الجمعة, نوفمبر 22
Banner

كيف يتحدى كبار السن الفراغ وينفون العزلة؟

بشير مصطفى صحافي – اندبندنت

يخوض كبار السن أشرس الحروب بعد بلوغ سن التقاعد، إنها معركة من أجل البقاء، ونفي العزلة، لذلك تراهم يتمسكون بممارسة هواياتهم القديمة، ويحرصون على ممارسة “روتينهم” اليومي الذي يتراوح بين الأعمال المنزلية، والاهتمام بالكائنات الحية والحرفيات، ناهيك بالطقوس الجماعية التي تمنحهم الشعور بالرضا والاكتفاء الذاتي.

رحلة التربية المستمرة

يواظب كبار السن على وظيفة التربية، فهم يرون بأحفادهم استمراراً لهم، كما يحرصون على إعداد الأطباق التقليدية ومواسم “المونة” والمربى. ومع تقدم السن، تتخذ حياتهم أبعاداً جديدة من خلال تكريس الوقت لرعاية الحيوانات والنباتات. وتختصر السيدة نداء (في العقد الثامن) تجربة “مقاومة اليأس” لدى كثيرين من كبار السن، فقد تزوج كل أبنائها وبناتها، واغترب قسم منهم، فأصبحت وحيدة في بيتها. وتروي كيف شكلت مرحلة التقاعد محطة لترتيب أوقات فراغها، فهي “تعيش وحيدة في منزلها، وبدأت في استغلال الفسحة المتاحة لديها، فراحت تزرع بعض الشتلات والنباتات الموسمية كشتلات البندورة وشجرة الليمون”، كما باتت تهتم برعاية طائر البلبل، وطائر “العاشق والمعشوق”. وتؤكد أنها “باتت جزءاً من حياتها اليومية، فتقطع مسافات طويلة لتصل إلى السوق من أجل شراء الفيتامين والغذاء لتلك الكائنات البريئة، كما تؤمن لها الأجواء المناسبة للتزاوج والنمو”.

مساءً، تنتقل نداء إلى أنشطة جديدة، تخرج الصنارة و”كبكوب” الصوف من حقيبتها، وتبدأ بالحياكة. وهي لا تفوت مناسبة من المناسبات، إلا وتصنع قطعة لأحد أبنائها أو أحفادها، كما تصنع قطع “الكروشيه” ذات الصبغة التراثية الفاخرة لتكون غطاءً للطاولة أو السرير.

مجموعة من الأصدقاء وجلسة سجال ونقاشات وذكريات الماضي

ما ينطبق على السيدة نداء يتكرر مع شريحة واسعة من كبار السن التي تحولت إلى رعاية القطط والكلاب. يؤكد نديم (67 سنة) أنه قبل التقاعد لم تكن تربطه أي علاقة بالحيوانات، وكان يخشى من أن تتسبب في العدوى أو يتناثر ريشها على الأثاث، ولكن شهدت حياته نقطة تحول مع دخول قطة صغيرة بيضاء إلى منزله، حيث يشير إلى أنه “منذ ثلاث سنوات، اضطررنا لاستقبال قطة في منزلنا، كنا نتعامل معها بحذر، ولكن ما لبثت أن تحولت إلى جزء من يومياتنا”. ويضيف “الآن، أصبحنا نطعمها، نرعاها، ونعطيها الدواء عند ملاحظة أي وهن في جسدها”.

يسرق كبار السن لحظات الدفء من شمس النهار، لذلك تجدهم يسيرون في الطرقات، والأسواق، أو يهرعون نحو شاطئ البحر والكورنيش لممارسة هواية مجانية على غرار المشي، والسباحة أو الصيد، كما تجدهم يتشاركون جماعات وأفراداً في جلسات الساحات العامة. داخل حديقة “المنشية” العامة في وسط طرابلس (شمال لبنان)، ينتشر كبار السن على المقاعد البلاستيكية الزرقاء، يتناقشون في السياسة، يخوضون في سجالات اليومية، قبل الوداع على أمل اللقاء في يوم مشمس آخر.

ليس بعيداً من الحديقة العامة، يحرص كبار السن على طقس “النارجيلة العجمية” التي ترتبط وجدانياً بالتأمل والتفكر. نصادف في إحدى زوايا مقهى التل العليا التراثي، مجموعة من الأصدقاء، يخبرنا هؤلاء أنهم يرتادون هذا المقهى بصورة شبه يومية منذ عقدين من الزمن. تقول إحدى السيدات “في كل يوم، وبعد إعداد الطبخة في البيت، ألتقي مع صديقاتي هنا لشرب النارجيلة”، فيما يعقب صديقهن العسكري المتقاعد أنه يقصد المكان منذ أن تقاعد من الجيش، ولا يكاد يمر يوم دون أن يلتقي مع “الشلة”.

في الزاوية المقابلة، تتعالى حيناً وتخفت أحياناً أصوات مجموعة أخرى من كبار السن، الذين يتناوبون على طاولات من أجل المشاركة في وألعاب الورق، والداما، ولعبة “طاولة النرد”.

العمر الثالث

يشجع علم النفس الاجتماعي على ممارسة كبار السن الهوايات والأنشطة المفيدة. وتلفت ماغي معلوف (باحثة في علم النفس الاجتماعي) إلى أن ذلك “يشكل حاجة ضرورية لهم”، مشيرة إلى أنها أجرت دراستين حول كبار السن، إحداها في طرابلس والجوار، وتبين لها أن “كبار السن من فترة التقاعد إلى 100 عام، يطالب بمعظمهم بإفساح المجال لممارسة أنشطة التسلية والترفيه. كذلك أكد البعض منهم ضرورة وجود عنصر مرافق للمساعدة”. وتنوه معلوف إلى دراسة أجريت عام 2012 أثبتت “ضرورة ممارسة كبار السن أنشطة مجانية، بمعنى يمكن ممارستها بأريحية، ومن دون البحث عن المنفعة، والحق باختيار ما يحبونه من أنشطة للتصدي لآثار الشيخوخة، ومقاومة أضرار التقدم بالسن”.

لا لليأس

يعتقد بعض علماء النفس أن “كبار السن” يبلغون أحياناً مرحلة اليأس وسيطرة التوقعات السلبية، والمرارة، والحسرة. وتؤكد ماغي معلوف أن “الدراسات تشير إلى انتشار مشاعر القلق لدى 75 في المئة من كبار السن، 46 في المئة يشعرون بالضيق والحزن”، من هنا تأتي أهمية الأنشطة الترفيهية لتخفيف الانفعالات السلبية”، كما تحذر عن “الأثر البليغ لابتعاد الأبناء على الحالة النفسية لأهاليهم، أو تركهم يعيشون في عزلة، أو ضمن دور الرعاية”.

وتشدد معلوف “يتسبب غياب الرعاية الصحية في رفع مشاعر القلق والاكتئاب لدى كبار السن لناحية عدم القدرة بالحصول على الطبابة، وعلى وجه التحديد الخوف من التبعية”، موضحة “يخشى هؤلاء من الحاجة إلى شخص آخر، لكي يساعدهم في تناول الطعام أو الاستحمام، والمشي”. من هنا، تأتي أهمية الأنشطة الترفيهية والخروج من المنزل في خلق المشاعر الإيجابية، وإثبات قدرتهم الذاتية في الحركة والاستقلالية. كما تؤكد ماغي “تفتح ممارسة كبار السن لهواياتهم المفضلة الباب أمام تحقيق الاعتراف الاجتماعي، حيث يحصدون التشجيع والإعجاب للحفاظ على استمرارية نشاطهم، كما يمنحهم زخماً داخلياً للخروج من المنزل للحصول على مزيد من الدعم النفسي – الاجتماعي”.

من ناحية أخرى، تجزم معلوف بأثر تربية الحيوانات والنباتات لدى كبار السن، مشيرة إلى أنه “لا يمكن أن يعوضهم ذلك عن غياب أولادهم، ولكنه يمنحهم فرصة لتبادل العاطفة، ويشكل ذلك ضرورة من أجل تمسكهم بالحياة وقيمة لجهودهم”.

وتنصح معلوف بممارسة تلك الأنشطة لمقاومة آثار الشيخوخة، لأنه “بدلاً من عيش شيخوخة مستعجلة، نصبح أمام شيخوخة بطيئة، وعدم انحدار القدرات الذاتية”. وتتطرق إلى “المكابرة” لدى كبار السن، وإصرارهم على ممارسة الأنشطة المنزلية والمطبخية المضنية، بخلفية توجيه رسالة مفادها “نضحي من أجلكم لأقصى حد، لنجدكم عند الحاجة إلى جانبنا”.

Leave A Reply