محمد ناصرالدين
«قد يتَّسعُ الوقت، قد… حتى ينمو الأبدُ وئيداً في جسدي، لكن… هل من غفران يُرجى؟ إذ تنفلتين، مراوغةً موغلةً، تشتعلين على حدّ الحلم الناري، فينفلتَ الزمن دخاناً وتراباً، تنحدر صخور الوقت إلى الهاوية، وتنفلتين، فينفلت الأبد المائي إلى جسدك المنهوك صراخاً وعويلاً مجنوناً. وتراوغين. فهل أخلعُ جسدي عني؟ أم يمتد الأبد المائي وئيداً دون عناء؟ لا شيء إذن… لا شيء» . بهذا الشعور بالنهاية والجسد المنهك من القتال مع المرض، ودّع الشاعر المصري رفعت سلّام (١٩٥١-٢٠٢٠) قرّاءه ومريديه: إنه الشاعر الذي يُشبه شعره، هذا أول ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر أحد أبرز شعراء الجيل الجديد للقصيدة المصرية في السبعينيات من القرن الماضي، وصاحب الرؤية الخلاقة في قصيدة النثر والدراسات والترجمة. استشعر رفعت سلام مبكراً حاجة المكتبة العربية إلى ترجمة الأعمال الكاملة لأقطاب الحداثة الشعرية العالمية، فابتدأ بمشروع «رباعي» استغرق عقدين من الزمن أنجز خلاله ترجمة والت وايتمان في «أوراق العشب» (٢٠١٧)، والأعمال الكاملة لكافافيس (٢٠١١) ورامبو (٢٠١٢) وبودلير (٢٠١٥). إذ برأي سلام «كنت مدركاً لقيمتهم الفادحة في الشعرية الحداثية، وأن لا حداثة شعرية في العالم بدونهم… وقد تمّ الإنجاز بالطريقة التي أنجز بها عملاً شعريّاً: خطوةً خطوة؛ وكل خطوة توحي لي بالخطوة التالية، الجزئية، فالخطوة التالية الجزئية، ضمن سياق متسق، بلا تضارب ولا عشوائية، محكوماً بحدس ولا وعي بصير… إلى أن انتهيت من أعمال رامبو (العمل الثالث في السلسلة). وقتها، اتخذت قرار الشروع في «أوراق العشب» لوالت ويتمان لاستكمال الرباعية. فهو المقابل- في اللغة الإنكليزية- لحداثة بودلير ونزعته التأسيسية. فعكفت عليه لسنوات، بمعدل 12 ساعة عمل في اليوم، شأن جميع الأعمال السابقة، لاختصار الزمن، وسرعة الإنجاز». لا ننسى أيضاً إسهامات سلام الكبيرة في نقل أعمال عظيمة لبوشكين في «الغجر» (١٩٨٢) و لماياكوفسكي في «غيمة في بنطلون» (١٩٨٥) وللشاعر اليوناني يانيس ريتسوس إلى العربية ومنها «اللذة الأولى» (١٩٩٢) و«البعيد» (١٩٩٧) و«سوناتا في ضوء القمر» و«أرعى الشياه على المياه» التي حرص سلام على إصدارها بحلّة جديدة عن دار «خطوط» الأردنية هذا العام. كما تُحسب له إسهاماته في مراجعة الكتاب التأسيسي لسوزان برنار (قصيدة النثر من بودلير حتى الآن) الذي طبعته «دار شرقيات» أولاً عام ١٩٩٨ ليصدر بجهد من سلام بطبعة جديدة هذا العام أيضاً عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة» في مصر، إضافة إلى دراسات مهمة أبرزها «المسرح الشعري العربي» (١٩٨٦)، و«بحثاً عن التراث العربي، نظرة نقدية منهجية» (١٩٩٠)، و«بحثاً عن الشعر» (٢٠١٠).
انتصر سلام لقصيدة النثر، وعانى كثيراً مع كوكبة من شعراء السبعينيات في غرسها في البيئة الشعرية المحافظة، فكرّت سلسلة المؤلفات الشعرية التي حرص في فترة صراعه مع المرض وعبر نداء مدوٍّ على صفحته على الفايسبوك على جمعها في «الأعمال الكاملة» ونذكر منها: «وردة الفوضى الجميلة» و«هكذا قلت للهاوية» و«حجر يطفو على الماء» و«هكذا تكلم الكركدن». انحياز سلام للقصيدة النثرية قابله أيضاً تعصبه لأعلى معايير الإبداع في كتابتها، إذ خاف عليها من الاستسهال والتنميط، «فالقصيدة النمطية هي قصيدة الشاعر «المديوكر» (وما أكثرهم!)، قصير التيلة. بائس الخيال والقدرات الشعرية. قصيدة سهلة المنال (بالنسبة إلى الشاعر والقارئ)، قصيرة العمر، بلا إضافة أو إبداع، لكن انتشارها على سطح الحياة الثقافية يوهم برسوخها، فيغوي أصواتاً جديدة كسولة، لتنضم إلى القطيع». برحيل رفعت سلام نفتقد الصوت العذب الذي يخاطب الموت عبر الوردة: «وفي صباح الموت، تزهر وردة من التراب…أقطفها وأمضي». الشاعر الذي أمضى حياته ينظر إلى جهة الشعر، قطف الوردة ومضى.
المصدر: الأخبار