جاسم عجاقة – الديار
بتقرير من 1532 كلمة، ختمت بعثة صندوق النقد الدولي زيارتها إلى لبنان والتي تدخل ضمن المادّة الرابعة من نظام الصندوق. هذه الزيارات تهدف إلى القيام بعمليات تقييم دوري للوضع الاقتصادي ومناقشة أولويات السياسات في الدول الأعضاء.
بعبارات لا تحمل أية مجاملة، قالها وفد صندوق النقد الدولي: «لبنان حالياً على مفترق دقيق حيث بقي على مدى أكثر من ثلاث سنوات يواجه أزمة منقطعة النظير، فقد أدى التخلخل الاقتصادي الحاد والانخفاض البالغ في قيمة الليرة اللبنانية والتضخم ثلاثي الأرقام إلى التأثير بصورة مذهلة على حياة الناس وأرزاقهم». وأضاف «ارتفعت مستويات البطالة والهجرة ارتفاعًا حادًا، والفقر يسجل معدلات قياسية، وشهدت إمدادات الخدمات الأساسية كالكهرباء والصحة والتعليم العام اضطرابًا بالغًا، كما تعرضت برامج الدعم الاجتماعي الأساسية والاستثمارات العامة للانهيار، وتراجعت قدرات الإدارات العامة بشكلٍ كبير ولم يعد بوسع البنوك توفير الائتمان للاقتصاد وباتت الودائع المصرفية غير متاحة غالبًا للعملاء»، مع ذكر الدور السلبي لأعداد كبيرة من اللاجئين والتي فاقمت التحديات التي يواجهها لبنان.
التقرير إنتقد حالة «اللا فعل» والتي تُسبب أضرارًا بشريحة «السكان المُنخفضة الدخل إلى متوسطة الدخل وتُضعف إمكانات لبنان الإقتصادية على المدى الطويل»، مُشدّدًا على ضرورة إتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة من قبل الحكومة والمجلس النيابي والبنك المركزي وذلك بهدف التصدّي «للضعف المؤسسي والهيكلي طويل الأمد لتحقيق الاستقرار للاقتصاد وتمهيد الطريق أمام تعاف قوي ومستدام».
التقرير أظهر إلى العلن عدد من النقاط السلبية التي لها تداعيات كبيرة على الاقتصاد وعلى الشق الاجتماعي. على رأس هذه النقاط التضخم (بثلاث خانات) مدفوعًا بإنخفاض حاد بقيمة الليرة اللبنانية وهو ما ينعكس سلبًا على الثقة بالنظام المالي اللبناني والزيادات الكبيرة في المعروض النقدي. أيضًا من النقاط السلبية التي ذكرها التقرير «الآثار المتشابكة لتعاميم مصرف لبنان التي تفسح المجال أمام أسعار الصرف المتعددة والمراجحة بغرض المضاربة». أيضًا ذكر التقرير أن الحكومة تعتمد على التمويل من البنك المركزي، وعلى تراكم المتأخّرات وكل ذلك في ظل تداعي إيرادات الموازنة؛ مُشدّدًا على أن عجز الموازنة الذي يزيد قليلًا عن 5% من الناتج المحلّي الإجمالي، كان ليكون أكبر من ذلك لو «تم إدراج العمليات المالية العامة التي يواصل البنك المركزي تنفيذها – مثل توفير النقد الأجنبي بأسعار مدعومة». ويُضيف التقرير أن «القطاع المصرفي اللبناني يتعرض لضغوط هائلة في ظل تآكل مركز رأس المال والخسائر الدفترية الهائلة التي تلوح في الأفق».
ويُظهر التقرير أن «التحسن الكبير في عجز الحساب الجاري خلال 2020-2021» ذهب مع الرياح في العام 2022 مع توقّعات بعجز يفوق الـ 25% من الناتج المحلي الإجمالي! كما أن ضعف المركز الخارجي وقرارات «السياسة النقدية المخصصة» أدّى إلى تراجع كبير في الاحتياطيات الأجنبية والتي وصلت إلى 10 مليارات دولار أميركي في أواخر العام 2022 من دون إحتساب إحتياط الذهب.
السيناريو الخطر الذي أطلقه الصندوق ينصّ على أنه وبدون «إصلاحات سريعة» فإن لبنان سيغرق في أزمة لا نهاية لها. وبحسب هذا السيناريو، ستزيد البطالة والفقر وتتراجع الإمكانات الاقتصادية وهو ما سيُقوّض «دعائم الثقة في المؤسسات الوطنية» وإستمرار «القيود التي تكبح الاقتصاد». وهو ما سيزيد ضعف المركز الخارجي ويستمر نزيف الاحتياطيات الأجنبية لدى مصرف لبنان مع إستمرار هبوط سعر الصرف وإرتفاع التضخم مما يؤدي بدوره إلى تسارع مخاطر الدولرة النقدية المرتفعة بالفعل. ويقول الصندوق أن الاقتصاد النقدي سيزداد أكثر وسيُقلّص إمكانية جباية الضرائب ويحدّ من قدرة الخزينة على الانفاق مع زيادة مخاطر ترسخ الأنشطة غير الشرعية.
ويرى وفد الصندوق أن الإستمرار على هذا المسار – أي بدون إصلاحات – سيؤدّي حكمًا إلى إستنزاف الإحتياطي من العملات الأجنبية بحلول شهر أيلول المُقبل. هذا الأمر نابع من مبدأ أن الإستهلاك في لبنان يعتمد على الإستيراد والذي يُكلّف لبنان أكثر من مليار ومئتين وخمسين مليون دولار أميركي شهريًا (في أقلّ التقديرات). وهو ما يعني أن التجار الذي يستمرّون بأخذ الدولارات من السوق سيستنزفون إحتياط المركزي الذي يستمر بدعم السوق بالدولارات، في أحسن تقدير في 9 أشهر!
لكن لماذا يأخذ التجار الدولارات من السوق؟ وأين تذهب هذه الدولارات؟
التاجر الذي يُحمّل المواطن كلفة إضافية على سعر السوق السوداء، يستخدم حجة عدم تآكل رأسماله. ولكن من المفروض أنه يُعاود التاجر الإستيراد مُستخدمًا الدولارات التي إستحصل عليها من السوق من دون الحاجة إلى لمّها من السوق. إلا أن هذا الأمر لا يحصل بحكم أن التجار يعمدون إلى إخراج الدولارات بشكلٍ تلقائي خارج البلد من خلال إما تصدير السلع المستوردة عبر الحدود وقبض ثمنها في الخارج، وإما من خلال تحويل الكاش المُحصّل في السوق اللبناني إلى حساباتهم في الخارج – بحجّة الإستيراد – من دون أن يكون هناك رقابة على هذه التحاويل. الجدير ذكره أن إحتياطات مصرف لبنان من العملات الأجنبية إنخفضت من 35 مليار دولار أميركي قبل الأزمة إلى عشرة مليارات دولار أميركي أواخر العام 2022! أين ذهب هذا الإحتياط؟ بالطبع المُستفيد الأول من دون أدنى شكّ هم التجار!
الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي خصوصًا في ما يخص الكابيتال كونترول هي إصلاحات أساسية وذلك بغض النظر إذا ما وقّع لبنان برنامج مع الصندوق أم لم يوقّع. وبالتحديد فإن الصيغة الحالية المطروحة للكابيتال كونترول لا تأخذ بعين الإعتبار الطرق التي يُخرج فيها التجار الدولارات خارج لبنان. وبالتالي فإن المطلوب هو الأخذ بعين الإعتبار هذا الأمر الذي أصبح يُشكّل خطرا وجوديا ستضمحل معه قدرات لبنان على الإستيراد في غضون أشهر فقط!!! وهذا بالتحديد ما يُحذّر منه صندوق النقد الدولي الذي يُطالب بسلّة من الإصلاحات لا مجال حتى الساعة من تنفيذها نظرًا إلى الإنقسام السياسي الكبير والارتباط العضوي بالمحاور الإقليمية. فإلى أين يذهب لبنان المُنقسم على نفسه حتى في موضع إداري بحت كتقديم الساعة أو تأخيرها؟