“كيف يستطيع اللبنانيون تدبير أمورهم”؟.. أكثر سؤال يطرحه اللبنانيون أنفسهم، إذ رغم ارتفاع كلفة المعيشة إلى حدود خيالية والحاجة إلى ملايين الليرات شهرياً، استمروا قادرين على الصمود والاستمرار، بغض النظر عن العقبات التي تظهر في طريقهم.
أستاذة علم الاجتماع البروفيسورة مها كيّال، واحدة من اللبنانيين الذين يطرحون ذات السؤال، وتبدي تعجبها من تحّمل المواطنين الارتفاع الجنوني للأسعار، وان كان يمكن تفسير ذلك، كما تقول في حديث لموقع “الحرة”، “من خلال إعادتهم النظر في خياراتهم وأولوياتهم، إذ أصبحوا يقتصرون مصروفهم على الطعام المعدّ في المنزل، مع الاستغناء عن المأكولات غير الأساسية مثل المكسرات وغيرها، أما باقي الحاجيات فمؤجلة إلى حين النهوض من الكبوة الاقتصادية”.
في بداية الأزمة الاقتصادية سنة 2019، وانهيار الليرة اللبنانية مقابل الدولار، والغلاء الذي طال كل الأسعار كان الأمر بالنسبة لهدى “صادماً”، لم تعرف وعائلتها كيفية مواجهة المرحلة الصعبة، وتقول “فجأة وجدنا أنفسنا في نفق مظلم، توقفنا للتفكير عن مخارج حقيقية، لأن الاستمرار في الصدمة وعدم محاولة امتصاصها لن يوصلنا إلى إيجاد حل للمشكلة”.
قررت هدى، وشقيقتاها، البحث عن مدخول بالدولار لتأمين معيشة لائقة لهن ولوالديّهن، وتشدد في حديث لموقع “الحرة” “كنا نعلم أنه لا يمكننا تغيير واقع بلدنا، لكن بالحد الأدنى يمكننا تغيير واقعنا، وهذه هي القاعدة السحرية التي دفعتنا إلى مضاعفة مجهودنا وتكاتفنا ومساندة بعضنا البعض، حتى تمكنت وشقيقتي الصغرى من الحصول على راتب بالعملة الأجنبية، في حين أن شقيقتي الكبرى معلمة بالتالي لم تجد أمامها سوى إعطاء دروس خصوصية للطلاب بالدولار”.
وتضيف: ” بالتأكيد ليس كل اللبنانيين قادرين على العثور على وظيفة بالعملة الأجنبية، إلا أنه لا شك أن لديهم حلولاً أخرى لتأمين حاجاتهم الأساسية بالحد الأدنى، ولولا ذلك لكنا سمعنا عن أشخاص فارقوا الحياة جوعاً، كون لا يمكن لراتب بالعملة المحلية أن يكفي شخصاً وليس عائلة”، مشددة “هي مرحلة وستمضي، فلا شيء يستمر إلى الأبد، ويبقى الأمل أن ينتهي هذا الكابوس في أسرع وقت”.
“أسلحة” المواجهة
في أكتوبر الماضي، أجرت “الدولية للمعلومات” دراسة عن الكلفة الأدنى لمعيشة أسرة لبنانية مؤلفة من 4 أفراد، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات بين السكن في القرية أو المدينة، وبين التملّك والاستئجار. وخلصت الدراسة إلى أن كلفة المعيشة تتراوح بين 20 و26 مليون ليرة شهريّاً بالحد الأدنى، وبمتوسط 23 مليون ليرة شهرياً.
أما اليوم، فإن الحد الأدنى المطلوب، بحسب ما يقوله الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين هو “29 مليون ليرة، ويشمل السكن والكهرباء والمواصلات والاتصالات والسلة الغذائية والاستهلاكية التعليم والصحة والكساء”، ويضيف في حديث إلى موقع “الحرة”، “70 بالمئة من المواطنين دخلهم أقل من هذا الرقم، وبالتالي يواجهون مشكلة في تدبير أمورهم”.
أستاذة التربية الفنية الدكتورة مها خالد، واحدة من اللبنانيين الذين لا يصل مدخولهم، كما تؤكد، إلى الرقم الذي أشار اليه شمس الدين أي 29 مليون ليرة، إذ أن راتبها اليوم خمسة ملايين ونصف المليون ليرة لبنانية، وبعد أن كان يعادل قبل الأزمة حوالي 3600 دولار، أصبح اليوم يعادل نتيجة انهيار قيمة الليرة اللبنانية حوالي 120 دولاراً على سعر دولار صيرفة في شهر فبراير، ومع ذلك كما تشدد “أستطيع تدبير أموري بهذا المبلغ الزهيد ومن بيع لوحاتي بسعر الكلفة، وما أجنيه من ساعات التعليم الإضافية القليلة، التي انخفض بدلها من 30 دولارا إلى 5 دولارات للساعة الواحدة”.
“أسلحة” عدة تلجأ إليها خالد لمواجهة المرحلة غير الطبيعية التي يمر بها لبنان، متبعة كما تقول حديث النبي محمد “ما أخاف على أمتي الفقر، ولكن أخاف عليهم سوء التدبير”، من هنا اتبعت قاعدة التقشف إلى أقصى الحدود، حيث توقفت عن شراء الكماليات، وأصبحت اعتمد على الخضار كمصدر أساسي للوجبات، اشتريها والفاكهة مساء، كونه في الصباح تكون أسعارها مرتفعة”.
تعدّ خالد “الطبخة” ليومين بدلاً من يوم واحد لتوفير الغاز، كذلك الحلويات تعدّها في المنزل، أما الأجبان فسعرها الباهظ يدفعها بحسب ما تقوله لموقع “الحرة” إلى “غض النظر عنها واقتصار الأمر على الألبان لصنع اللبنة منها، ورغم اضطراري، مثل كثير من اللبنانيين إلى تغيير عاداتنا الغذائية إلا أن ذلك لا يعني أننا لسنا سعداء، فكل ما يتم إعداده بمحبة يؤكل بسعادة أياً تكن مكوناته”.
ومن الوسائل التي يمكن اتباعها كذلك للتوفير في المصروف، بحسب خالد “تركيب نظام طاقة شمسية، وهو ما قمت به بعدما ادخرت لأشهر طويلة ثمنه، حيث يزودني بستة امبير، وتخفيف استهلاك أدوات التنظيف إلى أكثر من النصف، والتوقف عن الاستعانة بعاملة منزلية، إذ اكتشفت أنه بإمكاني القيام بهذه المهمة وحدي، وفيما يتعلق بالتنقلات، لم أعد اعتمد على سيارات الأجرة إن كان بإمكاني قطع المسافة سيراً على الأقدام، مع العلم أن انتقالي من مدينتي طرابلس إلى بيروت للتعليم يتطلب تخصيص جزء مهم من راتبي يصل إلى 600 ألف يومياً عدا التعب والارهاق”.
كل الحاجيات يمكن للإنسان التحكم بها، لكن ما هو خارج عن السيطرة والقدرة، بحسب الأستاذة الجامعية “المرض والفاتورة الاستشفائية، ففي هذه الحالة حتى من كانوا أغنياء أصبحوا الآن عاجزين عن الطبابة والاستشفاء”.
دعم وتكافل
يستند بعض اللبنانيين المقيمين في بلدهم لتأمين حاجياتهم الأساسية، بحسب ما تقوله الخبيرة الاقتصادية الدكتورة ليال منصور، على الأموال التي تصلهم من الخارج، و”كما هو معروف فإن لبنان من بين دول العالم التي يفوق عدد مواطنيه في الغربة العدد المقيم داخل وطنهم، وفي السنوات الثلاث الأخيرة ارتفعت نسبة المهاجرين حوالي 150%، مقارنة بعام 2018 كما ذكرت الدولية للمعلومات، إذ بات لكل عائلة، فرداً أو أكثر، مقيما في دولة أجنبية يساعدها مادياً من خلال ارسال الأموال لها”.
كما أن عدداً من اللبنانيين يحصلون على العملة الأجنبية، كما تشير منصور في حديث لموقع “الحرة” “من خلال عملهم في الجمعيات غير الحكومية والشركات الخاصة التي تدفع رواتب موظفيها أو جزء منها بالدولار، كما يصل إلى لبنان العديد من المساعدات الأجنبية، لكنها ليست كافية لكي يعيش اللبناني بشكل جيّد، مع العلم أن هناك عائلات لم تجد باباً للحصول على دولارات، أو أي من المساعدات المادية أو العينية، هؤلاء يعانون بكل ما للكلمة من معنى، سواء لتأمين بدلات الإيجار أو فاتورة الكهرباء أو المازوت للتدفئة، أو الطعام كي لا ينام أطفالهم ببطون خاوية”.
كلام منصور تؤكده كيّال بالقول “بعض المواطنين لا يمكنهم تأمين الطعام لولا الأموال التي تصلهم من الخارج، أو المدخرات التي بحوزتهم، ومن العائلات من يتساند أفرادها في دفع مصروف البيت الذي بات يقتصر على الأساسيات”.
وكان البنك الدولي قدّر حجم تحويلات المغتربين الوافدة إلى لبنان بـ6.8 مليار دولار في العام 2022، ليحل في المركز الثالث إقليميّاً مسبوقاً فقط من مصر والمغرب، إضافة إلى ذلك تبوّأ لبنان، بحسب تقديرات البنك الدولي، المركز الأول في المنطقة والمرتبة الثانية عالمياً، من حيث مساهمة تحويلات المغتربين في الناتج المحلي الإجمالي، التي بلغت 37.8% في العام 2022.
أدت الأزمة التي يمر بها لبنان إلى تبّدل الطبقات الاجتماعية، واتساع رقعة الفقر، بحسب كيّال “فأصحاب الدخل المحدود وكبار السن الذين فقدوا مدخراتهم، والمودعون الذين حجزت المصارف جنى عمرهم، ومن تآكلت قيمة رواتبهم التقاعدية أو تعويضات نهاية خدمتهم، ومن فقدوا وظائفهم، كل هؤلاء فرض عليهم الانضمام إلى الطبقة الفقيرة وفقدان الأمان الاجتماعي والحماية الصحية، في حين برزت فئة استفادت مما يدور في لبنان ككبار التجار والمحتكرين والعاملين في السوق السوداء للدولار، إضافة إلى أن بعض اللبنانيين لم يتأثروا بالأزمة سواء لأن رواتبهم بالعملة الأجنبية أو لأنهم رجال أعمال، وهو ما يفسّر مشهد المقاهي والمطاعم التي تغصّ بالزوار”.
المشهد في المطاعم وفي المنتجعات السياحية لا يوحي بأن لبنان يمر بأزمة، لكن الحقيقة كما تشرح منصور أن “رواد هذه الأماكن هم السواح واللبنانيون المغتربون، أو المقيمون الذين يقبضون بالدولار أو رجال وأرباب الأعمال والمصالح، ورغم الحركة الاقتصادية التي يساهمون بها، إلا أن ذلك لا يغير شيئاً من الواقع بأن لبنان يعيش انهياراً اقتصادياً، كذلك الحال فيما يتعلق بأموال المغتربين التي لا تدخل ضمن إطار التوظيف والاستثمارات، اذ جلّ هدفها تأمين متطلبات الحياة اليومية للمستفيدين منها لا أكثر”.
وتضيف “تحليل الحالة الاقتصادية لبلد ما، يستند على قدرة المواطنين من الطبقتين المتوسطة والفقيرة في تأمين حاجياتهم الأساسية من طعام وشراب وكساء وكهرباء وأقساط مدرسية وفاتورة استشفائية، وعند القيام بذلك نكتشف الحقيقة المرّة”.
الخير مستمر
رغم مخاف بعض اللبنانيين من الموت جوعاً، أو على أبواب المستشفيات، إلا أنه في كل مرة يتأكدون، كما يقول رئيس جمعية عكار الزاهر الخيرية، رئيس اتحاد روابط مخاتير عكار ومختار بلدة ببنين، زاهر الكسار، أن الخير لم ينته، والدليل أنه “بعد أربع سنوات على الأزمة الاقتصادية لا يزالون يستطيعون تأمين طعامهم والدواء والاستشفاء بفضل من الله، ومن ثم المغتربين الذين لم يتركوا أهلهم في محنتهم لا بل منهم من يقف إلى جانب بلدته وليس فقط أهله، وإذا كان بعضهم يخجل في السابق من إرسال 100 دولار كونها كانت تعادل 150 ألف ليرة، فإنه اليوم لا يجد نفسه محرجا، لا سيما وأنها باتت تعادل نحو 8 ملايين ليرة”.
ويلفت الكسار إلى الدور الأساسي الذي تلعبه وزارة الشؤون الاجتماعية “من خلال برنامجي الأسر الأكثر فقراً وأمان، اللذين يغطيان عدداً كبيراً من اللبنانيين، إذ يحصل حامل بطاقة أي من البرنامجين على مبلغ شهري قدره 20 دولار لكل فرد من أفراد الأسرة، على أن يكون الحد الأقصى للأفراد المستفيدين ستة، بالإضافة إلى مبلغ ثابت بقيمة 25 دولار للأسرة الواحدة، وقبل يومين تم صرف ثلاثة أشهر، وحصلت بعض العائلات على 450 دولار”، ويشدد “انعكس قرار وزير الشؤون الاجتماعية، هكتور حجار، بتمديد الدفع لحاملي هذه البطاقة ستة أشهر إضافية، ارتياحاً كبيراً لدى المستفيدين منها”.
كما تلعب بعض الجمعيات والمنظمات الدولية ،كما يقول مختار ببنين “دوراً في صمود بعض اللبنانيين في ظل الوضع الصعب الذي يمرون به، وذلك من خلال التقديمات العينية والمساعدات الاستشفائية وغيرها، وكمختار أقوم بدور صلة الوصل بين المواطنين ومختلف الوزارات والمنظمات الدولية والجهات المانحة، حيث أنسق معها لتأمين المساعدات لأكبر قدر ممكن من العائلات، أما الأشخاص الذين لم يجدوا طريقاً إلى أي من أبواب الدعم هذه، فإن هناك الكثيرين من الخيّرين الذين لا يتوانون عن مد يد المساعدة لكل محتاج”.
ومطلع الشهر الجاري، أشار بيان صادر عن المكتب الإعلامي للوزير حجار إلى أنه “بعدما وصل عدد الأسر اللبنانية المستفيدة من برنامج أمان خلال العام 2022 إلى 76,000 أسرة تستفيد من مساعدة مالية نقدية بالدولار شهرياً لمدة سنة كاملة، ونظراً إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، ونتيجة للعمل الذي قمنا به بالتنسيق مع وزير المالية، مجموعة البنك الدولي، برنامج الأغذية العالمي والوحدة المركزية لإدارة “برنامج أمان” في رئاسة مجلس الوزراء، وبعد موافقة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، سيتم تمديد الاستفادة لهذه الأسر لمدة 6 أشهر إضافية”، وإضافة إلى التجديد للمستفيدين القدامى، “سيستهدف البرنامج 74,000 أسرة جديدة”.
سنوات عجاف.. ستمر
كيفية تأمين اللبناني لحاجياته لغز، كما يصف الناشط طارق أمون، لافتاً إلى أنه “كلما سألت أحداً من أبناء بلدتي إيزال في الضنية شمال لبنان، عن المبلغ الذي يحتاجه شهرياً لتأمين قوت يوم عائلته، يجيب مالا يقل عن 30 مليون ليرة، وحين أحاول الاستفسار عن كيفية تأمين هذا المبلغ يكون الجواب، لا أعلم الله يرزق، لا بل ويطرح البركة كذلك”.
حلّ هذا “اللغز”، كما يصفه أمون هو “البطاقة التي توفرها وزارة الشؤون والحصة الغذائية التي توزعها احدى الجمعيات شهرياً منذ سنتين ونصف السنة، وهي تكفي لعدة عائلات وليس لعائلة واحدة، بالتالي هناك من يقومون ببيع حصصهم بمئة دولار، ما يعني أن سعرها الأساسي يفوق ذلك بكثير، من دون أن ننسى دور المغتربين، فلا يوجد عائلة في إيزال ليس لديها مغترب، وأنا على سبيل المثال لدي أربعة أشقاء خارج البلاد”.
ولا يجب أن ننسى، بحسب ما يقول الناشط الاجتماعي زيادة رواتب موظفي الإدارات العامة، بعد تطبيق قانون الموازنة العامة للعام 2022، الذي ينص في مادته 111 على “إعطاء زيادة للعاملين في القطاع العام وللمتقاعدين، ضعفي أساس الراتب الشهري أو أساس الأجر، سواء كان يومياً أو بالساعة أو أساس المعاش التقاعدي من دون أية زيادة مهما كان نوعها أو تسميتها، على ألا يقلّ إجمالي ما يتقاضاه المستفيد، بما فيه راتبه الاساسي، عن خمسة ملايين ليرة، وعلى ألا تزيد قيمة هذه الزيادة مهما بلغ أساس الراتب عن 12 مليون ليرة لبنانية، وهي لا تدخل ضمن المبالغ الخاضعة لاحتساب تعويض نهاية الخدمة”.
ومن الحلول التي لجأ إليها البعض لتسيير وضعه، بحسب أمون “بيع قطعة أرض أو حتى لوحة سيارته العمومية وإكمال عمله على سيارة الأجرة من دونها، كما ان عدداً كبيراً من أبناء البلدة وجدوا في الحرج مصدراً للمال من خلال قطع الأشجار وبيعها حطباً”، ويضيف “بلدتنا مشهورة بزراعة التبغ الذي يباع بالدولار، وبالتالي لا يتأثر المزارعون بارتفاع وانخفاض سعر الصرف في السوق السوداء، كذلك الحال فيما يتعلق بالرعاة الذين يبيعون الماعز والغنم والأبقار بالعملة الأجنبية”.
أما فيما يتعلق بالفاتورة الاستشفائية التي تشكل هاجساً كبيراً للبنانيين، فإن للمغتربين دور كبير، بحسب أمون “في مساعدة المرضى، لا سيما بعد عرض الحالات على وسائل التواصل الاجتماعي”.
هي سنوات عجاف بحسب ما تصف خالد، لكن “بالتأكيد ستتبعها سنوات بحبوحة ورخاء. المطلوب منا الصبر قدر المستطاع، وهي ميزة اللبناني المعروف بالتأقلم مع مختلف الظروف، وقدرته على إيجاد البدائل وتكافله في أيام الشدائد”.
أسرار شبارو – الحرة