة، لا الأجوبة. لأنه يعي الجواب التضليلي. لا يريد إقامة التوازن، بين السؤال والجواب. لأن السؤال حق. والجواب باطل البطلان كله حتى الآن.
شبكة من العلاقات المشهدية تحكم نصوص هذه القصص الثلاث، في بناء واحد على صدر البلاد الممددة مثل ذبيحة، دون أن يستغرقه المنهج، ودون أن تحوله الأسس، ودون أن تغيره الأجوبة والفلسفة. فقط عري الذبيحة، يشد نديم نعيمة، للسؤال الصعب: -من قتل القتيل!. إنها “العودة الأبدية”. إنه الوعد الجلي وليست بلادنا أول الأموات. بل إن هي إلا مشهد مروع للقتل المستمر بصيغ مختلفة. لكمون فعل القتل في جسد القتيل.
هذه البلاد التي عرفها نديم نعيمة في صورة قتيلة، كان يرسمها، كنادب كعاشق كقتيل هوى، ضاع وهو يحفر في الترب عن جسدها القتيل. يسرد المواقع. ويصف الحجارة والأديرة والدروب والحقول والفلاحين والمعاول، من خلال الترابط بين العاشق والمعشوق. وكأن في الشخروب أول معبد. وكأن في الشخروب آخر معبد. وكأن الشخروب هو البلاد. هو الهول. هو المصاب. هو القتيل الأول والأخير.