الخروج من المنزل بمثابة كابوس بالنسبة لهم، مجرد التفكير بالأمر يصيبهم بالتوتر ويحفز لديهم مشاعر القلق، غيّرتهم الجائحة، وأفرزت منهم شخصيات جديدة، يتجنبون المقاهي والحانات وتخيفهم الأماكن المزدحمة فلا يرتادونها، ولا شيء يغريهم في الخارج، لا علاقات ولا صداقات ولا ترفيه، فكل ما هو خارج المنزل يتعبهم ويهددهم ويفقدهم الراحة. إنهم أشخاص اختبروا العزلة خلال انتشار فيروس كورونا، فأعجبتهم، وما عادوا يكسرونها إلا للضرورات القصوى.
ظاهرة باتت تنتشر في معظم دول العالم، التي شهدت إغلاقا عاما في السنوات الثلاث الماضية، حيث يعجز كثير من الأفراد عن الانخراط مجددا في الحياة الاجتماعية، واستعادة علاقاتهم وأسلوب حياتهم وروتينهم الذي كان قائما من قبل، وذلك بعدما باتوا يرون في نمط حياة العزلة راحة أكبر لهم، يوفر عليهم المجهود الاجتماعي الذي كانوا يبذلونه في الخارج وعند الاختلاط مع الآخرين.
وتزداد حدة الظاهرة في لبنان بسبب ترافق جائحة كورونا مع أزمات أخرى من بينها أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ البلاد أدت إلى ارتفاع نسب البطالة والفقر والتدهور المعيشي، وأنتجت أزمات اجتماعية وأمنية وسياسية لا تزال تعصف آثارها في البلاد حتى اليوم، وتنعكس على سكانها ارتفاعا في معدلات الإصابة بالإضرابات النفسية، على رأسها القلق والاكتئاب.
لا طاقة للخروج
“من العمل إلى المنزل، ومن المنزل إلى العمل”، يلخّص الممرض اللبناني، علي سبيتي، بتلك العبارة آخر ثلاث سنوات من حياته، نادرا ما قام خلالها بالانخراط في جلسات أو مناسبات اجتماعية، فيما يقتصر اللقاء بالأصدقاء والمعارف على الصدف والحالات النادرة جدا، وفق ما يروي لموقع “الحرة”.
ويضيف “لم تعد لدي طاقة للخروج من المنزل، منذ نحو أربعة أشهر لم أتحدث إلى أي أحد من أصدقائي الذين اعتدت أن ألتقيهم بصورة شبه يومية قبل الجائحة، اهتماماتي مؤخرا تقتصر على عملي وعائلتي وراحتي لا أكثر، منذ فترة مثلا دعيت إلى جلسة أصدقاء قبل الموعد بأسبوع، بقيت أفكر في الأمر طيلة الأسبوع وأشجع نفسي من أجل الذهاب، لمعرفتي أنني بحاجة إلى سبب يدفعني للخروج من المنزل لشدة الملل، لكن، وحين وصل الموعد، تراجعت وانتابني شعور كبير بالحاجة للبقاء في المنزل وتمضية الوقت مع عائلتي في يوم إجازتي”.
بدأت العزلة تروق للممرض، ذو الـ 35 عاما، بعد استراحة من العمل حصل عليها عقب موجة إصابات واسعة بفيروس كورونا في لبنان، ولأن البلاد كانت في حالة إغلاق تام، فيما توقف عمل زوجته في التعليم، اختار علي منزلا معزولا على رأس تلة جنوب البلاد، ليمضي كامل إجازته هناك، “بعد تلك التجربة شعرت وزوجتي براحة كبيرة وازداد الجنوح نحو الانعزال والتزام المنزل”.
بالنسبة إلى علي فإن الحجر الصحي “أيقظ حقيقة شخصياتنا، وعزز الفرز ما بين الاجتماعيين والانطوائيين، حيث لم تكن تسمح طبيعة الحياة بذلك قبل كورونا، هناك أشخاص لم يدركوا أنهم كانوا انطوائيين واكتشفوا ذلك في شخصيتهم وباتوا متصالحين أكثر مع أنفسهم، فيما أصيب كثير من الأشخاص الاجتماعيين بحالات الرهاب والقلق الاجتماعي التي تدفعهم للانعزال عن المجتمع، لأسباب عدة”.
ويتابع “اكتشفنا أنا وزوجتي أن لدينا ميولا لأن نكون انطوائيين أكثر، حيث نشعر أن الخروج يدفعنا لاستنزاف طاقتنا التي نستغلها للضروريات فقط، كالعمل والاهتمام بطفلتنا لا أكثر، أصبحنا نشعر بالتعب بشكل سريع في الخارج وليس فقط بالقلق أو التوتر، بل التعب الجسدي والذهني والحاجة إلى الراحة والنوم أكثر من ذي قبل”.
لبنان يشهد أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه
خوف صحي وصدمة اقتصادية
أما لدى ملك، 42 عاما، قصة مختلفة، إذ بدأت عزلتها عقب وفاة والدها بعد إصابته بفيروس كورونا داخل المستشفى التي نقل إليها لأسباب صحية أخرى.
وتقول لموقع “الحرة” إنها باتت تخشى أن يتكرر معها السيناريو ذاته، وتعزز هذا الخوف لديها حين ارتفعت نسب الوفيات ولم يكن الجهاز الطبي في لبنان قادرا على التعامل مع انتشار الوباء بعد تأثره بالأزمة الاقتصادية.
لم تكن ملك على هذه الحال دائما، فقبل الجائحة كانت تعيش روتينا منفتحا اجتماعيا، يتخلله خروج شبه يومي من المنزل إلى الأماكن العامة لملاقاة الأصدقاء وزملاء العمل، فيما لا يمر أسبوع دون القيام بمشروع ترفيهي أو المشاركة في مناسبة اجتماعية.
كل ذلك تبدل بعد الجائحة، وتحول الناس، بنظر ملك، إلى “فيروسات متنقلة”، على حد وصفها، “فإذا ما دخلتُ مكانا مزدحما أهرب من مكان إلى آخر لتفادي الاختلاط والتقارب، وأخرج عند أقرب فرصة، بات لدي فوبيا من أن أي شخص قد يحمل مرضا ما قد ينقله إليّ، ومع أنني تلقيت الطعم ضد الفيروس ورغم مرور ثلاث سنوات ما زلتُ أعاني من قلق كبير، خاصة وأن نسبة كبيرة من الأشخاص الذين تلقوا الطعم التقطوا الفيروس مرة أخرى، لذا التزم البقاء في المنزل ولا أغادره إلا عند الضرورة القصوى، وإن خرجت فلا ارتاد أماكن مزدحمة أبدا ولا قهاوى أو أماكن سهر”.
يذكر أن دراسة نشرت في “مجلة اضطرابات القلق” أن الأفراد الذين يعانون من الرهاب الاجتماعي قد عانوا من زيادة كبيرة في أعراض القلق أثناء الوباء، وتُعزى هذه الزيادة إلى الخوف المتزايد من الإصابة بكوفيد-19 وعدم اليقين المحيط به.
الإغلاق العام أفقد ملك كل علاقاتها الاجتماعية السابقة، إذ تقول: “لا أزور أحدا ولا أحدا يزورني أبدا، لدي صديقتان مقربتان يقتصر تواصلي معهما على الهاتف ومواقع التواصل الاجتماعي فقط، ولكني لم أرهما منذ عام ونصف أو أكثر”.
وجاءت الأزمة الاقتصادية لتزيد من شعور ملك بالحاجة للابتعاد عن المجتمع، لا سيما مع ارتفاع الأسعار وانقطاع المواد الأساسية من الأسواق، “فكلما أخرج تصدمني الأسعار وحالة البلاد وفقرها وكل ما يجري فيها من أزمات، لأعود إلى منزلي متفاجئة غير مستوعبة ومصدومة من كل شيء. ولا أخرج إلا مرة أو مرتين في الشهر لا سيما وأن عملي بات عن بعد ويمكن إتمامه من المنزل”.
حالة عامة
قصة علي وملك مثال عن حالة عامة باتت منتشرة على نطاق واسع في لبنان، يرصدها العاملون في القطاع الطبي والصحة النفسية على حد سواء، لا سيما وأن المشاكل النفسية عادة ما تنعكس مشاكل صحية والعكس، ما يسمح برصدها في الاتجاهين.
المعالجة النفسية اللبنانية، دارين صالح، تلحظ من خلال عيادتها الانتشار الواسع لهذه الحالة “حتى أن هناك أشخاص يرفضون المجيء إلى العيادة لتلقي الدعم النفسي ويفضلون تلقي جلساتهم أونلاين (عبر الإنترنت)”.
وبحسب صالح، تتركز هذه الظاهرة بشكل واضح لدى طلاب المدارس، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 14 و16 عاما، ومن كانوا بهذا العمر في وقت الحجر الصحي، “كذلك نلاحظها بين البالغين في عمر الأربعين (42 – 46)، وتصيب خصوصا من كان لديهم قلق عام مسبق أو قلق وخجل اجتماعي بشكل خاص، أو عدم ثقة بالنفس، أو يعانون من التوتر وعدم معرفة بكيفية الاتصال والتواصل، إضافة إلى الاكتئاب”.
وتشرح المعالجة النفسية أنه حين وصلت الجائحة “وجد هؤلاء أنفسهم على الجانب الآمن مرتاحين بالـ comfort zone (منطقة الراحة) بالنسبة لهم، بحيث ما عادوا مطالبين ببذل جهد اجتماعي في التواصل، ولكن بعد العودة إلى الحياة الطبيعية وعندما عادوا مطالبين ببذل هذا المجهود الذي يحتاج منهم الكثير من الإرادة الحياتية، يحاصر جهازهم النفسي نفسه ويمنعهم عن العودة إلى التواصل الاجتماعي ويدفعهم في المقابل إلى التقوقع الاجتماعي”.
وإذ تؤكد صالح أن السبب خلف هذه الظاهرة يعود إلى فترة الإغلاق العام بشكل أساسي، تلفت إلى أن الأزمة الاقتصادية وتوقف الأعمال في الخارج لعب دورا إضافيا في تعزيزها، “فالشخصية الانطوائية عادة لا يحفزها للخروج إلى المجتمع إلا الضرورات، كالعامل المادي والحاجة للإنتاج، ولكن مع غياب التحفيز الاقتصادي بسبب الأزمة، يتجه هؤلاء بشكل أكبر نحو الامتناع عن الاندماج ويجدون لأنفسهم مزيدا من المبررات” للانعزال.
وبينما تنحصر علاقات بعضهم بالعائلة والأصدقاء المقربين، تشير صالح إلى أن البعض قطع التواصل حتى مع الأصدقاء المقربين والعائلة، “يكتفون بغرفة واحدة فيها التلفاز أو وسائل التواصل الاجتماعي أو أي وسيلة ترفيهية مفضلة، ولا يشعرون بالحاجة لمغادرتها، حتى مواقع التواصل الاجتماعي لا يستخدمونها للتواصل مع الآخرين، وإنما لمتابعتها فقط”.
هذا الواقع تعيشه ملك بحذافيره، حيث تؤكد أنها لم تعد تجد ما يغريها في الخارج، “وزاد الطين بلة مع الزلازل التي ضربت المنطقة مؤخرا، والتي تذكّرنا بأن الإنسان يمكن أن يموت لأتفه الأسباب وفي أي لحظة، لم يعد يعنيني كل ما يجري وأصبحت في حالة من التخلي عن كل شيء بما فيهم الأشخاص”.
وتشدد على أنها لا تشعر بالملل في المنزل، “إنه أكثر مكان مريح بالنسبة لي، ولا أسعى لتغيير هذا الأمر، لأنني لن أكون بوضع أفضل في الخارج، أمضي وقتي على مواقع التواصل أو في العمل أو في التحدث عبر الهاتف مع الأصدقاء وأعرف ما يجري في الخارج من السوشال ميديا ولست مضطرة للخروج أبدا”.
الأزمة الاقتصادية والحجر الصحي بسبب كوفيد-19 كانا عاملين أساسيين في انعزال البعض اجتماعيا
مخاطر صحية
ويجري فريق من الأطباء اللبنانيين دراسة على شريحة واسعة من سكان منطقة بيروت، تهدف إلى تبيان التأثيرات الجسدية والصحية للإصابة بالقلق بشكل عام، بعدما سجل لبنان ارتفاعا كبيرا في معدلاته.
الطبيب اللبناني، أسامة العزير، واحد من العاملين على هذه الدراسة ،التي لا تزال قائمة ولم تنشر نتائجها بعد، يوضح في حديثه لموقع “الحرة” أن القلق “لا يقتصر على التفكير والتوتر وهزة القدم كما يعتقد البعض، وإنما يترك أيضاً آثارا جسدية وتداعيات صحية بأشكال متعددة”.
ويلفت العزير إلى أن القلق الاجتماعي في النهاية هو نوع من أنواع القلق، “له التأثيرات المماثلة للقلق العام، وعوامل فيزيولوجية ترتبط بكون المصابين قد أمضوا فترة طويلة من القلق والتوتر والأرق، فيكون لديهم ضعف فيزيولوجي ونفسي يمنعهم من الخروج، ويجعلهم يوفرون كل ما لديهم من طاقة ومجهود لتوظيفه في مكان واحد، لعدم قدرتهم على توزيعه على عدة جوانب، لا سيما من لديهم أعمال أو دراسة حتى ولو كانوا شبابا”.
وتتنوع تأثيرات القلق النفسي على الجانب الجسدي وفق العزير، “بعض الأشخاص يصابون بألم في معدتهم ومشاكل في جهازهم الهضمي، هناك من يؤدي بهم القلق إلى تشنجات وألم مفاصل وعضلات، هناك أشخاص يصيبهم ارتجافات وهناك حالات ينعكس عليهم القلق على شكل نوبات هلع، فضلا عن كون القلق يلعب بمعظم الهرمونات في الجسم مع ما يعنيه ذلك من تأثيرات متنوعة تختلف من شخص إلى آخر”.
القلق لا يجب أن يكون حالة دائمة لدى الإنسان، وفق العزير، وإنما يجب أن يعمل لفترات ضرورية كلحظات الخطر أو الهروب أو في مشكلة معينة، ثم يحل مكانه وضع الاستراحة والارتخاء، “لكن عند الإصابة بالقلق المزمن فإن هذا النظام يعمل 24 ساعة مستمرة، يصبح الجسم عرضة للأمراض أكثر ومناعيا أضعف، وعمر الدماغ يقصر وتزداد حالات الخرف وإمكانية الإصابة بالزهايمر في الكبر، حتى أن هناك أنواع من السرطانات المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالقلق، فالقلق يؤدي إلى اضطرابات في جهاز المناعة قد تسمح للسرطانات بالتطور”.
وكانت قد أظهرت دراسة أجراها باحثون في جامعة جونز هوبكنز الأميركية، أن العزلة الاجتماعية تساهم في زيادة خطر الإصابة بالخرف لدى كبار السن بنسبة 27 في المئة.
الأطفال.. الأكثر تضررا
يلفت الطبيب اللبناني إلى أن الدراسة بدأت تظهر لهم أن المتضرر الأكبر من هذه العزلة هم الأطفال، “لا سيما وأنهم في مرحلة عمرية يفترض أن يخالطوا المجتمع فيها، ولكن بسبب غياب الإمكانية لذلك يجدون صعوبة في مواجهة المجتمع والتعامل مع من في عمرهم بسبب الضعف في تكوين شخصيتهم”.
وبحسب العزير، الأطفال وضعهم أكثر دقة من الكبار، “فالكبار يعرفون شكل الحياة ما قبل كورونا، ولديهم القدرة والقابلية على التأقلم بشكل أسرع، أما الطفل الذي شهد الجائحة بعمر السنتين أو 3 سنوات، وهو في ريعان فترة المخالطة الاجتماعية، أمضاها في المنزل مع الأشخاص نفسهم وبين الجدران في غرفته، خرج من الأزمة بعمر 5 أو 6 سنوات، لا يعرف التحدث مع الناس بشكل سليم، وهذا أكثر ما لاحظناه خلال عملنا على الدراسة”.
هذا التأثر يظهر بحسب المعالجة النفسية في أشكال مختلفة، “أبرزها الضعف في التركيز، والتراجع في التحصيل العلمي والأكاديمي، كما ترك تأثيرات على مهارات التواصل التي باتت تتسم بالعدوانية، لا سيما وأن الأطفال أمضوا معظم تلك الفترة خلال الجائحة أمام شاشات تترك عليهم نوعا من العصبية والعدوانية وعدم التواصل الجيد والمرن مع الآخرين”.
وتختلف طرق تعبير الأطفال عن هذه المشاكل، فمنهم من يمر بنوبات غضب وصراخ، ومنهم يختبئون أو يتمسكون بأشخاص حولهم، يرفضون الكلام والاستجابة للآخرين فيصابون بحالة جمود وقد ينسحبون من المكان، فيما تنعكس لدى المراهقين على شكل توتر وشعور بالهم قد يدفعهم إما لتحضير خروجهم من المنزل بشكل مبالغ فيه أو يرفضون الخروج بشكل تام، وإن كان حدثا اجتماعيا أو في مدرسة قد يجدون مبررات للتغيب.
ويزداد تأثر الأطفال بالعزلة إذا ما كان الأهل يشجعون بسلوكهم على ذلك، إن من خلال عزل عائلاتهم والتوقف عن الخروج مع أطفالهم إلى المجتمع، أو إذا ما كان الأهل مصابين أيضا بالوسواس ويبالغون في إجراءات حماية أطفالهم بعد الجائحة، ما يترك لدى الأطفال خوفا يدفعهم للبقاء في المنزل وينقل إليهم القلق.
انفجار بيروت.. لحظة صادمة
أدرك علي أنه مصاب بالقلق الاجتماعي، وليس مجرد رغبة عابرة بالانعزال، عقب وقوع انفجار مرفأ بيروت، في الرابع من أغسطس عام 2020، ويقول: “ليس الانفجار بحد ذاته هو ما أصابني وإنما تبعاته، خاصة أننا لم نشهد حدثا كهذا من قبل ولا مشاهد كهذه، كانت الصدمة التي أضيفت إلى كل الصدمات التي سبق أن تلقيناها، لم أعد أتجول في بيروت وباتت بحد ذاته مكانا يذكرني بالصدمات وكل ما عشناه طيلة الفترة الماضية”.
يعود ذلك، وفق المعالجة النفسية، إلى أن الحدث المفاجئ كان نقلة نوعية بالنسبة إلى المجتمع اللبناني، وترى صالح أن “من كان صامدا في كورونا وخلال الأزمة الاقتصادية، جاء انفجار مرفأ بيروت ليرفع من مستوى التوتر لديه بشكل كبير عن معدله السابق، حيث أضاف عوامل جديدة كالخسارة والفقدان والتخلي وانعدام المعنى في الحياة، ليصبح خليطا متشعبا من المشاعر، انفجار بيروت هو أيضا حالة استثنائية بحد ذاتها، لم يقتصر أثرها على دفع الناس أكثر نحو الانعزال، وإنما أدخلتهم في صدمة تجعلهم في تذكر دائم للوجع والفقدان والموت، للدم وللخسارة الآنية المفاجئة”.
كل تلك المعطيات جعلت من مرحلة ما بعد الانفجار نقطة انطلاق بالنسبة للدراسة التي يشارك في إعدادها العزير مع زملائه من الأطباء، إذ يرى أن هذا الحدث كان صدمة عامة، بعكس جائحة كورونا والإغلاق الذي كان صدمة تدريجية، فسكان بيروت ما كانوا يتوقعون بأي طريقة أن يصابوا بذلك، ما رفع من نسب القلق والخوف لديهم بشكل غير طبيعي وباتوا يعيشون أزمة نفسية مترسخة في هوية كل شخص منهم”.
الدراسة التي تتطلب تعبئة استمارات تتضمن أسئلة حول زيارة الأطباء النفسيين، تظهر أن هذه الزيارات زادت بشكل كبير جدا بعد الانفجار، وتكشف ارتفاعا في العوارض المسجلة، كقلة النوم والتغيب عن المدارس، فضلا عن التعب الجسدي والإرهاق والخمول المستمر.
وهذه العوارض الجسدية لا تشير إلى بداية مراحل القلق، بحسب العزير، “وإنما تؤشر إلى قلق مزمن ينعكس فيزيولوجيا، حيث يصبح كل الجسد مشدودا طيلة الوقت، مع عدم قدرة على التوقف عن التفكير ما يستهلك كل طاقة الجسم في التوتر”.
عوارض ما بعد الصدمة.. رحيل عن المدينة
مظهر من مظاهر التوجه إلى العزلة، يتمثل في تزايد إقبال الفئات الشابة على مغادرة المدن، بالأخص العاصمة، بيروت، نحو القرى والمناطق النائية، وقد ساهم انتشار العمل عن بعد في تعزيز هذا الإقبال عبر فك الارتباط الاقتصادي بالمدن.
لم يكن يتخيل عماد شهيب، 33 عاما، أنه سيترك بيروت ويتوجه إلى قرية بعيدة في جبل لبنان، “كنت أنتقد الذين يبنون منازل في قراهم ويعودون للسكن فيها، ما الذي يجدونه هناك؟ وكيف يرفهون عن أنفسهم؟ لكنني اليوم في مكان آخر، غيرتنا السنوات الماضية تماما”.
بالنسبة إلى عماد، فإن حجم الضخ الإعلامي والترويجي للبقاء في المنزل خلال جائحة كورونا، لم يقابله ترويج مساو لكيفية استعادة الحياة الاجتماعية، “قالوا: ‘ابقوا في المنزل’، التزمنا، ولم يقولوا كيف نخرج بعدها، ليس لدي اليوم علاقات اجتماعية لأقوم بتغذيتها، وليس من السهل بناء علاقات جديدة الآن، فمعظم أصدقائي رحلوا عن البلاد، ومن بقي منهم تكفلت الجائحة والأزمة الاقتصادية في ضرب العلاقة معه، وحين بدأنا بالخروج إلى المدينة مجددا انفجرت بنا”.
ويضيف “بعد الانفجار والاشتباكات والأحداث التي شهدتها بيروت، لم أعد أطيق الخروج إلى المدينة أو السكن فيها، ومن أبرز الأسباب لذلك أنني شهدت كل تلك الصدمات فيها واختبرت إلى أي مدى تفتقد حياة المدينة للأمان ويمكن أن تودي بك في أي لحظة لسبب ما”.
بحسب العزير، تظهر الدراسة ارتفاعا كبيرا في تسجيل عوارض ما بعد الصدمة لدى الأشخاص الذين شهدوا انفجار مرفأ بيروت، وما تسبب به من مشاهد دموية، “هناك أشخاص يتجنبون حتى اليوم المرور بقرب المرفأ أو على الطرقات المؤدية إليه أو بمحاذاته، هناك أشخاص يتجنبون المكان الذي كانوا فيه عند وقوع الانفجار، وهناك أشخاص كوّنوا قلقا عاما تجاه المدينة بأكملها التي ما عادوا يشعرون بأنها مكان آمن لهم، ما يزيد من دوافع عزلتهم”.
إحباط واكتئاب وشعور بالذنب
وعلى الرغم من تفضيله للعزلة، لا ينكر علي آثارها السلبية، لا سيما على صعيد الافتقاد للعلاقات الاجتماعية والصداقات، “ولكن ما يعزيني شخصيا أن معظم الناس باتوا كذلك يفضلون المنزل، وبالتالي يفهمون أن الأمور ليست شخصية وإنما حالة عامة، وأنت تفهم أنك لست الوحيد على هذه الحال”.
يعبر علي عن أن أكثر ما يضايقه هو لحظات الشعور بالذنب تجاه كل ما يفوّته في الخارج، “أشعر بتأثير مرور الوقت والتقدم بالعمر، ينتابني حالة من الاكتئاب، وفقدان للمحيط الذي كان يمثل لي في السابق منظومة الدعم النفسي والاجتماعي، وهنا يدور الصراع في داخلك، بين رغبتك في استعادة الحياة التي كنت تعيشها وتحب أسلوبها من قبل، وبين شعورك بالرضا أكثر والاكتفاء في المنزل”.
وفي هذا السياق تحذر صالح من أن العزلة الاجتماعية ستؤدي في النهاية إلى شعور عارم بالإحباط، إضافة إلى الاكتئاب الحاد.
يذكر أن الآثار السلبية للعزلة الاجتماعية لا تقتصر على الجانب النفسي وحسب، فقد أظهرت دراسات عدة تأثيرا صحيا خطيرا للعزلة على الإنسان، من بينها دراسة نشرتها مجلة “جمعية القلب الأميركية”، تحذر من أن العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة مرتبطان بزيادة نسبة الإصابة بأمراض القلب وخطر الإصابة بالسكتة الدماغية.
وذلك لكون قلة التفاعلات الاجتماعية والضغط النفسي المرتبط بالعزلة يمكن أن يؤدي إلى إضافة عبء غير ضروري على الجسم، فالوحدة تسهم في الشعور بالإجهاد المزمن ويصاحبها نقص النشاط البدني بشكل ملحوظ، وهو ما يؤثر على صحة القلب.
كما أشارت الدراسة إلى أن الخطر الأكبر يقع على فئتين: الأولى هي كبار السن الذين يعانون الوحدة بعد التقاعد أو الترمل، والثانية هي فئة الشباب بين سن 18 و25 عاما.
كذلك سبق لدراسة، عام 2017، أجراها باحثون بجامعة “بريغام يونغ” الأميركية، أن أظهرت أن العزلة الاجتماعية أو الوحدة أو عيش الإنسان بمفرده يزيد خطر الوفاة المبكرة، ويعادل أو ربما يتجاوز تأثيرها السلبي عوامل خطر أخرى مثل السمنة. وأثبتت النتائج أن زيادة التواصل الاجتماعي يرتبط مع خفض خطر الوفاة المبكرة بين كبار السن بنسبة 50 في المئة.
ما العمل؟
وفي سبيل تفادي الآثار المدمرة للعزلة، وتجاوز القلق الاجتماعي تقدم المعالجة النفسية سلسلة نصائح يمكن لاعتمادها أن يخفف من حدة المشكلة:
الخروج للمشي، حتى ولم يكن الأمر مستحبا في البداية، يجب دفع النفس إلى ذلك، أقله في أوقات تكون أقل ازدحاما بالناس، فالمشي يساعد الدورة الدموية والهورمونات على العمل بطريقة صحيحة.
التعرض لضوء الشمس والجلوس في الخارج خلال النهار، يساعد ذلك كثيرا في استعادة النشاط البدني والعاطفي.
البدء باستعادة النشاط والإنتاجية من داخل المنزل، كالقيام بأنشطة رياضية أو القراءة أو الطبخ وعدم الاعتماد على أحد بهذه النشاطات، ستكون تلك بداية مفيدة جدا.
البدء باستعادة العلاقات الاجتماعية مع العائلة، فالعلاج الأساسي هو العائلة القريبة وصلة الرحم والأقارب، يمكن البدء في الانخراط بالجمعات والتحدث معهم، وهذه خطوة مهمة جدا.
وأهم نصيحة في هذا السياق، التوجه إلى معالج نفسي واستشارته وسؤاله حول ما يعانونه من قلق أو هواجس أو مشاعر، وإن كانت هناك صعوبة في الخروج للتوجه إلى معالج نفسي بشكل منتظم، بالإمكان اليوم إجراء جلسات “أونلاين” عن بعد، يمكنها أن تساعد بشكل كبير، المهم استشارة أحد والتحدث إليه.
من شأن تلك الخطوات البسيطة، كبداية، أن تساهم في كسر روتين العزلة شيئا فشيئا، كما من شأنها أن تنقل الشخص من حالة اجتماعية إلى أخرى بسلاسة من خلال الانخراط مع الآخرين وتوسيع الدائرة المحيطة تدريجيا وصولا إلى استعادة الحياة الاجتماعية المفقودة.
حسين طليس – الحرة