جوني منيّر- الجمهورية
اذا كان الهدف الفعلي للاجتماع الثنائي الفرنسي – السعودي في باريس استكشاف موقف سعودي جديد ومختلف بعد نجاح الصين في رعاية اتفاق المصالحة بين الرياض وطهران، فإن النتيجة أظهرت بوضوح بأنّ الرؤية السعودية حيال المسار الواجب اتخاذه لإعادة إنهاض لبنان لم تتغير قيد أنملة، لا بل على العكس. ذلك انّ الاجتماع الذي حصل على وقع أعنف التظاهرات والاحتجاجات في الشوارع الفرنسية أوحى بأن ادارة الرئيس فرنسوا ماكرون باتت قلقة جداً حيال كيفية استعادة توازنها داخل خارطة القوى الفرنسية. والوفد السعودي الذي توجه الى لقاء الوفد الفرنسي بسرية تامة ومواكبة أمنية مشددة خشية التفلّت الذي يعمّ شوارع باريس، لا بد انه شاهَد ايضا أكوام النفايات التي تكدست على جوانب الطرق وامام المقرات الرسمية. وهنا يصبح السؤال الاول حول قدرة إدارة ماكرون على الانخراط في ملفات خارجية معقدة وشائكة ودقيقة كملف الازمة اللبنانية بتعقيداتها الاقليمية، فيما الازمة الداخلية عاصفة وتستوجِب التفرّغ لها كأولوية مطلقة. واستنتاجاً، فإنّ من كان يتوقّع تبدلاً في الموقف السعودي، وجد انّ الظروف الفرنسية الداخلية تُلزِم باريس بالانكفاء قليلاً.
فمن دون أدنى شك يمر الرئيس الفرنسي الشاب ايمانويل ماكرون في أضعف أوقات حكمه منذ دخوله المفاجئ والمثير الى قصر الايلزيه. فبريقه الذي واكبَ صعوده السريع خَفت بعض الشيء، وهو ما أظهرته نتائج الانتخابات النيابية، قبل ان يتعثر مع قانون رفع سن التقاعد وهو ما شكّل فرصة ذهبية لكي ينتفض عليه أبرز اخصامه من اليمين المتطرف الى اليسار المتشدد. وحتى لو نجحت الحكومة بالنجاة من دعوات حجب الثقة، فإنّ الانطباع العام بأنّ قدرات ماكرون لإعادة ثبيت نفسه ستتهاوى وسيصبح كالبطة العرجاء.
اما على المقلب السعودي فإنّ موقف الرياض السياسي لم يتأثر بالاستنتاجات العاطفية المتسرعة التي سادت الساحة اللبنانية إثر الاعلان عن الاتفاق السعودي – الايراني، ذلك انه من المنطقي النظر الى ما حدث في بكين كبداية لمشوار وليس ابداً كتتويج له. بمعنى انه من المفترض انتظار المحطات القادمة لتبيان مدى عمق التوغل الذي حققته الصين في ملف مُشبع ومتجذّر بالتناقضات والصراعات منذ وصول الثورة الاسلامية الى السلطة في طهران عام 1978.
صحيح انّ ثمة بنوداً حساسة بدأت تتكشّف حول الاتفاق الحاصل، كمِثل وقف السلاح والذخائر عن الحوثيين في مقابل إقفال وسائل اعلام ايرانية معارضة واعلان وزير المال السعودي عن استثمارات سريعة تساعد على تحريك الاقتصاد الايراني، الا انه لا بد من انتظار خطوات تطبيقية حقيقية.
وبالتالي، فإن السعودية كما ايران ستنتظران بعض الوقت قبل الحكم على المرحلة المقبلة. لكن لا شك بأن الدخول الصيني الاول من نوعه الى عالم ضمان التسويات الدولية ما يكرّس بكين كمرجعية دولية اساسية الى جانب واشنطن، هذا الدخول لا بد ان يكون صارماً وحازماً كي لا يلحق الضرر بالدور الصيني الجديد.
ونقلت اوساط ديبلوماسية بأنّ السعودية ستنتظر بعض الوقت لتبيان نجاح تطبيق الاتفاق من عدمه، مع الاشارة الى انّ بعض جوانب الاتفاق تَطال لبنان لكن ليس من الزاوية التي فهمها اللبنانيون.
ذلك انّ وقف تصدير السلاح الى الحوثيين يعني وقف كل انواع التعاون العسكري القائمة معهم. ففي السابق لطالما اشتكَت السعودية من التعاون العسكري الموجود بين «حزب الله» والحوثيين ما يعني ان ثمة تواصلاً سيحصل وستتولاه أغلب الظن دولة خليجية مع قيادة «حزب الله» لتطبيق هذا البند من الاتفاق.
وبانتظار مرور الوقت المطلوب للتأكد من نجاح تطبيق الاتفاق، جدّدت السعودية موقفها «الثابت» كما قال احد اعضاء الوفد خلال اللقاء الباريسي بالمواصفات التي جرى وضعها حول الرئيس المقبل والمرحلة المقبلة، والتي جرى التوافق حولها. وانه اذا جرى خرقها، فهي تعتبر نفسها خارج اي التزامات مستقبلية حيال اعادة إنقاذ الواقع الاقتصادي اللبناني. وبانتظار ذلك فإنّ السعودية ما تزال ملتزمة بمنع ضرب الاستقرار الامني في لبنان وتأمين الحد الادنى من حماية المنصة التي سسيجري الارتكاز عليها لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها المنهارة، والمقصود هنا الجيش اللبناني.
ولذلك فإنّ السعودية متفاهمة مع قطر والولايات المتحدة الاميركية على مساعدة الجيش اللبناني والسعي لتأمين بعض متطلباته الملحّة، كما ان السعودية ستزيد من حجم مساعداتها الاجتماعية للبنان من دون المرور بمؤسسات الدولة اللبنانية، وفق الصيغة المعتمدة والقائمة حالياً بالتعاون والشراكة مع فرنسا. وخلافاً للانطباع السائد فإنّ الجانب السعودي لا يتردد في الاشارة الى انّ لبنان مهم بالنسبة للسعودية ونظرتها الاقليمية مثل تركيا اذا لم يكن أكثر، وذلك عند التطرق الى وديعة الخمسة مليارات دولار التي أودعتها في تركيا.
في المقابل، فإنّ ادارة ماكرون المحاصَرة بمشاكلها الداخلية الكبيرة، تحاذِر الوصول الى فشل ثالث في الملف اللبناني، بعد زيارتَي ماكرون الى لبنان واعلان مبادرته السياسية. لذلك يجهد الجانب الفرنسي خلال شرحه للجانب السعودي ولأطراف اخرى، بأنه ليس متمسّكاً بمرشح دون آخر. وجلّ ما يريده هو حصول الانتخابات الرئاسية في لبنان والحصول على ضمانات من «حزب الله» في المقابل. لكنّ وجهة النظر الفرنسية لا تقنع السعودية، أما واشنطن فتصفها بالبريئة، والمقصود هنا طبعاً بالساذجة.
في الواقع تقارب الرياض الأزمة الرئاسية في لبنان من منظار الصراع العريض مع ايران وتوازناته في المنطقة وألا يشكّل تكريس نقاط متقدمة وثابتة لصالح ايران.
اما واشنطن فتنظر له من زاوية ابعد واشمل متعلقة بموقع الساحل اللبناني في صراعها الدائر مع النفوذ الروسي وايضا الايراني، والذي اصبح شريكاً عسكرياً لروسيا في اوكرانيا وفي الشرق الاوسط ايضا.
وفي كلام الرئيس السوري بشار الاسد خلال زيارته لموسكو نقطتين اساسيتين: الاولى تضمّنت تشدداً في موضوع انسحاب تركيا الكامل قبل فتح قنوات التحاور مع أنقرة، وهو ما يعني تفاهماً كاملاً مع ايران لجهة قطع الطريق على دور تركي مهمته مواجهة نفوذ ايران في سوريا، وفي الوقت نفسه انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية التركية في ايار.
والثانية تأييد توسيع روسيا لوجودها العسكري في سوريا من خلال قواعدها البحرية والجوية، ما يسمح لموسكو بتعزيز مراقبتها لجزء كبير من الحركة البحرية اضافة الى رصد لجانب أساسي من الحركة العسكرية لحلف الناتو.
وفي هذا الجانب ايضا ترجمة للشراكة العسكرية الايرانية – الروسية. وهو ما يعني معارضة واشنطن لإخضاع الشاطئ اللبناني للمعادلة نفسها ولو بشكل متستّر.
قريباً يبدأ الهجوم الاوكراني المعاكس، والذي حُدد في فصل الربيع، بعد ان ادى الهجوم الروسي في الشتاء الى نتائج متواضعة.
وقريباً ايضا الانتخابات الرئاسية التركية الحامية والدقيقة. وقريباً جداً اعادة اشتعال الجبهات الداخلية الاميركية ومحورها مصير الرئيس السابق دوالد ترامب.
وبالانتظار بركان داخلي في اسرائيل ودعوات لإسقاط الحكومة، وفي العراق عودة الاغتيالات وأزمة سياسية متفاقمة، وسَعي من اردوغان لتهدئة اخصامه من خلال تقاربه مع مصر.
في وقت يستمرّ فيه الانفتاح الخليجيّ مع سوريا مرّة بزيارة رسميّة للأسد الى الإمارات، ومرّة أخرى بالكلام عن إعادة فتح القنصلية السعودية في دمشق، والهدف هو إبعاد دمشق قدر الامكان عن الحضن الايرانيّ، فيما يستعدّ الرئيس الايرانيّ لزيارة السعودية.
باختصار، هناك ازمات واستحقاقات اقليمية ودولية عديدة، فيما استحقاق الوقت في لبنان يُلهب الظروف المعيشية، وسط اشارات اوروبية واميركية حازمة برفض فكرة التمديد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، او بتعبير اوضح واكثر اختصاراً: اختاروا بين الفوضى الشاملة والرئاسة.