ابراهيم بيرم – النهار
منذ أن أطلق رئيس مجلس النواب نبيه بري “اندفاعته” السياسية الجديدة قبل ايام، والتي وضع فيها خريطة طريق لمرحلة جديدة من التعاطي والاداء السياسي معيداً فيها الاعتبار الى مراحل “المخاشنة”، لم يصدر عنه اطلاقا ما يوحي انه قد قال كلمته وعاد الى قواعده “سالماً”، أو أنه استطرادا في وارد فرملة اندفاعته، وهو ما يعني في نظر مرتادي عين التينة انه ماضٍ قدماً في خطة مواجهةٍ وانه لا يخبط عشوائيا أو يقوم بردة فعل ارتجالية.
فبعد أقل من 24 ساعة على اطلاقه القنبلة السياسية سارع الرئيس بري الى اطلالة ثانية بدا جليا انه يستكمل فيها ما بدأه ويتابع لعبة تحدي الخصوم، خصوصا عندما قال: “هذا هو المرشح الذي اخترناه واصطفيناه (زعيم “تيار المرده” سليمان فرنجيه)، وقد تبنّينا ترشيحه جهارا، فليميطوا اللثام عن وجه مرشحهم الحقيقي والنهائي، ولننزل سوية الى القاعة العامة في مجلس النواب وندير صندوق الاقتراع في اطار الاحتكام الى ممارسة الحق الديموقراطي بكامل مواصفاته، ومبروك وألف مبروك لمن يفوز”.
وبذا يكون بري، بحسب زواره، قد طرح بشكل حاسم قفاز التحدي في وجه كل الآخرين محاولا تنزيه نفسه عن شبهة التعطيل والعرقلة، وانطلق عمليا في رحلة رد الاعتبار واسقاط ذرائع الخصوم الذين خالوا انفسهم خلال الاشهر الثلاثة المنصرمة انهم نجحوا في وضعه خلف قضبان الاتهام من جهة، وضيّقوا عليه الى اقصى الحدود مساحة الحركة وإمكانات الرد الى حد تكبيل يديه من جهة أخرى.
بطبيعة الحال، يرفض بري، بحسب هؤلاء الزوار، مقولة انه يثأر لنفسه من اولئك الذين تعاملوا معه منذ البداية على انه يمكن إحالته الى خارج الخدمة. فالمسألة عنده لم تكن في يوم بهذه المنزلة وبهذه الحدود الضيقة، لكنه وهو السياسي العليم بتفاصيل اللعبة السياسية وما تختزنه من خبايا، استشعر اخيرا أمرين خارجين عن مألوف قواعد اللعبة السياسية، وحاول جاهدا ان يتعامل معهما كأنهما من باب الحدس والظن الذي بعضه إثم.
ولكن تشاء الاقدار ان تثبت له تجارب الاسابيع الأخيرة وأحداثها ان الآخرين انما ينظمون انقلاباً على كل المرحلة الماضية بعد شيطنتها في محاولة بيّنة لإيجاد مبررات ومسوغات لمقتضيات الانقلاب الرامي الى فرضهم أمراً واقعاً مختلفاً.
وحاول رئيس المجلس بطريقته السلسة وعبر خطوط علاقاته المفتوحة مع الجميع بلا استثناء، اقناع هؤلاء بان “الفرضية” التي اشاعوها بعد ظهور نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة عن امتلاكهم اكثرية 68 نائبا غير دقيقة، وكذلك القول إنها اكثرية تتيح لهم ان يقنعوا معظم الداخل وبعض الخارج بأنه صار في مقدورهم تحقيق أمرين في آن واحد:
الاول: التمهيد لطيّ صفحة ما بعد اتفاق الطائف وما حفلت به من توازنات قوى ومعادلات.
الثاني: التأسيس لمرحلة تتحول فيها الشيعية السياسية وبما تمثل من واقع وامتدادات الى حالة هامشية وليست حالة وازنة وقابضة.
وعلى الاثر سعى بري بما أوتي من قدرة ان يقنع هؤلاء بخطأ المضيّ في اعتماد هذا الاعتقاد والبناء على هذه الحسابات كونها حسابات من النوع “السرابي الواهم”، واكثر من ذلك بادر الى تحذير هؤلاء من مغبة “تصديقهم” لهذه الفرضية والتعامل معها على انها حقيقة.
وبشكل أو بآخر، يقول زوار بري انه سعى الى افهام من يعنيهم الامر ان الثنائي الشيعي ومَن والاه سياسيا لديه كتلة نيابية تعدادها ما بين 50 الى 55 نائبا، وهي كتلة متماسكة غير قابلة للانفراط او التقلص مهما اشتدت عليها وتيرة الضغوط، فيما كل الباقين هم خمس كتل كحد ادنى تتفرق أيدي سبأ ووفق حسابات شتى لا تتيح لها الاتفاق على قلب رجل واحد ترشحه للرئاسة الاولى.
وثمة من يذكر ان هذه “القناعة الحسابية” قد تبناها ايضا رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، وانه بناء عليه سعى الى اقناع من يتعين اقناعه بصوابية هذا الحساب ودقته، محذراً الآخرين من مغبة الاندفاع في الحسابات المتهورة وغير الصلبة. وبنى ميقاتي على هذه الرؤية ما سمح له بالمضيّ في اعتماد نظرية ان الفرصة الأمتن هي لفرنجيه لبلوغ قصر بعبدا.
وعليه، يستطرد هؤلاء ان بري امضى معظم لقاءاته واتصالاته خلال الاشهر الثلاثة المنصرمة محاولا شد الجميع الى “كلمة سواء” تقوم على فرضية الاقلاع عن الحسابات المتهورة والعودة الى جادة البحث الجدي عن تفاهمات مثمرة تنتج رئيسا توافقيا يشكل مصدر ثقة للجميع من دون استثناء، وتنتج استطرادا حكومة جديدة تكون ايضا مصدر ثقة للداخل والخارج. لكنه لم يلقَ تجاوباً لان الآخرين استبدت بهم ثابتة ان عليهم ألا يتراجعوا أو يتركوا فرصة للتراجع أو التردد لان اللحظة مؤاتية لهم تماما، ومن خلالها يمكنهم ان يستعيدوا ما يعتقدون انهم خسروه في المراحل السابقة.
وبمعنى آخر ينقل زوار عين التينة عن بري انه وجد ان هؤلاء باشروا الخطأ عندما آثروا ألّا يشاركوا في اعطاء الاصوات المسيحية الكافية للرئيسين بري وميقاتي، اذ ان الامر كان إيذاناً بنهج خطير. ولقد كان عليهم ان يأخذوا العبرة من نتائج انتخابات نائب رئيس المجلس واعضاء هيئة المجلس وأن يعيدوا النظر بكل حساباتهم وهو ما لم يفعلوه.
ولا يكتم زوار عين التينة ان ما رفع اخيرا منسوب غضب بري هو “لعبة الاستقواء المفضوحة بالخارج” لعل وعسى تكسر معادلات الداخل وتستقوي عليها، خصوصا ان بري قد وجد في طيّات تلك اللعبة نوعاً من “بلف الرأي العام” عبر بثّ تسريبات منسوبة الى بعض الخارج الاقليمي ومفادها ان هذا الخارج يضع “فيتو” على هذا المرشح ويزكّي ذاك المرشح، علما ان الامر ليس بهذا الشكل، وعلما ايضا ان هذا الفعل جديد تماما ويسيء الى الاطراف المعنية وهو خارج تماما عن مألوف التعاطي السياسي.
وبناء على كل ما تقدم، فان زوار بري يؤكدون انه لم يصدر ما صدر عنه إلا لكي يحدث صدمة ايجابية تعيد الآخرين الى جادة العقل وتساعد في تبريد الرؤوس الحامية، ولكي يدركوا ان الوقائع لا تصنعها التصريحات العالية النبرة.