أثار إعلان الأمين العام لجمعية مصارف لبنان، فادي خلف، عدم توفّر سيولة نقدية لدى المصارف قلق اللبنانيين لاسيما المودعين الذين ينتظرون الإفراج عن مدخراتهم المحجوزة، ودفعهم إلى طرح علامات استفهام فيما إن كان كلامه مقدمة لإعلان إفلاس المصارف وما الذي سيترتب عن ذلك.
كلام خلف جاء ضمن مقالته الافتتاحية في النشرة الدورية لجمعية مصارف لبنان، حيث شرح أن “ودائع المصارف لدى مصرف لبنان بلغت ما يقارب 86.6 مليار دولار في منتصف شهر شباط بحسب ميزانية مصرف لبنان، أما ودائع المصارف لدى المصارف المراسلة فبلغت رصيدا سلبيا وقدره 204 مليون دولار في 31 يناير 2023. إذ أن التزامات المصارف اللبنانية تجاه المصارف المراسلة بلغت 4،369 مليون دولار، فيما ودائعها بلغت 4،165 مليون دولار”.
وأضاف “محفظة اليورو بوند والتي أعلنت الدولة عن التوقف عن سدادها منذ مارس 2020 أصبحت قيمتها بعد تنزيل المؤونات 2.900 مليار دولار، أما تسليفات المصارف للقطاع الخاص بالعملات الأجنبية تدنت إلى 9.785 مليار دولار في 31 يناير 2023”.
وخلص خلف إلى أن “هذه الأرقام تبين بما لا يقبل الشك بأن لا سيولة لدى المصارف، أكان من ناحية ودائعها بالدولار المحلي لدى مصرف لبنان وهي غير قابلة للسحب نقداً أو التحويل إلى الخارج، سواء من ناحية أرصدتها السلبية لدى المصارف الأجنبية أو لناحية محفظتها من اليورو بوند غير القابلة للتسييل إلا بما يناهز 6% من أصل السعر”.
قبل أن يتلقف اللبنانيون الصدمة التي أحدثها خلف، أعلنت جمعية مصارف لبنان، عودتها للإضراب المفتوح الذي دخل حيز التنفيذ في الأمس، وذلك اعتراضاً على القرارات القضائية “التعسفية” بحقها والتي “تكيل بمكيالين”.
وأشارت الجمعية في بيان إلى أن “المصارف لم تترك وسيلة قضائية للمطالبة بتصحيح الخلل إلا وسلكتها، إنما دون جدوى. بل على العكس، فإن بعض القرارات القضائية الانتقامية زادت وزادت من خطورتها، وقد وصلت إلى حد الحجز على موجودات المصارف، ناهيك عن التدابير الجائرة في حق القيمين عليه”.
تتزامن البلبلة التي أحدثتها المصارف، مع كسر سعر صرف الدولار في السوق السوداء حاجز الـ 100 ألف ليرة، ومع استئناف التحقيق الأوروبي مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي كان مقرراً اليوم، لكن سلامة تغيّب عن جلسة الاستجواب، فيما حضر القضاة الأوروبيين وقاضي التحقيق الأول في بيروت شربل أبو سمرا، ورئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل القاضية هيلانة إسكندر.
وتقدمت الدولة اللبنانية، ممثلة برئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل، القاضية هيلانة اسكندر، بادعاء شخصي في حق سلامة وشقيقه رجا، وماريان مجيد الحويك، وكل من يظهره التحقيق، بجرائم الرشوة والتزوير واستعمال المزوّر وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتهرب الضريبي، وطلبت توقيفهم وحجز أملاكهم العقارية وتجميد حساباتهم المصرفية وحسابات أزواجهم وأولادهم القاصرين لمنعهم من التصرف بها حفاظا على حقوق الدولة اللبنانية، وإصدار القرار الظني في حقهم تمهيدا لمحاكمتهم أمام محكمة الجنايات في بيروت لإنزال أشد العقوبات في حقهم لخطورة الجرائم المدعى بها في حقهم، محتفظة بحق تحديد التعويضات الشخصية أمام محكمة الأساس”.
ومنذ خريف 2019 تفرض المصارف اللبنانية “طوقاً حديدياً” على الودائع، محددة سقفاً للسحوبات المالية لاسيما بالدولار الأميركي، وهو ما دفع بعدد من المودعين إلى محاولة تحصيل حقوقهم إما بالقوة عبر اقتحام المصارف أو من خلال سلك الطرق القانونية عبر رفع دعاوى أمام المحاكم المحلية والدولية، حيث نجح بعضهم باسترداد ودائعهم.
إفلاس عملي
يخشى المودعون من أن تعلن المصارف اللبنانية افلاسها على الرغم من أنها أن “مفلسة عملياً كونها متوقفة عن الدفع، وإن كانت غير مفلسة قانونياً” بحسب ما يقوله الخبير الاقتصادي منير يونس، ويشرح في حديث لموقع “الحرة” أن “إفلاس المصارف نوعان، عملي وقانوني، الإفلاس الاخير يتطلب إما رفع دعوى إفلاس من قبل المودعين على المصرف وهذه القضايا يتم إيقافها لعدم تسريع الانهيار المصرفي، أو أن يعلن المصرف إفلاسه بنفسه”.
عدة دعاوى تم رفعها على المصارف اللبنانية من قبل المودعين، والشهر الماضي اعتبر رجل الأعمال الإماراتي، خلف الحبتور، “استمرار احتجاز أموال المودعين في لبنان قرصنة مستباحة لأرزاق الناس من قبل مصرفيين فاسدين ومتواطئين معهم حللوا لأنفسهم هذا النهب”، مشيراً إلى أنه “نقوم حالياً بتجهيز ملف دعوى جماعية مع مكاتب قانونية عالمية لمقاضاة كل المتورطين بهذه الجريمة. وإن لم يتحقق الحق من الداخل، سنسعى لتحقيقه بكل السبل القانونية المتاحة”.
وسبق رجل الأعمال الأردني، طلال أبو غزالة، الحبتور في اتخاذ قرار رفع دعوى جماعية ضد المصارف اللبنانية، وذلك بعد تكليفه من قبل جمعية “صرخة المودعين” و”الجبهة الموحدة للمودعين”.
وفيما إن كانت المصارف اللبنانية ستصل إلى مرحلة الإفلاس القانوني أجاب يونس “يمكن ذلك إذا حكم عليها وفقا للقانون 2 / 67، لاسيما وان جهات عدة رفعت دعاوى استناداً على هذا القانون من نقابات المهن الحرة ونقابة المحامين”.
يخضع لأحكام القانون 2 / 67، الصادر في العام 1967، كل مصرف عامل في لبنان يتوقف عن الدفع، وتنص المادة الثانية من القانون على أنه “فور ثبوت توقف أحد المصارف عن الدفع يترتب على حاكم مصرف لبنان ان يطلب من المحكمة المختصة تطبيق احكام هذا القانون على المصرف المذكور، ويعلم بذلك وزيري العدل والمال”.
ولتطبيق أحكام الفقرة السابقة يعتبر المصرف متوقفاً عن الدفع “إذا أعلن بنفسه توقفه عن الدفع، إذا لم يسدد ديناً مترتباً عليه لمصرف لبنان عند استحقاقه، إذا سحب شيكاً على مصرف لبنان بدون مؤونة كافية، وإذا لم يؤمّن المؤونة الكافية لتغطية رصيد مدين ناتج عن عمليات غرفة المقاصة”.
أصبح من الضرورة الملحة بحسب ما جاء في بيان جمعية المصارف “ان تتحمل السلطات الرسمية من تنفيذية ونقدية وقضائية وتشريعية مسؤوليتها بإيجاد حل شامل لأزمة نظامية عبر إصدار قواعد عامة ملزمة للجميع لا تقتصر على مصارف معيّنة ولا حتى على جميع المصارف، بل تطال كل القطاع المالي وتمس ايضا المودعين”.
وطالبت باتخاذ التدابير القانونية السريعة لوضع حد للخلل “في اعتماد معايير متناقضة في اصدار بعض الاحكام التي تستنزف ما بقي من أموال تعود لجميع المودعين وليس لبعضهم على حساب الآخرين، ولمعالجة هذه الازمة بشكل عقلاني وعادل ونهائي، تتحمل فيه الدولة بصورة خاصة مسؤوليتها في هذا المجال”.
ورداً على سؤال إلى أين تتجه المصارف في لبنان، يجيب يونس “هي حالياً في مرحلة الضغط على الحكومة والمجلس النيابي للوصول الى صيغة تتحمل من خلالها الدولة الجزء الأكبر من الخسائر التي تبلغ قيمتها 77 مليار دولار، إذا نجحت في ذلك عندها ستحافظ نسبياً على وضعها وستستمر وإن بصعوبة، وإلا سنشهد إفلاسات متتالية في القطاع المصرفي من الآن حتى نهاية العام”.
لكن من أي ستأتي السلطة السياسية بكل هذه المليارات؟ عن ذلك يشرح يونس “هناك حديث عن استخدام أصول الدولة، ما يعني استخدام أصول كل اللبنانيين لفئة معينة منهم وهذا اجراء غير دستوري”.
خطوة مستبعدة
لا يخشى خبير المخاطر المصرفية والباحث الاقتصادي الدكتور محمد فحيلي من اعلان مصارف لبنانية إفلاسها، لا بل يعتبرها خطوة جيدة وشجاعة وإن كان يستبعدها كون القائمون على المصارف “جبناء”.
ويشرح في حديث لموقع “الحرة” أن “من إيجابيات إعلان الإفلاس فرز المصارف بين من لديه القدرة على الاستمرار وخدمة الاقتصاد ومن يجب توقفه عن العمل، وذلك كخطوة أولى لمعالجة المشكلة بطريقة صحيحة، كما أنه عند إعلان إفلاس أي مصرف تضع السلطة النقدية يدها عليه وتسييل موجوداته لدفع أموال المودعين، كما حصل مع بنك المدينة، حيث تم دفع أصل الودائع أي من دون فوائد وإن استغرق ذلك ما بين خمس إلى سبع سنوات”.
كذلك يطمئن محامي “جمعية المودعين” ورئيس جمعية “الشعب يريد إصلاح النظام”، حسن بزي، المودعين بأن المصارف اللبنانية غير مفلسة، وإن كانت كما يقول “تمر بمرحلة خطر مالي لاسيما تلك التي دخلت في الهندسات المالية لمصرف لبنان وحصلت على قرض التسعة مليار دولار سنة 2019، هذه المصارف رفعنا دعاوى قضائية ضدها وتمكنّا من وضع إشارة منع تصرف على أملاكها والأملاك الشخصية لرؤساء وأعضاء مجالس ادارتها”.
ويضيف “تملك المصارف اللبنانية عقارات تقدّر قيمتها بين خمسة إلى ستة مليارات دولار، من يملك هذا المبلغ لا يمكن ان يكون مفلساً، بل باستطاعته سداد ديون حوالي 85% من ودائع صغار المودعين، أما الاشكالية فتكمن بالودائع الكبرى التي يمتلكها بين 15 و20% من المودعين”، مشيراً إلى أنه “شهرياً يطبع المصرف المركزي 5000 مليار ليرة ما يدحض كل حديث عن عدم توفر سيولة لدى المصارف”.
ايحاءات إفلاس المصارف يضعها بزي في خانة التهويل وتحدي القضاء والضغط عليه، مستبعداً أن يعلن أي مصرف افلاسه كون “العواقب الجزائية ستكون وخيمة على إدارته، كما أن إشاعة هكذا خبر قد يؤدي إلى ملاحقة المصرف بجرم الإفلاس الاحتيالي الذي تصل عقوبة أعضاء مجالس ادارته إلى سبع سنوات أشغال شاقة”.
وعن تداعيات إعلان إفلاس اي مصرف، يشرح يونس “يتم تعيين لجنة مؤقتة من جهة مصرف لبنان لإدارته، والطلب من جهة مصرفية أخرى شرائه أو يتم دمجه مع مصرف آخر أو ضخ أموال اليه من مساهمين جدد، وإذا لم تتاح أي من هذه الخيارات عندها يتجه المصرف إلى التصفية، التي تعني اجراء جرد كامل لما تبقى من موجوداته وبيعها في المزاد العلني وتوزيع الحصيلة على المودعين، وفي هذه الحالة سيحصلون على نسبة منخفضة مقارنة بودائعهم الأصلية”.
إيضاح خادع
حاولت جمعية مصارف لبنان خداع اللبنانيين عند تعريفها للسيولة في المقال الافتتاحي لتقريرها الشهري، كما يشير فحيلي “حيث شرحت أين وظفت أموال المودعين، من دون أن توضّح فيما إن قيّمت بشكل جدي وموضوعي وشفاف وشامل مخاطر هذه التوظيفات التي هي سندات دين سيادية للدولة اللبنانية”.
ويضيف “أخطأت المصارف كونها وظّفت أموال المودعين لدى مصرف لبنان الذي وضع هذه التوظيفات بين أيدي السلطة السياسية المتهمة من كل اللبنانيين والأسرة الدولية بالفساد، لا بل حتى جمعية المصارف بلسان رئيسها الدكتور فرنسوا باسيل اتهم هذه السلطة بعدم قدرتها على الاستدامة بالدين، ورغم ذلك استمر توظيف الأموال في الديون السيادية”.
من اهم اسباب توظيف المصارف لأموال المودعين في الديون السيادية بحسب خبير المخاطر المصرفية “استقطابها الودائع بوتيرة أسرع بكثير من قدرتها على التصرف المسؤول والصحيح بها، أي تسليفها للقطاع الخاص لتمويل الإنتاج والنمو الاقتصادي، حيث وصل حجم الودائع في القطاع المصرفي إلى 170 مليار دولار في وقت كان حجم الاقتصاد الوطني 55 مليار دولار، هذا الفائض من السيولة لم يكن بالإمكان توظيفه في الاقتصاد لذلك وظّف بيد السياسيين الذين لا يؤتمنوا على مال، ما شجعهم على ضرب الحوكمة الرشيدة لإدارة المال العام بعرض الحائط، ولهذا السبب لم يبذلوا أي جهد لإنتاج موازنة متوازنة بل ذهبوا باتجاه الهدر واللامسوؤلية”.
سبق أن أكد المقرر الخاص للأمم المتحدة، المعني بمسألة الفقر المدقع وحقوق الإنسان أوليفييه دي شوتر، بعد زيارته لبنان في نوفمبر 2021، أن السلطة اللبنانية والمصرف المركزي مسؤولان عن أزمة مالية غير مسبوقة أدت الى “إفقار غير ضروري” لغالبية السكان الذين يتخبطون لتأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم”.
دفع فقدان الثقة بالمنظومة المصرفية والقطاع المالي اللبناني بشكل عام، المودعين كما يقول فحيلي “الى طلب سيولة نقدية سواء بالعملة المحلية أو بالدولار، حيث أصبحت وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي أي بطاقات الدفع والائتمان والشيكات والتحويلات غير مقبولة من قبل كل مكونات الاقتصاد الذين يصرّون على التعامل بالأوراق النقدية”.
رغم طباعة المصرف المركزي للأوراق النقدية بالعملة اللبنانية إلا أن السيولة بحسب فحيلي “مفقودة”، ويشرح “كلما طبع أوراقاً نقدية لكي يلبي الطلب عليها يواجه ضغوطات تضخمية تدفعه إلى طباعة المزيد، في حين ليس لديه القدرة على طباعة الدولارات، لذلك يلجأ إلى اصدار التعاميم التي تسهّل عملية شرائه العملة الخضراء من السوق الموازية، الا أن زيادة الطلب عليها يؤدي إلى ارتفاع سعرها، ما ينعكس سلباً على قدرة المواطن الاستهلاكية وقدرة المؤسسات على تمويل المصاريف التشغيلية”.
يتأسف خبير المخاطر المصرفية انه “بعد مرور أربع سنوات على أزمة القطاع المصرفي لم تتخذ السلطات اللبنانية المختصة أي خطوة لمعالجتها، على عكس ما شاهدناه في أميركا بعد إعلان افلاس مصرف سيليكون فالي، حيث اتخذت وزارة الخزانة الأميركية والاحتياطي الفيدرالي ومؤسسة تأمين الودائع وإدارة الرئيس جو بايدن إجراءات سريعة ضمنت من خلالها ودائع المودعين، ما حال دون تكرار الأزمة المالية لعامي 2007 و2009، في حين أن السلطة اللبنانية لا تريد أن تحرّك ساكناً، ما يعني أننا مستمرون في الانهيار أكثر فأكثر”.
أسرار شبارو – الحرة