كتب خضر حسان – المدن : لا تحتاج الفوضى بكافّة جوانبها، الصحية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وحتى الأمنية، ألى سبب وحيد لاشتعالها. فغزارة الأسباب كفيلة بإشعال البلد بطرفة عين. ولا يخرج ملفّ الدواء من دائرة الإشعال، خصوصاً مع وجود شبه تأكيد على وقف دعم استيراد الدواء، ضمن عملية وقف دعم مصرف لبنان لاستيراد القمح والمحروقات. وقد يتحقق هذا فعلياً خلال نحو شهرين، وفق ما لوَّحَ به حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
حرب باردة
الحديث جديّ عن وقف دعم استيراد الدواء، ترافق مع تراشق الاتهامات بين الأقطاب المعنية بالملف، من وزارة الصحة وصولاً إلى الصيادلة، وما بينهما من مستوردين وأطبّاء.
بقي التراشق مبطَّناً حتى الآن، بما يشبه الحرب الباردة. فالكل يعي سبب المشكلة ومكامن الخلل فيها.
والجميع يعلم كيف تُدار الأمور وتتراكم الأرباح على حساب المرضى، ومؤخّراً على حساب صغار المودعين، الذين يدفعون ثمن احتجاز أموالهم ودعم الاستيراد من خلالها. وأبعد مِن ذلك، على حساب الاقتصاد الوطني الذي يدفع ثمن هدر الأموال العامة، في ظل غياب سياسات فعّالة، تدير ملف الدواء والإستشفاء.
النقباء يتحدثون
محاولات الدفاع عن النفس تجلَّت في إشارة نقيب مستوردي الأدوية كريم جبارة، إلى أن “وزارة الصحة تحدد أسعار الأدوية في لبنان بالمقارنة مع الأدوية حول العالم، فلا يمكن الحديث عن احتكار وكارتيل في قطاع الأدوية في لبنان، لأن المستوردين لا يتحكمون بالسعر”. واعتبر جبارة في حديث تلفزيوني اليوم الأحد 6 كانون الأول، أن “سعر الدواء في لبنان ليس مرتفعاً، وبعض الأدوية تحمل السعر نفسه للبديل عنها”.
ولم يوافق نقيب الصيادلة في لبنان غسان الأمين، على مقولة انخفاض أسعار الدواء في لبنان. فبرأيه “الفاتورة الدوائية مرتفعة في لبنان”، لكن رغم ذلك، “لا يمكن خفضها إلى النصف فجأة”. وخفض الفاتورة بنظره، مرتبط بـ”وضع استراتيجية دوائية جديدة تساعد على الانتقال من المرحلة الراهنة إلى مرحلة أخرى يمكن خلالها التوفير في فاتورة الدواء”.
وحاوَلَ نقيب الأطباء شرف أبو شرف اختصار الأزمة وسبيل حلِّها، منطَلِقاً من دعم الصناعة الدوائية اللبنانية، من خلال خطة الانقاذ التي قدّمتها النقابة، والقائمة على “دعم دواء الجنيريك المصنَّع في لبنان”، من خلال 11 مصنعاً موجوداً في لبنان، قادرة على انتاج الأدوية “بجودة عالية جداً”. وفي إشارة مواربة وغير مباشرة إلى ضلوع مستوردي الأدوية في تضخيم الفاتورة الدوائية في لبنان، وحملهم جزءاً من مسؤولية واقع الدواء، أكَّدَ شرف أنه “لا يمكن الاعتماد على مستوردي الأدوية لإيجاد حل”.
لا مفرَّ مِنَ الإصلاحات
ما وصل إليه ملف الدواء ليس معزولاً عن سياسات الفساد التي تُمارَس في كل القطاعات. إذ أن الفساد في لبنان مُمَنهَج وليس اعتباطياً. وبالتالي لا مدخل لحلّ أي أزمة، إلاّ بإصلاح مُمَنهَج وليس بحلول فردية عشوائية. ومع اشتداد الأزمة النقدية والسياسية والاقتصادية، باتت الإصلاحات الممنهجة مطلباً دولياً، خصوصاً أن المنظومة الحاكمة لم تستحِ من نشر غسيلها على منشر المحافل الدولية، في معرض طَلَبِها المساعدة، سواء من الدول المانحة أو صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. علماً أن هذه المنظومة لم تطبِّق شروط المجتمع الدولي لمساعدة لبنان، والمتّفق عليها في مؤتمر سيدر، المنعقد قبل انفجار الأزمة.
وبعد كل المجريات المتسارعة منذ مساء يوم الخميس 17 تشرين الأول 2019، لم تتحرّك المنظومة، لاسترضاء المجتمع الدولي الذي تستجدي منه المساعدات. ولم تفلح جريمة تفجير المنظومة لمرفأ بيروت، في تهدئة جشعها، برغم مسارعة المجتمع الدولي لتقديم مساعدات إنسانية. ولذلك، رَفَضَ البنك الدولي خلال لقائه لجنة الصحة النيابية، “مساعدة لبنان في قطاع الأدوية بسبب غياب الاصلاحات”، وفق ما قاله رئيس اللجنة عاصم عراجي، الذي حذَّرَ من أنّ رفع الدعم عن الدواء سيؤدي إلى حصول “خلافات في الشارع”. مؤكّداً أنّه في حال “لم نصل إلى خطة بحلول نهاية الشهر الجاري، فنحن ذاهبون إلى فوضى اجتماعية”.
في المقلب الآخر
الإصلاحات المطلوبة تختلف عمّا تراه المنظومة التي توصّلَت أخيراً إلى وضع خطّة لملف الدواء تقوم على “معرفة أهمية الدواء والغاية من استخدامه”، على حد تعبير مستشارة رئيس حكومة تصريف الأعمال للشؤون الصحية، بترا خوري. واستناداً إلى ما سيرشح عن تلك المعرفة، ستقرّر الحكومة “دعم الدواء مِن عدمه”. أي أن المنظومة لا تعرف حتى الآن أهمية الدواء والغاية من استخدامه، وتنحصر خلاصات بحثها، حول استمرار الدعم أو وقفه، فيما أزمة الدواء لا تنحصر في مسألة الدعم. وهذه النتيجة توضح النظرة الضيّقة للمنظومة، حيال ملف ضخم، بحجم الدواء الذي يكلّف استيراده سنوياً نحو مليار و600 مليون دولار.
وتتناسى المنظومة أنّ مدخل حلّ ملف الدواء ليس دعم استيراده أو وقفه، بل في كبح جشع المستوردين ومافيات الدواء داخل المنظومة نفسها، وخارجها. وبداية الحل تستند إلى إحياء “مركز المعلوماتية الدوائية”، الذي يجب أن تستند الحكومة إلى معلوماته في اتخاذ أي قرار، وليس إلى آراء المستفيدين من الفساد في هذا القطاع. وبالتوازي، ينطلق الإصلاح من تفعيل المختبر المركزي الذي يساهم مجلس شورى الدولة في تعطيله عن طريق عدم الاكتراث بالدعاوى المقَدَّمة منذ العام 2015، من “الهيئة الوطنية الصحية الاجتماعية”، ممثلة بشخص رئيسها إسماعيل سكرية، الذي يرى أنّ “مَن سبَّبَ وشارك في الوصول إلى المأزق الدوائي، لن يستطيع تقديم الحلول”، لافتاً إلى أنّ “تجار الدواء من العام 1996 حتى العام 2019، حققوا أرباحاً خيالية وغير شرعية تفوق عشرة مليارات دولار، وهي فائضة عن أرباحهم المشروعة”.