كارين إليان ضاهر – اندبندنت
في “المبنى الأزرق” في سجن رومية (جبل لبنان) يوجد عشرات السجناء المنسيين الذين يعانون اضطرابات نفسية، فقد أوجبت التشريعات المجحفة في حقهم، حجزهم إلى حين “الشفاء بقرار تصدره المحكمة”. مأساة حقيقية يعيشونها في ظروف صعبة الوصف وبغياب أي رعاية نفسية أو متابعة طبية، هذا ما يزيد وضعهم سوءاً ويجعل الإفراج عنهم شبه مستحيل. لكل من السجناء داخل جدران المبنى في سجن رومية قصة مؤلمة سلطت الأضواء عليها المديرة التنفيذية لـ”المركز اللبناني للعلاج بالدراما” “كثارسيس” زينة دكاش في فيلمها الوثائقي “السجناء الزرق”. تناولت فيه قضيتهم وكشفت عن الواقع الذي يعيشون فيه آملة أن يكون له أثر في تعديل القانون. وكانت دكاش قد تقدمت باقتراح قانون لتعديل بعض مواد قانوني العقوبات وأصول المحاكمات الجزائية المتعلقة بالمرضى النفسيين مرتكبي الجرائم، ومنها تعديل المادة 411 من قانون أصول المحاكمات الجزائية للتمييز بين المحكوم والموقوف واعتماد عبارة “الأمراض النفسية أو العصبية أو النفس عصبية” بدلاً من عبارات “مجنون” أو “معتوه” أو “ممسوس” المعتمدة في القانون، وتعديل المادة 74 من قانون العقوبات لتوفير الاختيار بين المأوى الاحترازي في سجن رومية ومستشفى الأمراض النفسية أو العقلية، إضافة إلى اعتماد معيار الـ”خطر على السلامة العامة” لعدم إمكان الشفاء من المرض النفسي، كما يؤكد الأطباء. وعلى رغم كل الجهود والمساعي وضع اقتراح القانون في الأدراج كغيره من مشاريع القوانين، وأصبح طي النسيان. في هذا الوقت، يعيش المحكومون من عشرات السنوات بين جدران “السجن المؤبد” في ظروف مأسوية تشكل انتهاكاً حقيقياً لحقوق الإنسان بعد أن فقد الأمل بخروجهم منه في أي وقت من الأوقات.
لكل سجين قصة مؤلمة تظهر ظلم المجتمع من جهة والظلم الأكبر الموجود في السجون (زينة دكاش)
قانون لا يواكب التطور الطبي
وتعود أحكام قانون العقوبات اللبناني الخاصة بالمحكومين الذين يعانون اضطرابات نفسية إلى عام 1943. وقد أخذت من القانون العثماني الذي أطلق على من يعاني اضطراباً نفسياً صفات كـ”الممسوس” و”المجنون” والمعتوه”، التي لم تعد مقبولة في أيامنا هذه بحسب رئيس لجنة تخفيض العقوبات سابقاً وقاضي بعلبك حمزة شرف الدين. منذ ذاك الوقت لم يعدل القانون في مواكبة للتطور الطبي النفسي والتغيير الحاصل في النظرة إلى الاضطرابات النفسية، ولم يتدخل حتى أي من القضاة أو المشرعين للمساهمة في إحداث تغيير في هذا الشأن على رغم الخطأ الفادح المرتكب في حق هؤلاء السجناء المنسيين الذين يمضون بذلك أيامهم الباقية في ظروف مأسوية بعد تهميشهم داخل السجن كما في خارجه.
ويعود شرف الدين بالذاكرة إلى ما قبل سنوات، عندما دخل مع زينة دكاش إلى المبنى الاحترازي في سجن رومية، علماً بأن المبنى الذي أنشئ عام 2002 في سجن رومية هو الوحيد في لبنان الخاص بمن يعانون اضطرابات نفسية، وإن كان هناك مرضى نفسيون في باقي السجون “نجحنا في إطلاق سراح سجينين بقرار من المحكمة. كان قد أمضى كل منهما نحو 38 سنة بين الجدران. اعتمدنا على ثغرة قانونية، وبجهود كبرى بذلناها وبالتركيز على نقطة أنهما لا يشكلان أي خطر على السلامة العامة أو على النفس، وقد تخطيا سن الـ70 على أثر عرضهما على أطباء نفسيين نجحت لجنة خفض العقوبات في تحقيق الهدف”.
المحكمة لا تسمح أبداً بخروج سجين إلا إذا كان بالفعل لا يشكل خطراً على المجتمع بحسب عمره وحالته، ويختلف الوضع طبعاً بحسب الاضطراب النفسي، لكن هناك حالات استثنائية لا بد من إعادة النظر فيها، فلا يمكن إبقاء أشخاص داخل الجدران في ظروف مناهضة لحقوق الإنسان من دون دواعٍ طبية أو قانونية. وفي وقت ينص القانون على البقاء في السجن إلى حين الشفاء، تبدو الظروف التي يعيش فيها السجناء بعيدة كل البعد عما قد يسهم في تعافي مريض يعاني اضطراباً نفسياً.
علماً بأن الأطباء النفسيين يؤكدون أن من يعاني اضطراباً نفسياً لا يتعافى تماماً، بل يمكن ضبط الحالة والأعراض، لكن حتى الشروط التي تتطلب الانتظام في العلاجات والمتابعة النفسية لا تتوافر للسجناء أصلاً، فليس هناك أي متابعة طبية أو نفسية ولا تؤمن لهم أي أدوية، إلا إذا تبرعت إحدى الجمعيات بدواء من وقت إلى آخر. وأوضح شرف الدين أن من المفترض أن يكون هناك طبيب نفسي يتابع المرضى الموجودين في “المأوى الاحترازي”، لكن مرت سنوات منذ زارهم طبيب.
وتعتبر وزارة الصحة مسؤولة عن متابعة السجناء من الناحية الصحية وبشكل خاص الذين يعانون اضطرابات نفسية، لكنها لم تتحمل مسؤولية المأوى الاحترازي والرعاية الطبية الملقاة على عاتقها بموجب مرسوم عام 1994 “بذلنا الجهود كافة وحاولنا تقديم المساعدة بحسب قدراتنا في أمور ليست من صلاحياتنا، بل هي ضمن مسؤوليات وزارة الصحة التي لم تتدخل يوماً ولا تعتبر الأزمة سبباً لهذا التهاون لأنها غائبة من سنوات قبلها، كما عملنا على تسليط الضوء على القضية بين القضاة واجتمعنا مع خبراء نفسيين وأسهمنا في معالجة ما استطعنا من الحالات”.
وفي عام 2015 استطاع القاضي شرف الدين أن يؤمن تمويلاً من السفارة الإيطالية لترميم “المبنى الأزرق” بعد أن أظهر حجم المأساة التي يعيشها السجناء فيه، لكن حالة المبنى عادت سيئة اليوم بعد سنوات من الإهمال وانعدام أعمال الصيانة، وقد زادت الأزمة الوضع سوءاً على كل الصعد. أما اقتراح القانون الذي كان قد تبناه النائب غسان مخيبر أيضاً في مجلس النواب، فمع بداية الأزمة تبين أنه أصبح في الأدراج ولا بد من تحريك القضية من جديد، وذهبت كل الجهود السابقة سدى للإفراج عن بعض السجناء الذين لهم حالات خاصة. وبقي الوضع على حاله بالنسبة إلى هذه الفئة المهمشة التي يبدو واضحاً أن قلائل هم الذين يدركون المعاناة التي يعيشونها.
ضبط الحالة والأعراض ممكن
حتى اليوم يطبق القانون الذي لا يراعي أي تطورات في الطب النفسي ويتعاطى مع الاضطرابات النفسية من المنظار نفسه. أما الطب النفسي فيتعاطى مع كل اضطراب نفسي على حدة لأن لكل حالة خصوصيتها. فمنها ما يرافق المريض طوال الحياة، بحسب الطبيب الاختصاصي في الأمراض النفسية داني خلف الذي تابع سجناء رومية طوال سنوات، فيما ثمة حالات تتحسن مع الوقت، وفي الأمراض النفسية لا يمكن التحدث عن شفاء تام، كما ينص القانون، إذ يبقى المرض موجوداً، لكن يمكن السيطرة عليه وضبط أعراضه التي تزول بفضل المتابعة النفسية والدواء. أما مدة العلاج المطلوبة فمتفاوتة بحسب أنواع الاضطرابات النفسية المعنية. في الوقت نفسه أشار خلف إلى أنه في حال ارتكب أحد المرضى النفسيين جريمة لا يمكن تبرير هذا الفعل تلقائياً بالاضطراب النفسي الذي يعانيه، ولا بد من التحقيق في الحالة وفي نوع المرض للتأكد من ذلك. وثمة حالات يمكن أن يؤدي الاضطراب النفسي فيها بالفعل إلى جرم أو عمل عدواني، وهي حالات يحددها الطبيب وينظر فيها وتحصل عندما يعاني المريض أفكاراً تراوده ومن حالة انفصال عن الواقع، كما في حالات الهلوسة. وهناك اضطرابات أخرى لا يشكل المصاب فيها أي خطر على نفسه أو على الآخرين. إنما في كل الحالات تبرز أهمية المتابعة النفسية والتقيد بالدواء، حتى تتحسن حالة المريض، وتكثر الاضطرابات النفسية التي يصل فيها المريض إلى مرحلة الاستقرار النفسي بحيث لا يشكل أي خطر على نفسه والآخرين، كما أكد خلف.
وفي كل الحالات، لو توافرت للمريض المتابعة النفسية والدواء يمكنه العودة إلى الحياة الطبيعية. ويعرض عندها المريض على لجنة طبية للتحقق ما إذا كان مسؤولاً عن أفعاله “من الممكن للقاضي أن يتخذ قراراً بالاستثناءات في حالات كثيرة يسمح فيها وضع المريض بخروجه من السجن فيعود إلى حياته في المجتمع بعد قضاء مدة الحكم. أما في حال الرغبة بتطبيق القانون ومن دون النظر في الحالات الاستثنائية فلن يكون من الممكن أن يخرج السجين”.
وفي ظل الإجحاف التام في حق السجناء لا تتوافر أي من الوسيلتين العلاجيتين للسجناء في “المبنى الأزرق”، ولا يمكن الاعتماد على تبرعات استثنائية من بعض الجمعيات من وقت إلى آخر، خصوصاً أن الأدوية مكلفة جداً ولا يحضر الأطباء إلى السجن حتى بعد الأزمة، فأي تحسن في حالاتهم هو متوقع عندها؟
يميز خلف هنا بين الاضطرابات النفسية المرتبطة بتركيبة الشخصية، وتلك التي تؤدي إلى خلل في القدرات الإدراكية والتمييز بين الصحيح والخطأ أو بين الواقع والخيال، وهي تلك التي قد تصل بالمريض في حالات معينة إلى حد ارتكاب جريمة، لكنه يشدد على ضرورة التعاطي مع كل حالة بشكل منفرد لتحديد ما إذا كانت تشكل خطراً على المريض ومن حوله وما إذا كان مسؤولاً عن أفعاله. وهنا يأتي دور اللجنة الطبية المسؤولة عن متابعة هذه الحالات، بما أن القانون لا يأخذ ذلك بالاعتبار عينه. ففي كثير من الحالات يمكن السيطرة على الحالة والأعراض بفضل العلاج “كان وضع السجناء في (المبنى الأزرق) أفضل إلى حد ما قبل سنوات، ما يحصل حالياً ظلم كبير في حقهم ولا يمكن السكوت عنه. فتغيب في السجون اللبنانية برامج إعادة التأهيل النفسي المتوافرة في سجون الدول المتقدمة”.
وأتت الأزمة التي تعيشها البلاد لتقضي على أي أمل لدى السجناء وزادت حجم معاناتهم بغياب أي اهتمام بقضيتهم. وفيما من المفترض أن يكونوا في مستشفى متخصص لمتابعة حالاتهم، هم في الواقع موجودون في السجن من دون أي متابعة أو علاج، وكأنهم ينتظرون هنا الموت لتنتهي معاناتهم.
Follow Us: