سلوى بعلبكي – النهار
تسود أجواء القلق والخوف لدى موظفي القطاع العام والمتقاعدين وموظفي المصالح المستقلة، من مآل الأوضاع الاقتصادية والنقدية، والمصير الذي ينتظرهم في حال لم تتحرك الدولة كما يجب، لبسط مظلة أمان إجتماعي تحمي ما أمكن قدرة هذه الشريحة من ذوي الدخل المحدود وعائلاتهم من ذلّ الفقر والعوز والموت البطيء بعدما فقدت أجورهم ورواتب تقاعدهم ومتمماتها، وبدلات النقل للعاملين منهم، قدرتها على الإيفاء بالنزر اليسير من وظيفتها.
معضلة القطاع العام وكلفته المرتفعة كانت ما قبل الأزمة وتمدد الإنهيار، تُعتبر مشكلة جدية تواجه كل الحكومات، وتضغط على المالية العامة وترهق الموازنات. ولكن بعدما تحولت الرواتب والأجور من الليرة إلى الدولار مقوّمة على سعر “صيرفة”، بات الحمل بالليرة اللبنانية “أهون” وخفيفا نسبة لسعر الصرف السائد في السوق، وصارت عشرات قليلة من ملايين الدولارات كافية لتسديد كامل رواتب القطاع العام والأسلاك العسكرية والمتقاعدين، ومعهم المصالح المستقلة والبلديات.
الريبة اليوم عند الموظفين مبررة بعدما تأخرت الدولة في إقرار زيادات على الأجور تراعي بالحد الأدنى الحاجات الأساسية لهم ولعيالهم، بعدما ارتفع سعر صرف الدولار الى مستوى قياسي، ألغى القيمة الشرائية للمساعدة الاجتماعية التي أقرتها الدولة للموظفين والمتقاعدين. وليس القطاع العام وحده في المأزق، فموظفو القطاع الخاص ليسوا بأفضل حال، بالرغم من العطاءات التي ينالها بعض العاملين منهم في المؤسسات والشركات ذات الإنتاجية الكبيرة والرأسمال المرتفع. الجميع ينادي على الدولة للتحرك وتعديل الأجور والعطاءات بأقصى سرعة، والدولة تنادي على مصرف لبنان، فيما الاخير أمام خيارين: إما طبع العملة لتأمين السيولة اللازمة، وتاليا الوقوع مجددا في فخ التضخم المفرط، وإما اللجوء الى الإحتياط بالعملة الصعبة، وتفعيل دفع جميع رواتب القطاعين العام والخاص بالدولار، مقوّمة على سعر “صيرفة”.
أما الحكومة فهي قاب قوسين من الانعقاد لإقرار مراسيم زيادة الأجور للقطاعين العام والخاص، وبذا تضع الدولة الكرة عند مصرف لبنان، فهل سيتلقفها ويأخذ بـ”صدره” تأمين الدولارات اللازمة لهذه الزيادات، خصوصا أن المبلغ المطلوب سيكون مضاعفاً بالدولار، وهل يملك السيولة الكافية لذلك؟
مصادر مالية تؤكد أن الكتلة النقدية المتداولة لا تزال في حدود الستين ألف مليار ليرة، ومصرف لبنان يضغط لتقليصها أكثر عبر عمليات “صيرفة”، وهو أمام خيار العودة إلى استعمال ألوف مليارات الليرات التي “شفطها” من السوق، والتي تبلغ نحو 25 ألف مليار، أو خيار دفع كل الرواتب بالدولار على سعر “صيرفة”، علما أن المصارف عمدت في الآونة الأخيرة الى فتح حسابات بالدولار “الفريش” لجميع الموظفين الموطّنين لديها، مخصصة فقط، أي الحسابات وبصورة حصرية، للراتب أو الأجر الذي يتقاضاه صاحب الحساب من الدولة.
المتقاعدون يرفضون سعر “صيرفة”؟
ثلاثة لا يزالون يشترون الوقت. الحكومة، بانتظار انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، وعودة انتظام التشريع وعمل الدولة. والشاري الثاني، أرباب العمل والعمال والنقابات، محاولين تحسين شروط مطالبهم، وتأمين الحد الأدنى من أمانهم المعيشي والوظيفي، بانتظار حلّ مستدام لانهيار الليرة، وعودة النشاط الاقتصادي الى سابق عهده. وآخر الشارين، مصرف لبنان الذي يحاول للمرة المئة ربما، التخفيف من حدة الانهيار، والسقوط السريع نحو القعر، منتظرا كغيره عودة الدولة الى الحياة ورفع المسؤولية الملقاة على كتفيه منذ زمن، وتحمّل مسؤولياتها الجدية في إعادة إنتاج اقتصاد ونمو إيجابيين، وتجنيبه مهمة شراء الوقت مجددا لها، كما فعل طوال الخمس عشرة سنة الماضية.
فعلى وقْع التحركات التي قام بها العسكريون المتقاعدون في ساحة رياض الصلح، وفي ظل المطالبات النقابية بضرورة استمرار مصرف لبنان بدفع رواتب الموظفين والمتقاعدين والعسكريين في القطاع العام والاساتذة في التعليم الرسمي واساتذة الجامعة اللبنانية على سعر “صيرفة” 45 ألف ليرة للدولار، أكدت مصادر نقابية لـ”النهار” أن “المركزي” الذي كان سيعتمد سعر “صيرفة” الحالي أي 90 ألفا لكل الرواتب، سيعيد النظر بالموضوع لتصبح الرواتب على سعر صيرفة 60 ألف ليرة لشهر آذار، في انتظار أن تبتّ الحكومة في أول جلسة تعقدها التعويض وإعطاء بدل إنتاجية للموظفين في القطاع العام والعسكريين وبدل نقل يصل إلى 5 ليترات بنزين يوميا، وراتبين أو 3 للمتقاعدين ليصل مجموعها إلى 5 أو 6 رواتب.
وعلى رغم التكتم والسرية اللذين أحاطا باجتماع المجلس المركزي لمصرف لبنان أول من أمس، فقد اكدت المصادر عينها أنه “جرت مناقشة آثار اقتراح دفع الرواتب للقطاع العام على سعر “صيرفة” ما بين 60 و70 ألف ليرة لشهر آذار، بشكل تفصيلي على احتياطات مصرف لبنان، علما أنه كانت ثمة معارضة للاقتراح داخل المجلس، خصوصا أن الدولة تحمّل “المركزي” ما لا يمكن لأي مؤسسة أو قطاع تحمّله، بينما هي في موقع المتفرج من دون أن تتخذ أي اجراءات يمكن أن تريح المالية العامة”. في مقابل ذلك، كانت ثمة آراء داخل المجلس المركزي بأن مصرف لبنان “يمكن أن يتحمل خسارة بضعة ملايين من الدولارات لتفادي مشكلات اجتماعية وأمنية قد تؤدي بالبلاد الى ما لا يحمد عقباه”. وعُلم لاحقا أن الحاكم رياض سلامة أبلغ وزير المال بضرورة تحمّل وزارة المال الفارق بالدولار بين الـ 60 والـ 90 ألف ليرة من الايرادات التي تجنيها بالدولار من مرفأ بيروت والمطار.
في غضون ذلك، أكد العميد المتقاعد جورج نادر لـ”النهار” أنه لا يمكن للمتقاعدين القبول بقبض رواتبهم على سعر “صيرفة” بـ 60 ألفا و”سندعو الى التحرك والنزول الى الشارع”، لافتا الى أن مطلبهم الاساسي هو أن يكون الراتب على أساس سعر “صيرفة” 28.500 ألف ليرة، و”لكن يمكن أن نقبل كما الشهر السابق 42.500 الف ليرة”. وكشف ان الاجتماع مع حاكم مصرف لبنان كان “ايجابيا جدا، إذ أكد للمتقاعدين أن لا مشكلة لدى مصرف لبنان في اعتماد اي سعر “صيرفة”، شرط أن تتحمل وزارة المال الفارق”.
وكان وزير العمل مصطفى بيرم، أكد إثر اجتماع لجنة المؤشر أنه “سيصار الى اعتماد ما يتم اقراره في لجنة المؤشر للقطاع الخاص كنوع من خلق التوازن مع القطاع العام من منطلق الشعور بالمسؤولية الوطنية لان لجنة المؤشر لا دخل لها بالقطاع العام”، لافتا الى ان ثمة اجتماعا الاثنين المقبل للجنة طوارئ المرفق العام، “وسأحمل هذه التوصية وأضعها بين يديّ رئيس مجلس الوزراء والوزراء لوضع المطالب الشاملة للقطاع العام على نار حامية”.
رواتب القطاع الخاص؟
في مقلب تحسين الرواتب للقطاع الخاص، وعلى رغم إقرار لجنة المؤشر في وزارة العمل زيادات وتعويضات مالية في الأشهر القليلة الماضية، بيد أن الصرخات عادت لترتفع مجددا على وقْع الإنهيار الإقتصادي الجنوني وتصاعد الغلاء المعيشي. وقد توصلت لجنة المؤشر أمس الى اتفاق يقضي برفع الحد الادنى في القطاع الخاص الى 9 ملايين ليرة، اي بزيادة 4 ملايين ونصف مليون، وبدل النقل الى 250 الف ليرة عن كل يوم حضور فعلي، ورفع سقف المرض والامومة ضعفين، على أن تكون هذه الزيادات خاضعة للمراجعات تبعا لتقلبات سعر صرف الدولار لمراعاة العدالة في هذه المسألة.
وأكد بيرم أنه “تم أخذ العلم ان نص المشروع الموقت للنظام الموقت للمعاش التقاعدي هو تقريبا موضع توافق الجميع وسيساعد العمال بعد نهاية الخدمة ويساعد ايضا ارباب العمل لأنه يقدم لهم مراعاة كبيرة” .وقال: “سنحمل هذه المخرجات سريعا الى مجلس شورى الدولة ثم الى اقرب جلسة لمجلس الوزراء لإقرارها سريعا مع المراسيم السابقة من اجل تكريس الحق” .
أما رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر فكشف لـ”النهار” أن “ثمة توجهاً للتعجيل في إصدار المرسوم المتعلق بتعديل الحد الادنى بعد احالته الى مجلس شورى الدولة، على أن يوضع على طاولة مجلس الوزراء في الجلسة الأولى المقرر عقدها الأسبوع المقبل”.
وإذ أكد أن بعض الهيئات الإقتصادية المعروفة تدفع رواتب موظفيها بالدولار، تحت ستار “مساعدات إجتماعية”، شدد على أن تبدي “الهيئات” تعاونها على عقد إجتماعات متتالية في حال ارتفاع سعر الصرف، شرط ألا تتحول هذه الزيادات إلى دولار.
ولكن هل القطاع الخاص قادر على هذه الزيادات في ظل تراجع نشاط المؤسسات والشركات؟ الأمين العام للهيئات الإقتصادية رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس لا ينفي في حديث الى “النهار” الوضع الصعب الذي يعانيه القطاع الخاص بحسب قطاعاته، “ولكن لا يمكن ترك الموظفين من دون تعديل رواتبهم، خصوصا في ظل تدهور قيمة الليرة”. وأكثر… فقد أكد أهمية “خضوع قرار الزيادات المقرة للتعديل وفقا لتقلبات سعر صرف الدولار، بما يؤدي إلى إنصاف العامل من جهة في حال ارتفاع سعر صرف الدولار، ومن جهة أخرى صاحب العمل في حال هبوطه”.
ولفت شماس الى تعاون الهيئات الإقتصادية مع وزير العمل والضمان الإجتماعي والإتحاد العمالي العام للضغط باتجاه إقرار قانون الراتب التقاعدي بدل تعويضات قرار نهاية الخدمة على أن يكون الزاميا.
من جهة أخرى، أكد شماس استعداد وزير العمل، بناء على توصية مجلس إدارة الضمان الإجتماعي، لتوقيع تقسيط تسوية على مدفوعات نهاية الخدمة بين 10 إلى 20 سنة، “إذ إن هذه الخطوة تتطلب قرارا من الوزير دونما حاجة إلى إصدار قانون”.
وعن البحث في مسألة تسديد جزء من الرواتب بالدولار، فضّل شماس ترك حرية القرار للمؤسسات الخاصة تبعا للظروف المحيطة بكل منها، لافتا إلى ضرورة إعادة النظر في رواتب موظفي القطاع العام لمساواتهم مع القطاع الخاص.