سلوى بعلبكي – النهار
أخطأ منجّمو السياسة والاقتصاد في لبنان بإصابة أهدافهم، فأصابت تنبؤاتهم الافلاسية عن المصارف اللبنانية، مصرفين أميركيين “سيليكون فالي بنك” و”بنك سيغنتشر”.
ولكن في بلاد العمّ سام، تتحرك الدولة، بأجهزتها المالية والنقدية والفيديرالية والتشريعية، قبل تمدد الكارثة واستعصائها على الحل، لاحتواء تداعياتها وحماية ما تبقّى، والبدء الفوري بإجراء تحقيق مالي قضائي لتحديد المسؤوليات والخسائر. والأهم من ذلك كله، اجراء تقييم وتشريح معمّق وشفاف للأسباب الحقيقية التي أدت الى نشوء الازمة، واستكشاف الخلل والثغرات في القوانين أو القرارات التي تراكمت، فأضعفت مناعة المصارف “المتعثرة” وتسببت بهزة مالية مصرفية “موضعية” كادت أن تتحول الى زلزال “لبنانيّ الشبه” لولا عناية القانون، وصرامة مطبّقيه، ووحدة المرجعية.
هناك يسود القانون، والقرار جريء وعملي وسريع، حيث لا تداخل مصلحي بين أهل القرار في الدولة والمال، فيما المصالح السياسية والحزبية والطائفية والمذهبية لا دور لها أمام مصالح الناس والمودعين.
عمرُ إعلان أزمة “سيليكون فالي بنك” أسبوع واحد، اتُّخذت خلاله قرارات حاسمة. وُضعت الحراسة القضائية عليه، تحت مؤسسة التأمين على الودائع الفيديرالية FDIC وبوشر الإعداد لإعادة جميع الودائع المؤمّنة إلى أصحابها، وسيدفع للمودعين غير المؤمَّن عليهم دفعة مقدماً. وبدأ البحث عن شارٍ أو مصرف دامج، يعيد تعويم البنك وإطلاقه من جديد، مع وعود مرجحة من السلطات النقدية الفيديرالية، بتقديم حوافز وضمانات مغرية لمن يرغب. أما “بنك سيغنتشر” فأعلنت إدارة الخدمات المالية في ولاية نيويورك أنها استحوذت عليه، وألحقت صفة “المستلم” بالمؤسسة الفيديرالية للتأمين على الودائع.
هذا في أميركا، أما في وطن الأرز، فالأزمة تعدّت سنواتها الثلاث، ولا يزال “جهابذة” السلطة ومصادرو كراسيها، يبحثون في جنس ملائكة الودائع، وحجم الخسائر، ويتراشقون في تحميل المسؤوليات. أما المطلوب فلم يكن يحتاج الى أكثر من بضعة اجتماعات مشتركة بين المعنيين في الدولة والمصرف المركزي والمصارف، في الاسبوع الاول من بدء الازمة. اجتماعات لاتخاذ قرارات جريئة تحمي المليارات الثلاثين التي كانت لا تزال متبقية في خزائن مصرف لبنان، قبل وهبها للمهربين وعرّابيهم، عبر الدعم المشؤوم، وإقرار “كابيتال كونترول”، والبدء بهيكلة القطاع المصرفي، وتوحيد سعر الصرف لحماية الحقوق، وانتظام المسار المالي والضريبي، وتسديد القروض.
في لبنان السلطة وأهلها بعكس “الاخوة الأميركان”. عندنا يتنبأون بإفلاس القطاع المصرفي، ويندر أن يمر يوم لا يعرض فيه “مسؤول” ما في السلطة أو خارجها، عضلات “فهمه” في السياسات المالية والنقدية، مشيعاً الأخبار والتحليلات و”التغريدات” المفلسة، عن قرب الإنهيار الكبير للقطاع المصرفي، وضياع الودائع، في حين أن المطلوب دحض الأقوال بالأفعال لإنقاذ ما تبقّى عبر إقرار سريع لحزمة قوانين في مقدمها “الكابيتال كونترول”، لحماية الودائع والمصارف المتلازمة حياتهما أو موتهما.
ما أشيع أخيرا، وما أكدته مصادر في مصرف لبنان لـ”النهار”، أن ثمة مستثمرين متنوّعي الهويات والجنسيات، بينهم لبنانيون وعرب وأجانب، أبدوا رغبتهم في تقديم طلبات لإنشاء مصارف جديدة، لا يعدو كونه تأكيدا للمؤكد. فالكلام يثبت أن مشروع إنشاء خمسة مصارف جديدة على أنقاض القطاع المصرفي برمّته، لا يزال ساري الحلم والمفعول، وأن الساعين إلى تحقيقه لم تثبط عزيمتهم بعد، وينتظرون الظروف والفرصة المؤاتية لإعادة تفعيل طموحهم. وفي المعلومات أن المطلوب في الوقت الحاضر الإستحصال على 3 رخص مصرفية جديدة من أصل 5 وفق المشروع، أو خلق 3 مصارف كبرى يتشكل كل واحد منها عبر تملّك مجموعة مصارف دفعة واحدة، ودمجها في مصرف واحد. والمصرفان المتبقيان يجري البحث في إنشائهما بعد البت بمصير تشريع “القرض الحسن” لاستكمال التوزع المذهبي والطائفي للمصارف العتيدة.
وتؤكد المصادر أن “ثمة مستثمرين أبدوا رغبتهم في تقديم طلبات لمصارف جديدة، كما اطّلع بعضهم على الشروط المطلوبة، ومنهم مَن يفكر في الاستثمار في مصارف رقمية كونه تعاملا مصرفيا متطورا غير تقليدي. وفيما يتنوع هؤلاء بين لبنانيين وعرب وأجانب، بيد انه حتى الآن ليست هناك طلبات رسمية جدية يجري البتّ بها”. وإذ أعربت المصادر عن اعتقادها أن “هؤلاء يعوّلون على الهيكلية الجديدة للمصارف، حيث ستخرج بعض المصارف في حين ستُدمج أخرى مع غيرها”، قالت: “يمكن انشاء مصارف جديدة من خلال تملّك مصارف قديمة، أي شراء رخصة قائمة، أو الحصول على رخصة جديدة”. وإذا كان البعض يتردد في تملّك مصرف متعثّر تخوفاً من سمعته، فإن المصادر تؤكد أن “الشاري الجديد سيقلب الادارة رأساً على عقب على أن تكون جديدة كليا، وهذا الامر ينطوي على ايجابية اعادة رسملة المصرف المعني”، متوقعة أن يبدأ المهتمون بتقديم طلباتهم قريبا، “خصوصا ان العملية تحتاج الى بعض الوقت، إذ إنه ما بين تقديم الطلب واعطاء الرخصة وبدء العمل رسميا يحتاج الامر أقله الى ما بين 6 أشهر وسنة”.
وفي انتظار انقشاع الرؤية، ثمة أسئلة عن أوجه التشابه بين افلاس مصرفين أميركيين والازمة المصرفية اللبنانية. مصادر مصرفية متابعة توضح ان ثمة فارقاً مهماً هو أن الحكومة الاميركية لم تفلس، واقتصرت الازمة على إعلان مصرف إفلاسه من دون أي تداعيات على الحكومة الفيديرالية للولايات المتحدة الأميركية. أما الأزمة الإقتصادية اللبنانية فشملت تداعياتها مفاصل الدولة كافة، في الوقت الذي تخلفت الحكومة اللبنانية في العام 2020 عن سداد سندات “اليوروبوندز”.
وأشارت المصادر الى أن “المؤسسة الفيديرالية للتأمين على الودائع في أميركا تحمي عادة الودائع التي تصل قيمتها إلى حدود 250 ألف دولار. أي أن كل حساب لا يتجاوز المبلغ المذكور يكون مضمونا. كذلك الأمر في حالة الحسابات المشتركة، أي على سبيل المثال، إذا كان المودع يملك حسابات عدة في المصرف عينه وكان لديه حساب مشترك مع غيره من الاشخاص في حدود 500 ألف دولار، يحصل كل منهما على 250 ألف دولار إلى جانب حصوله على المبلغ عينه في حال امتلاكه حسابا خاصا به”. بَيد أن المعادلة تلك تختلف في لبنان، إذ إن المودع الذي يملك حسابات عدة في مصرف لبناني معيّن، يحصل على سبيل المثال على مبلغ بقيمة 75 مليون ليرة وليس القيمة عينها على كل حساب.
أما عن إمكان إفلاس المصارف اللبنانية، فتستبعد المصادر نفسها هذا الأمر، “انطلاقا من خطر ملاحقة موجودات وأصول أعضاء مجلس الإدارة والمساهمين”. ووفقا لها فإن “الأموال الخاصة للمصارف سلبية مع الاخذ في الاعتبار أنها تملك لدى مصرف لبنان ودائع تتجاوز 80 مليار دولار، وتاليا فإن السؤال هو عن حجم الاموال التي سيردّها مصرف لبنان للمصارف”.
وإذ تؤكد المصادر حق محكمة الإفلاس في التدخل تلقائيا في حالة إفلاس المصارف، ووضعها اليد على أموال أعضاء مجلس الإدارة، المنقولة منها وغير المنقولة، توضح أنه في حالة إعلان المصرف إفلاسه، يحق للمحكمة وضع اليد والتصرف بكل العقارات التي تم بيعها خلال 18 شهرا. أما في حال الشك في ان الافلاس “احتيالي” وان المصرف باع عقاراته وممتلكاته قبل 18 شهرا، فإن المحكمة تحقق في الممتلكات التي بيعت قبل سنة ونصف سنة ويمكن ان تضع اليد عليها. ولكن في كل الاحوال تستبعد المصادر أن تعلن مصارف لبنان افلاسها.
ماذا عن آلية الافلاس؟ تشير المصادر إلى وجود آليتين لإعلان المصارف إفلاسها: الأولى عبر القانون 110 الذي ينص على مواد عدة أبرزها المادة 17 المنصوصة على التصفية الذاتية التي تنطبق حاليا على مصارف البنك اللبناني البرازيلي وبنك ادكوم وجمّال ترست بنك. إلا أن التصفية الذاتية لا تتم إلا وفق توافر شرط وجود توازن بين موجودات المصرف ومطلوباته، على أن تغطي موجوداته بعد تصفيتها الودائع، وذلك بعد حصول الجمعية العمومية للمودعين على موافقة مصرف لبنان.
الآلية الثانية عبر القانون 2/67 أي في حال توقف المصرف عن السداد للمودعين على خلفية عدم توافر السيولة لديه، يحق للمودع بموجب القانون اللجوء إلى محكمة الإفلاس. كما يمكن للمصرف اللجوء من تلقاء نفسه بموجب هذا القانون إلى محكمة الإفلاس التي تعيّن مديرا موقتا لمحاولة معالجة الوضع. وفي حال فشله يتم اللجوء إلى التصفية الذاتية، ولكن بإشراف محكمة الإفلاس وليس مصرف لبنان كما هي الحال مع القانون 110.
هل تكرّ سبحة الافلاسات الاميركية؟
وفيما يعتقد البعض أن سبحة افلاس المصارف الاميركية ستكرّ، أكد خبير المخاطر المصرفية والباحث في الإقتصاد محمد فحيلي، أنه “في حال ستنتقل العدوى الى مصارف أميركية أخرى، فإنها ستكون في اتجاه المصارف المتخصصة بالشركات الناشئة التي تُعنى بالتكنولوجيا أو بالعملات الرقمية، إذ بات واضحا أن كل النشاطات التي تتعلق بالعملة الرقمية أو تمويلها أو بالنشاطات التكنولوجية الرقمية تعاني الكثير من المشكلات راهنا، فيما ستدفع المصارف التي تموّلها الثمن. مع اعتقادي أن قرارات البنك الفيديرالي ستكون سريعة جدا بوضع اليد على المصرف للحد من امكان انتشار العدوى الى مصارف أخرى غير متخصصة”.
Follow Us: